هشام محمد / Mar 10, 2005

مدخل:
ـ 1 ـ

تحكي أسطورة سومرية أن إلهة الجنس والجمال انانا (عشتار البابلية) نزلت في بستان فلاح اسمه شوكا ليتودا من أجل أن تستريح تحت ظلال شجرة وارفة. انتهز الفلاح ما وجد عليه انانا من نصب بعد جولتها السماوية، فواقعها دون أن تشعر بشيء من شدة التعب. في اليوم التالي علمت انانا ما حل بها، فأصابها غضب شديد، وقررت أن تنزل عقابها على الفلاح الذي لاذ بالفرار.
فلما صار الصبح وأشرقت الشمس
تلفتت انانا حولها خائفة
تلفتت انانا حولها فزعة
فانظر الأذى الذي أوقعته الفتاة من أجل فرجها
انانا من أجل فرجها ماذا فعلت
لقد ملئت جميع أبار البلاد بالدم
ففاضت كل الغابات والبساتين بالدم
من أجل فرد واحد أنزلت انانا الدمار بالبلاد. من أجل فرد واحد فقط عجزت انانا عن الإمساك به بعد أن ذاب وسط زحام الناس، ترسل انانا الكارثة تلو الأخرى على بلاد سومر، فتملى الآبار بالدم، ثم تطلق الرياح والعواصف العاتية.

 

ـ 2 ـ  
ايرا إله الطاعون البابلي استمرأ الخلود للراحة مما أغضب أتباعه من الآلهة الذين بدأ الصدأ يزحف على أسلحتهم والعناكب تنسج بيتها فوق عتادهم. نجح الآلهة في شحن قلب ايرا ضد الإنسان وكل مظاهر الحياة.
انهض وسر قدماً يا ايرا
أيها المتسكع في أرجاء المدينة كعجوز مريض
أيها الزاحف في البيت كطفل هرم
لقد بتنا نأكل طعام النساء، كمن لا يركب السهل ابدأ
حتى مردوخ العظيم سيد البشر والآلهة كان أضعف من أن يمنع ايرا من إلحاق الدمار بالبشر
افتح لي الطريق (يقصد مردوخ) لأسير على الدرب
فقد فات الوقت وانقضى الميعاد
أعاهدكم على أن أحطم شعاع الشمس
واحجب وجه القمر في منتصف الليل
وسأقول (لأدد) أوقف ينابيع بئرك
واطرد الغيوم وأوقف الجليد والمطر
يمضي ايرا بعزم لا ينال منه محاولات وزيره الطيب (ايشوم) لامتصاص ثورته العارمة، فيدمر بابل ويقضي على سكانها، ثم يتوجه إلى مدينة ايريك المخصصة للبغايا المقدسات والغلمان المخصيين فيلحقها بسابقتها.
سأظهر مزيداً من الفتك والانتقام
فأستلب روح الابن
ويدفنه أبوه ثم استلب روح الأب
ولا يجد أحداً ليدفنه
أخيراً تنجح مساعي الوزير ايشوم في إطفاء نار ايرا، واحتواء ثورته المنفلتة، ليبقى ايرا على من تبقى وليكف يده عنهم.

 

ـ 3 ـ
تروي أسطورة الطوفان السومرية أن الناس الذين خلقتهم الآلهة لتحمل مشقة العمل قد تكاثروا في الأرض، وزاد ضجيجهم لدرجة أن الآلهة في الأعالي ما عادت تقدر على النوم والاستمتاع بالراحة. لهذا قرر انليل إله الهواء العظيم أن يتخلص من إزعاج البشر بإرسال
طوفان لا يبق منهم أحداً ولا يذر. لكن انكي ـ إله الحكمة والماء العذاب والقريب دوماً من البشر ـ بعدما فشل في إثناء انليل وباقي الآلهة الغاضبة عن قرارهم القاسي، قام بإفشاء السر إلى زيوسدرا الحكيم البابلي.
إنا مرسلون طوفاناً من المطر..
فيقضي على بني الإنسان..
ذلك حكم وقضاء من مجمع الآلهة
أمر آنوا انليل
نصح انكي زيوسدرا بالإسراع ببناء سفينة، وأن يشحنها بالزاد والحيوانات وبعض البشر. وفي اليوم الموعود سالت المياه من فوق، وتفجرت الينابيع والسدود في الأرض
هبت العاصفة كلها دفعة واحدة
وعها انداحت سيول الطوفان فوق الأرض
ولسبعة أيام وليال
غمرت سيول الأمطار وجه الأرض

المكانة الدينية للأسطورة:
قد تكون هذه الأساطير ـ في جزء منها ـ محاولات مبكرة لرصد التاريخ، وتوثيق لأحداث مرت بها الإنسانية خاصة تلك التي وقعت في أزمنة سحيقة قبل اختراع الكتابة. غير أن هناك ميلاً عاماً إلى أن الأساطير استمدت حضورها وألقها من خلال احتكاك الإنسان القديم بعناصر الطبيعة والمظاهر الكونية العجيبة. فكأنها ـ أي الأسطورة ـ إرهاصات العقل البشري في الإجابة على تساؤلاته الملحة، أو ربما كانت عزاءً منحته بعض الشيء من التطمينات النفسية، بعدما فشل أسلافه في ترويض الظواهر الطبيعة، وتدجينها لخدمة أغراض البشر بواسطة السحر. وفي هذا الصدد يعلق الدكتور فاضل علي بقوله: "من المعروف أن الليل بظلامه الدامس وقمره المضيء ونجومه المتلألئة والنهار بشمسه ودفئه والطقس بما فيه من مطر وجفاف ورعد وبرق.. كل ذلك وغيره من ظواهر الطبيعة كان بمثابة تحديات غامضة حفزت الإنسان على التأمل والتفكير فيها ثم التعبير عنها في قصة من إبداع خياله نسميها نحن أسطورة."
لقد توصل العقل البشري بعدما اخفق في تطويع الطبيعة، أو على الأقل فك شفراتها إلى قناعة بأن وراء ظواهر الطبيعة تتوارى قوى إلهية خارقة تسيطر عليها وتوجهها كما تريد. من هنا اندفع الإنسان إلى تأليه المظاهر الكونية، من الشمس والقمر، والجدب والمطر، والبرق والرعد، والزرع والقحط. كل ظاهرة أوكل إليها
إلهاً، فتقرب إليه بالدعاء والصلاة والقرابين، ابتغاء مرضاته وعطفه، واتقاء عذاباته وسخطه. غير أنه بمرور الزمن، وبتراكم الخبرات الإنسانية والمعرفية، أخذت الأسطورة تفقد تدريجياً جزء من مكتسباتها ومكانتها الدينية والثقافية أمام تزايد الفتوحات العلمية. لقد كان العلم والفلسفة جسراً للعبور من نفق الأسطورة المظلم والمملوء بالأسرار الغامضة وبالآلهة الخالدة إلى فضاء المعرفة اللامتناهي.
لكن هل سارت كل شعوب الأرض، بتكويناتها الإثنية والقومية والدينية والثقافية، بنفس السرعة وفي نفس الاتجاه؟ الإجابة بالتأكيد لا! إذ ليس من المعقول مساواة منجزات الشعب الأمريكي وإسهاماته الحضارية، رغم قصر تجربته بأحد الشعوب الأفريقية، رغم عراقة تجربتها، مثلاً. ولكن ماذا عن العالم العربي، أو لنقل الإسلامي تحرياً للدقة؟ يصف الدكتور شاكر النابلسي العقل المسلم بأنه لم يزل في طوره الانفعالي والغريزي، وهما أولى الأطوار البدائية للعقل البشري. فالعقل العربي / المسلم مازال
ـ كما يصفه النابلسي ـ بعيداً عن طور الدماغ المعرفي، ولعل هذا ما يبرر جنوحه إلى الانفعالية السياسية لا العقلانية السياسية في التعاطي مع قضاياه الوطنية أو القومية. وهو إلى جانب ذلك، عقل غيبي، ظلامي، عاطفي، نرجسي، ومتواكل.. ينبذ العلم والتقنية لحساب الخرافة والجهل، ويهيم بعبادة الفرد الواحد الأحد / القائد / الأب / المهيب.. الخ.

بعل مازال حياً:
لنعد إلى نقطة البداية، وتحديداً إلى بدايات ظهور الإسلام في الجزيرة العربية. إن الإسلام ـ كشأن أي ديانة وافدة أو أيدلوجية صاعدة ـ يعد في ظاهره انقلاباً على موروثات المنطقة التاريخية، وانسلاخاً من الممارسات الدينية والتعبدية، وتقويضاً للأنماط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة. إلا أنه في المقابل من المستبعد أن تنشأ هذه الديانة الجديدة بمعزل عن المؤثرات البيئية الغائرة في أعماق الذاكرة الجمعية، والمتجلية في سلوكيات وعادات الناس، أو أن يستلهم مفرداته وعناصر البناء من خارج المحيط الذي يتوجه إليه بالخطاب. ولهذا نجد أن الإسلام امتص في نسيجه جزءاً كبيراً من الأفكار والعادات والممارسات الدينية الوثنية واليهودية على وجه التحديد بعد أن أضفى عليها نكهته الخاصة. ولك أن تتأمل طقوس الحج العجيبة مثل الطواف والسعي واستلام الحجر الأسود والاجتماع بعرفة. فالإسلام أو النبي محمد لم يسقطها، بل أبقى عليها دون أن ينسى إدخال بعض التعديلات الشكلية مع الاحتفاظ بسلامة جوهرها الوثني، وإن كان غائباً عن وعي المسلم الذي يزور مكة من أجل الحج أو العمرة.
لا يعيب الإسلام أن يستعير النماذج التقليدية للأديان السالفة، إذ أن الأديان السامية كثيراً ما كانت تتبادل أو تتوارث إن شئت ميثولوجياتها وطقوسها وآلهتها ورموزها، والإسلام لا يشكل استثناءً من هذه القاعدة. ولا عجب أن النبي محمد لو دعا العرب إلى إله آخر من بنات أفكاره ونسج خياله لما استجاب لدعوته أحد، فالعرب لم يكونوا يجهلون الله أو ما كان يسمى في بلاد الشام بالإله إيل وفي جنوب الجزيرة بالإله سين أو إل وهي كلها أسماء لإله القمر. لكن ما يعيب الإسلام أو من يخرجون من عباءته هو مشاكسته للأديان القديمة، وتسفيهها، والأدهى من ذلك الإصرار على نسخها بالكامل دون أن يعي أنه مدين لها بالفضل، وأن بقاياها تسري في داخله، وأنه لولاها لما كانت له قائمة.
لكن السؤال..
هل ساهم الإسلام في تعزيز "ثقافة الغيب" والانتصار للقوى الغامضة المجهولة كما فعلت الأسطورة قديماً؟
إن من يستعرض ردود الفعل "التلقائية" التي انطلقت من قلب العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه، بعيد حدوث أحد أسوء الكوارث الطبيعية، أو ما يعرف بإعصار" تسونامي" الذي ضرب جنوب شرق آسيا، يتبين له أن هذا العقل مازال يتعاطى مع تلك الظواهر بنفس الأسلوب الذي شب عليه أسلافه
الغابرون. إن إيعاز مثل تلك الكارثة الهائلة إلى غضب الله فحسب، لا يفصح فقط عما يكنه هذا العقل الغريزي ـ سواء أكان منتمياً لحركات الإسلام السياسي أو محسوباً على الشارع ـ من حقد وكراهية عمياء للآخر حتى وإن كان هناك الآلاف من المسلمين ممن قضوا، بل يكشف أن إنسان هذا الدين مازال يتصرف كإنسان الأديان الطفولية. كلاهما يتجهان إلى الإكثار من الدعاء والصلاة، وربما تقديم القرابين لإطفاء غضب القوة الغيبية، أو لاستدرار عطفها. وكلاهما ينصرفان إلى (المسبب) الذي هو غالباً قوة غيبية لا إلى (السبب والنتائج). وهذا ما يوصف بالفكر الميثوبي، أي الفكر الأسطوري الذي ينحى في تفسير الشيء منحىً أسطوريا. فاحتباس المطر وحلول الجدب ـ مثلاً ـ لا يعزى لظروف وتقلبات مناخية ولكن لموت سائق الغيوم، الإله بعل.

ما الذي تغير إذاً؟
إذا كان العقل الوثني القديم قد ابتدع لكل ظاهرة طبيعية إلهاً ثم سجد له.. فذاك إله الغيم، وهذا إله النهر، وآخر إله العالم السفلي، فإن العقل المسلم ـ بنزعته التوحيدية ـ قد صب كل الآلهة في إله واحد مركزي لا يشاركه ولا يضاهيه أحد.. فهو الودود والمتكبر، الرحمن والمتجبر، الغفور والمهيمن، وهو القابض والباسط، وهو المبتدأ والمنتهى، وإليه وحده ترجع الأمور. والعقل المسلم عندما ينصرف بغريزته إلى المسبب أو القوى الغيبية فهو يصيغ تفسيرات لا تكاد تخرج عن أربع احتمالات لأقدار السماء وترتبها:

1 ـ إن مسهم الضر من قحط وأمراض وبلاء، فهذا لأنّ الله إما أن يمتحن قدرة عباده على الصبر أو لأنهم قد فرطوا بدينهم فحق عليهم عذاب. (من التفسيرات الشعبية، هنا في السعودية، إبان الحرب الأهلية اللبنانية أن أهل البلاد قد أفسدوا في الأرض بتبذيرهم وخلاعتهم وتيسيرهم لشرب الخمر فسلط الله عليهم العذاب)
2 ـ إن نالهم من الحظ والخير نصيب، فهذا لأنّ الله إما أن يكون راض عن عباده أو أنه يريد أن يختبر كيف يتصرف عباده بما أغدق عليهم من عطاء ووضع في أيديهم من خير. ( النفط في السعودية هو منحة إلهية تثميناً لتمسك الشعب بكتاب الله وسنة نبيه المطهرة. في الحقيقة، لا أعرف في أي خانة نضع نفط النرويج وفنزويلا والمكسيك، وهي دول لا تعرف كتاب الله وسنة نبيه!)
3 ـ إن نزلت بالبلاد غير الإسلامية نازلة، فهذا لأنّ الله غاضب على الكفرة لعصيانهم وارتكابهم الموبقات وانصرافهم عن عبادته، أو لإشغالهم في أنفسهم نظير ما يفعلونه بالمسلمين الموحدين (الايدز، وموجات الحر، والفيضانات، والزلازل كلها ضربات وعذاب من الله)
4 ـ إن أصاب تلك البلاد غير الإسلامية خير من ازدهار اقتصادي واستقرار سياسي وتفوق تقني، فهذا لأنّ الله يريد أن يمتعهم في الدنيا قبل أن يعذبهم في الآخرة (الأمطار الدائمة والطبيعة الخضراء الخلابة هي جنتهم الدنيوية قصيرة الأمد)

قد يقول قائل: إن الدين بريء من تكريس النزعات الغيبية، وغير مسئول عما يعشعش في عقل المسلم من ظلامية. وأن ما أصاب العقل هو من جراء استبداد النظم السياسية، وتواطئها مع التيارات الفقهية السلفية في قمع الحركات العقلانية والتنويرية، من أجل الإفساح لنشر مبادئ الجبرية والتسليم بقضاء الله والامتثال لمشيئته. بالرغم من رصانة هذا التبرير إلا أنه يتجاهل ما يحمله جوهر الدين من منطلقات أساسية توفر مرتكزات شرعية لتأصيل مثل تلك الأفكار الظلامية. ألا ترى أن إحالة كل ما يمس الإنسان من خير أو شر إلى مشيئة الله وتدبيره يعد مقياساً دقيقاً لقوة الإسلام. ألا ترى أن إسلام المرء لا يكتمل إذا لم يؤمن طوعاً أو كراهةً باليوم الآخر والقدر خيره وشره والملائكة، وهي جميعاً لا تنتمي إلى عالم المحسوس. ثم لماذا نذهب بعيداً، والإسلام يستمد اسمه من التسليم والانقياد إلى الله؟

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط