هشام محمد / Jul 05, 2004

عبيد الله المهدي أو سعيد الخير، فاصلة تاريخية تنتهي عنده آخر فصول الأئمة المستورين، وتبتدئ معه صباحات الدولة الفاطمية. هو إمام مستودع، أي إمام وكيل وليس أصلي عند الإسماعيليين المستعليين (نسبة إلى المستعلي بن المستنصر بالله الفاطمي)، وهو إمام مستقر، أي إمام أصيل عند الإسماعيليين النزاريين (نسبة إلى نزار بن المستنصر بالله الفاطمي). ومهما كانت صفته، يبقى المهدي أحد الرجالات التي شاركت في كتابة تاريخ ورسم جغرافيا الكيانات السياسية في أواخر القرن الثالث الهجري.

قضى نصف العمر في مدينة السلمية السورية الغافية بهدوء على صدر الصحراء يصدر الأوامر، ويوجه الدعاة، ويحترف الانتظار. وفي يوم ما جاءته الأنباء العاجلة تستحثه على الفرار بأقصى سرعة فخيول القرامطة تنهب رمال الصحراء رافعة شعار الموت. تسلل المهدي مع بعض أهله وخادمه الأمين جعفر الحاجب تحت غطاء الليل البهيم. لم يعد هناك متسع من الزمن للبقاء، ولتكن الوجهة إلى بلاد المغرب. خصومه صاروا أكثر من الذباب، فالقرامطة سيجدون في البحث عنه بعد أن ينتهوا من ذبح المدينة من الوريد إلى الوريد تشفياً وانتقاماً، وعيون بني العباس تفتش في وجوه العابرين عن ذلك الإسماعيلي المارق. طريق محفوفة بالتحديات والأهوال، سار فيها قبله عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) فاراً بآخر الأحلام الأموية، فهل سينجح المهدي كما صنع صقر قريش أم ستسقطه سيوف خصومه المتعطشة لدمه قبل أن يدلف من بوابة المغرب؟ من هو المهدي؟ لماذا تقاطعت مصالح القرامطة والعباسيين في التخلص منه؟ ولماذا اختار بلاد المغرب بالذات؟ لنعد معاً إلى السلمية إذن.. إلى أصل الحكاية.

يلف سياج الصمت المدينة الوادعة الصغيرة البعيدة عن الأنظار العباسية التي ما انفكت ترصد تحركات خصومها السياسيين من الشيعة وتخمد أنفاس ثوراتهم تباعاً. هبط عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق تلك المدينة البسيطة القريبة من مدينة حماه تحت اسم عبد الله بن ميمون القداح (من القداحة أي تطبيب العيون) إمعاناً في التخفي. شرع محمد أو ميمون في تحويل السلمية إلى منارة لإشعاع الفكر الإسماعيلي ومد أذرعته إلى أركان العالم الإسلامي. نجح في زمن قياسي في كسب الكثير والكثير من الأتباع الناقمين على سياسات الخلافة في بغداد، بشرهم بمجيء المهدي المخلص الذي سيحيي مبادئ العدالة والمساواة والاشتراكية، وضع أصول ومراتب المذهب الإسماعيلي، وسيّر الدعاة المتخفين في صور تجار إلى بلدان شتى لنثر بذور الأفكار الإسماعيلية. خلفه أبنه أحمد صاحب رسائل أخوان الصفا وخلان الوفاء، ومن بعده جاء الحسين بن أحمد وعلي بن الحسين، وجميعهم ساهموا في إثراء الفكر الإسماعيلي وتعميقه في نفوس الناس. دانت القيادة إلى عبيد الله المهدي، فمضى يدير الأمور ويسيرها بكل همة ونشاط بانتظار ساعة الصفر لإعلان الثورة الكبرى على الخلافة العباسية إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان.

الانقلاب
القرامطة هم إسماعيليون لحماً ودماً، شربوا من معين السلمية الفلسفي، ائتمروا بأوامرها وانتهوا بنواهيها، وتمركزوا بكثافة في أهواز العراق والخليج. لم يختاروا التسمية، فقد ألصقها بهم خصومهم من بني العباس في سياق الحرب الدعائية المتبادلة. لا يعرف على وجه التحديد سبب التسمية، قيل أنها لقب أطلق على الثائر الإسماعيلي حمدان بن الأشعث لكونه "يقرمط" في مشيه، أي يقارب بين خطواته، وقيل أيضاً أنها كلمة مشتقة من الآرامية "قرمطونا" أي الخبيث والمحتال الماكر.
لم يطق القرامطة الانتظار، فقد غزت التجاعيد جسد الخلافة العباسية وأصابها الهزال،
فلِما الانتظار العقيم لإشارة الانطلاقة من السلمية؟ حفلت دفاتر التاريخ بذكريات أليمة سالت فيها دماء غزيرة بين القرامطة والسلطة في بغداد. اعتبرت القيادة في السلمية أن البدء بالقتال كان تسرعاً غير محمود، فعود الإسماعيلية مازال طرياً بعد وقوة بني العباس لم تضمحل حتى الآن. كانت انتفاضة القرامطة ثقباً ما وشك أن اتسع في جدار الدعوة الإسماعيلية. شاءت الظروف أيضاً أن تقع في صفوف القيادة القطرية لحركة القرامطة سلسلة من عمليات التصفية الجسدية كان بطلها زكرويه بن مهرويه الذي لم يكنّ أي ود للقيادة العليا في السلمية. وجاءت أخبار غير مؤكدة لتصب الزيت على النار حيث ألمحت إلى أن عبيد الله المهدي قد أعلن أنه هو الإمام المنتظر. إعلان غير متوقع ما لبث أن قوبل برفض من معظم دعاة الإسماعيلية وخاصة زكرويه الذي التقط هذا الخبر كمسوغ للانقلاب على السلمية وتنصيب نفسه قائداً أعلى للإسماعيلية.
فجأة وبلا مقدمات منطقية ولأسباب غير معلومة، اختار زكرويه الانسحاب من مسرح الأحداث والانعزال في أحد الكهوف بعد أن سلم زمام الأمر إلى ولده يحيى. لم يكن يحيى الابن بأقل شرهاً للسلطة ولا بأقل وحشية من والده، فقد سار بجيشه باتجاه السلمية مدمراً في طريقه كلا من المعرة وحماه. خشي المهدي أن تمزقه طاحونة الموت القرمطي التي لا تأتي على شيء حتى تحيله إلى رماد، حمل معه ولي عهده الشاب "القائم بأمر الله" وزوجته وأولاده وبعض خدمه، وسار باتجاه فلسطين في طريقه إلى بلاد المغرب لا يلتفت
وراءه إلى الموت الذي يطارده فاغراً فاه ولا يرتد عن الارتماء في أحضان المخاطر التي تنتظره في طريقه الطويل.

السير على حد السيف
طوق القرامطة السلمية، فاستبسل أهلها في الذب عنها، أرسل إليهم زكرويه أنه جاء مهادناً لا غازياً، انطلت الخدعة على حماة المدينة، ففتحوا له أبواب المدينة، فسالت جموع القرامطة تقتل وتدمر وتحرق بلا رحمة وتمييز، لم يتركوا
حجراً على حجر، ذبحوا كل من في المدينة من حيوان وطير وبشر. أخرج زكرويه من بقي في قصر المهدي من أهله، قيل أن عددهم بلغ 83 نفساً، سلمهم إلى سيافه، فقطع رؤوسهم عن أجسادهم، ثم رمى بهم في بئر قريبة. ثم عرج بجنده إلى قصر آخر تستوطنه أسرة من بني العباس منذ زمن بعيد، فأبادهم عن بكرة أبيهم، وقيل أن عددهم قارب 60 نفساً. لم تروِ حمامات الدم المجنونة ظمأ زكرويه، فليس لحظتها ما هو أثمن من رأس المهدي. أنبأته الأخبار أن المهدي قد حط رحاله في مدينة الرملة الفلسطينية، فكتب إليه يستميله ويشجعه على العودة إلى السلمية لكي يبايعه بالزعامة ويسلم له مقاليد الأمور.
نزل المهدي ضيفاً على أبى الكوثر أحد الدعاة المخلصين في الرملة الفلسطينية، أوصاه أبو الكوثر بالتريث بعض الوقت حتى ينقشع الغبار. كان المهدي يشعر بقلق مما قد يصنعه القرامطة فيما لو لحقوا به رغم إحاطة الزيارة بالكتمان. ظل يترقب بتلهف ما ستحمله الأيام من مفاجآت إلى أن جاءته الأخبار الحزينة من السلمية التي أصبحت أثراً بعد عين. لم يكد المهدي
يفيق من هول المصاب وإذ برسول يحيى بن زكرويه يقبل الأرض بين يديه ويناوله الكتاب. عض المهدي على جراحاته الراعفة وأشار بالموافقة على الحضور ولكن بعد اكتمال شفاء زوجته. انصرف الرسول يزف الخبر لمولاه فيما كان المهدي وأهله يغادرون الرملة صوب مصر على وجه السرعة.

الشمس تشرق غرباً
انحدر المهدي بأهله قاصداً الأراضي المصرية بعد أن أفلت من الفخ القرمطي، جمر الأسئلة يشتعل في رأسه وسحابة زرقاء حزينة
لمقاتِلِ أهله في السلمية بامتداد الأفق ترافق خطواته المتعبة.. ماذا لو أمسك به جند والي مصر العباسي؟ هل ستتدخل الأقدار لتحميه للمرة الأخرى؟ تذكر الأخبار أن جند الوالي العباسي أمسكوا به متخفياً في ثياب تاجر فارسي، لكن الوالي خرج ليعلن ـ ويا للمفاجأة ـ أنه ليس هو المهدي المطلوب رأسه، بل وطلب من الحرس مرافقته إلى برقة الليبية!. لا يعرف على وجه الدقة ما الذي جرى بين الاثنين عندما دار بينهما حوار خاص، قيل أن الوالي واسمه محمد بن سليمان قد قبض رشوة من المهدي ليخلي سبيله، وقيل كذلك أنه كان يضمر الولاء للإسماعيليين فأنكر أنه المقصود.
في تلك الغضون، كانت ثمرة العمل الدؤوب لأبي عبد الله الشيعي الداعي الإسماعيلي الذي احتضنته قبيلة كتامة المغربية قد أينعت وحان قطافها. لقد قضى أبو عبد الله الشيعي سنوات يصل الليل بالنهار لنشر الفكر الإسماعيلي في الفضاء الأفريقي مستغلاً نقمة القبائل على الأمراء وبؤس أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وتطلعهم إلى مخلص ينتزعهم من القاع. اجتذب أبو عبد الله الكثير من الأتباع، فمضى كالإعصار يطيح بالدول الكرتونية التي بدأت بالتساقط كأوراق الخريف. في غمضة عين تلاشت دولة الأغالبة بعد أن فر آخر حكامها زيادة الله ابن الأغلب، ولحقتها الدولة الرستمية الأباضية التي سرعان ما شربتها رمال الصحراء، وبقي الدور على دولتي بني مدرار والأدارسة.
بينما كان أبو عبد الله الشيعي يتابع انتصاراته الباهرة كان المهدي يتجاوز الصحراء الليبية بأسرته ليقع مرة أخرى في قبضة الأمير أليسع بن مدرار في سجلماسة. أمسك أليسع بالمهدي كورقة استراتيجية قد تقلب موازين الصراع رأساً على عقب، سمع أبو عبد الله الشيعي بما حل بسيده، فتظاهر بعدم الاكتراث وظل منكباً على فتوحاته، خشي أن يلجأ أليسع لقتل المهدي لو أبان عن مخاوفه. تسرب الشك إلى أليسع، تساءل بينه وبين نفسه: إذا كان هو المهدي حقاً فلماذا سلك هذه الطريق ولم يعرج على الأراضي التي يسيطر عليها صاحبه؟ ثم لو كان هو المهدي فلماذا لم ينتفض صاحبه لتخليصه من سجنه؟ بقي السؤال معلقاً بلا إجابة، وبقي المهدي قابعاً في السجن يستضيء بآمال تزداد توقداً كلما توالت انتصارات أبو عبد الله الشيعي. اقتربت حشود الداعي الشيعي من سجلماسة، نادى أميرها بالاستسلام، أدرك الأخير أن لا طاقة له في صد الطوفان البشري، فانسل بخفية مع أفراد عائلته وخاصته تحت ستار الليل تاركاً المدينة لقمة سائغة لمحاصريها. ابتلعت بوابات المدينة حشود المنتصرين، تدفقوا في شرايين المدينة حاملين أناشيد النصر، فتحوا أبواب السجن من فورهم، أخرج أبو عبد الله سيده المهدي في جو تلونه الأغاني والأفراح، أركبه على حصانه، وزفه إلى الناس قائلاً: هذا هو المهدي الذي بشرتكم به

*****************

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط