بسام درويش / Sep 14, 2001

أصبحت كاميرات المراقبة في المحلات التجارية والشركات، في هذا البلد وبلدان أخرى كثيرة، أمراً عادياً يتقبله الناس والموظفون على السواء طالما أنه يُعلَنُ لهم عن وجودها وطالما أنها لا توضع في أماكن معينة يفترض أنها خاصة جداً لا يجوز للغير انتهاك حرمتها. لهذه الكاميرات دون شك فوائد للشركات والموظفين والزبائن على السواء. ربما يشعر الموظفون أنهم مقيدون إلى حد ما وهم تحت مراقبة دائمة، ولكن حين حدوث مشكلة أو أي أمر يحتاج الموظف إلى إثبات صدقه فإنه آنذاك يعرف بأن الشعور بالضيق لوجوده تحت المراقبة هو أفضل بكثير من شعوره بالضيق لعدم تمكنه من إثبات صدقه أو براءته من أمر من الأمور. ونظراً لما يكلفه شراء هذه الكاميرات ونصبها وصيانتها واستعمالها المستمر، فإن بعض الشركات والمحلات تضع كاميرات مزيفة تفي أحياناً وإلى حد ما بالغرض. ونظراً لشيوع استعمال الكاميرات، حقيقية أو مزيفة، فقد أصبح الناس يحسبون لها حساباً، ومن ثمّ يتصرفون وكأنها موجودة. وبعبارة أخرى، أصبح الناس يُخضِعون أنفسهم لما يمكن أن ندعوه برقابة ذاتية لا شكّ في أنها تتبلور مع مرور الزمن لتصبح سلوكاً أخلاقياً يميل إلى التقيد بالقوانين دون خوف من كاميراتٍ مراقِبة ورادعة.

********

كتب لي صديق منذ مدة يقول لي أنه معجب بالناقد وما تحويه من مقالات تعبّر تماماً عما في قلبه وقلوب كل الذين يعرفهم ممن اطّلعوا عليها. قال لي أنه قام بإرسال عنوانها إلى كل أصدقائه ومعارفه في الولايات المتحدة وخارجها، ولكنه استدرك فقال، إلا سورية بالطبع!.. قال، إن المراقبة شديدة في سورية وأن الناس لا زالوا يخافون من الحكم رغم كل الدعايات التي تطلقها أجهزته والقائلة بأن العهد الجديد للرئيس بشّار الأسد يقوم بتنفيذ وعوده بإطلاق الحرية الأسيرة من سجنها التي كانت تقبع فيه (ولا زالت) على مدى ثلاثة قرون من الزمن. ولذلك، فإن الصديق يخشى أن لا يقدم أحد من معارفه في سورية على الاطلاع على "الناقد" خوفاً من الحكومة، كما يخشى بالتالي أن يسبب لهؤلاء المعارف الأذى بإرساله العنوان لهم!

لم تكن المرة الأولى التي أسمع بها عن خوف الناس في سورية من الاطلاع على صفحات مناوئة للأوضاع السائدة هناك. لقد ذكر لي صديق آخر عاد من سورية بعد زيارة قصيرة بأنه أعطى عنوان "الناقد" لقلة من أقربائه الذين أنعم الله عليهم بنعمة الانترنيت فلم يقبل واحد منهم بالدخول إليها. كان جواب الجميع متشابهاَ وهو أن أحداً منهم لا يريد "وجع الرأس مع الحكومة" ولا يريد أن يضيّع هذه النعمة التي هو سعيد بها.

********

ليس لدي أية فكرة عن عدد أفراد المراقبين من المخابرات الذين ستضطر الحكومة إلى استخدامهم لمراقبة كل الذين يستعملون الإنترنيت ولكني أجزم بأنه لا بد وأن يكون عدداً هائلاً جداً. فالناقد ليست إلا موقعاً صغيراً جديداً من بين مئات وربما آلاف المواقع التي لا تناسب نظام الحكم في سورية "وثورته المعلوماتية". ومن ناحية أخرى، فإني لا أعتقد أن درجة سخافة الحكم أو إمكانيته ستصل به إلى تعيين مراقبين لمعرفة كل صفحة يقوم سوري بالاطّلاع عليها. ربما يقوم الحكم بحجب بعض المواقع التي لا تناسبه فلا يستطيع الناس من الاطلاع عليها كما تفعل السعودية وغيرها من الدول التي تخشى الكلمة، ولكن أن يراقب كل فرد من الأفراد والمواقع التي يدخلها فهذا ضرب من المستحيل، اللهم إلا إذا كان هناك أشخاص معينون تخشاهم الحكومة فتفرض على نشاطهم مراقبة دائمة.

 

الشعب في سورية تعوّد على الرعب. والرعب هو الكاميرات بنوعيها: الحقيقية المتمثلة بعيون رجال المخابرات، والمزيفة المتمثلة بشبح هؤلاء الرجال وصور المعتقلات. لكن ورغم أن الشعب يعرف تماماً أن عدد رجال المخابرات مهما عظم فإنه لا يكفي لمعرفة كل ما يجري في داخل كل بيت، ورغم معرفته بأن المعتقلات لن تتسع لكل الناس الذي يكرهون الحكم، فإنه يتعامل مع النظام ليس بحذر، بل بقناعة تامة أنه لا يجوز أن يفعل ما لا يجوز!..

 

ثلاثون عاماً على وجود هذه "الكاميرات" الرهيبة أدّت بالشعب المعتّر إلى تكوين "رقابة ذاتية" تحوّلت إلى سلوك يقبل بأيديولوجية الحكم على أنها أخلاق يجب العمل بها. وهكذا، فلو شاء الحكم أن يسـرّح رجال مخابراته ويلغي كل "كاميراته" فإنه لن يخشى على نفسه شيئاً، لأنه قد خلق مع مرور الزمن جيلاً من الماشية يكفيه صوت جرس صغير معلق على رقبة كلب ليحوّل وجهة سيره من اليمين إلى الشمال أو العكس. ولوجه العدل يجب أن نقول، أن هذا ليس حال الشعب السوري فقط بل هو حال كل الشعوب التي ترزح تحت كل الأنظمة الشبيهة الأخرى.  

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط