محمود كرم / Aug 03, 2008

الجمال الإنساني في كل مراحله وتاريخه ومستوياته وتحولاته وتطوراته، وفي أروع إبداعاته وتعبيراته وتجلياته الفنية والأدبية والفكرية، إنما يعبّر دائماً عن مكوناته ومكنوناته العميقة في مناخاتٍ تتخلق بالحرية الكاملة، والحرية أساساً تجيد التحليق والتمدد في فضاءاتها البعيدة والرحبة والفسيحة، لكونها في الأساس صانعة ودافعة وحاضنة للجمال الإنساني في مختلف تنوعاته وفنونه ومواقفه وتلويحاته الإبداعية، فالجمال هو المعادل الموضوعي للحرية، والحرية هي المعادل الموضوعي للجمال، والجمال أصل الحرية، والحرية مسعىً أصيل في تمثلات الفضاء الجمالي والإبداعي، وأي قيد أو وصاية أو تعدٍ من أي نوع على الحرية، إنما هو في الأساس من ناحية ثانية بمثابة تشويه وقيد ووصاية وحرب على المنجز الجمالي الإنساني، فالحرية لا تخشى الجمال، بل تتفرد به، وتزهو من خلاله، وتحلق في حراكه وإنجازاته وإبداعاته، والجمال أيضاً لا يتنفس وجوده كاملاً إلا من خلال الحرية، ولا يمكن لنا أن نتصور جمالاً إنسانياً باهراً من غير حرية، أو حرية من غير جمال، فالجمال إنما يتم تشويهه وتخريبه والتطاول عليه حينما يفقد حريته في التعبير والانطلاق والتواصل ليقع تحت عسف القيد والوصاية والقمع والتحذيرات والفروضات المسبقة، وكذلك فإن الحرية تعجز عن أن تصنع جمالاً حقيقياً حينما تأتي وفقاً لمقياس التعاليم والتوجهات المقيّدة لِقيمها ومعانيها وفضاءاتها الأصيلة والحقيقية، فالجمال كما أفهمه لا يهوى سوى الحرية والحب والتسامح، والحرية كما أفهمها تؤمن بالجمال سماءً تتسع بهجةً لكل الألوان المبدعة، ذلك الجمال الذي يعبر دائماً عن كل تأملاته وتلويحاته وفنونه من دون خوف أو توجس أو تردد أو تراجع، وبعيداً عن أية أوامر أو نواهٍ قد تكبله أو تقيده أو تسجنه في عقائدَ خانقة أو في أيديولوجيات شمولية أو في محرمات هادمة، فهذا الجمال كان ولم يزل تحت رعاية الحرية، وهذه الحرية كانت ولم تزل صنيعة الجمال المترع بقيم الميراث الإنساني في الحب والتسامح والبناء والفرح والألق والتعايش..

 

والجمال هو في الأساس تعبير عن الذات البشرية التواقة باستمرار للمعرفة والإبداع والتألق والحرية والحب والتسامي، والجمال بتعبير آخر هو مستوى ذات كما يقول المفكر القصيمي، ولذلك لا تستطيع الذات الإنسانية المفكرة والملهمة والمبدعة أن تحقق مستوياتها الخلاقة في الحرية والتعبير، إلا حينما تكون معبرة تماماً عن جمالها الداخلي والخارجي بكل حرية وانطلاق وتطلع، فالذات الإنسانية تبدع الجمال بكافة أشكاله وتعبيراته، لأنها في الأساس تريد أن تصل بمستواها إلى درجة الجمال الذي تنشده وتتطلع إليه، وتريد من خلاله أن يكون معبراً بدرجة مباشرة عن حريتها الكاملة في اجتراح الجمال الذي يحقق لها التواصل الحميمي مع اشراقاته وفضاءاته المتعددة، ولذلك نستطيع أن نفهم لماذا بقيَ الجمال الإنساني الخلاق في مختلف تدرجاته ومستوياته ومراحله متوهجاً بالمواصلة والاستمرارية والتدفق التعبيري، لأنه يقف دائماً خارج الأطر القامعة والسالبة، وخاج الأطر الإعتيادية والسائدة، وخارج الفروضات الدينية والأيديولوجية، إنه الجمال الذي يرفض الوصاية والموروثات البالية ويرفض المراقبة والتوجيهات والتحذيرات وثقافة التعاليم التسلطية، وإنه الجمال الذي يتوهج حريةً، وإنها الحرية التي تشعُّ جمالاً فسيحاً ومتعدداً وخلاقاً وإنسانياً في كل توجهاته وتعبيراته وتجلياته، حتى أني أخال في بعض الأحيان أن الإبتسامة الطافحة بالرقة والمحبة والود، هي في أحد جوانبها الإنسانية انعكاس لجمالية الذات، لأنها تهدف إلى اجتراح صياغات للتعايش الإنساني الجميل والحر..

 

والحرية هي أن تبقى تدافعُ عن الجمال، وتحاربُ من أجل أن يبقى مشرقاً ومشعاً وبراقاً، فالحرية هي المدافع الحقيقي عن تهيئة المجال فسيحاً وشاسعاً أمام الجمال لكي يبقى معبراً عن كل إشراقاته وإبداعاته في الفن والأدب والكلمة، فهل رأيتم جمالاً يستطيع أن يصنع عالماً متنوعاً من اللوحات الإبداعية، حينما يكون واقعاً تحت القمع والتسلط والاستبداد.؟ بالطبع لا، فحتى أولئك الذين اجترحوا جمالاً في شتى مجالات الإبداع تحت أجواء القمع والاستبداد والتسلط، هم في الأساس يتمتعون بخيالٍ حر قادر على منحهم الحرية الداخلية، ذلك الخيال الملهم والخلاق والمتحرر من الأعراف والتوجسات وذهنية التحريمات والممنوعات والأفكار السائدة، وهو الخيال الذي يستطيع أن يحقق تفوقاً على الذات، لأنه جزء أصيل في عملية الإبداع، ولذلك فهم كانوا يتمتعون على مستوى الذات بقدرةٍ ذهنية باعثة على خلق حريتهم الإبداعية، وفي هذا المعنى تحديداً يقول الشاعر السوري المبدع فرج بيرقدار في مقال له عن تجربته مع الحرية والإبداع وهو في السجن: (أجل.. الحرية شقيقة الحب والرحمة والأخلاق، والسجن شقيق الكراهية واللعنة وشهوة الافتراس، بالطبع يمكن سَجنُ الجسد وتقييد الحركة، فذلك ليس خارج قوانين الطبيعة، ولكن لحسن الحظ أنّ الخيال، وهو من أبرز عناصر العملية الإبداعية، عصيّ على الأسر، وذلك وفق قوانين الطبيعة نفسها، بهذا المعنى كنت أشعر وأنا في سجني، أنّ للحرية طيوراً قادرة على جعل السماوات أكثر اتساعاً، وربما أكثر زرقة أيضاً، غير أنّ الشعر بالنسبة إلي كان طائر الحرية الأجمل) ويقول أيضاً في مكان آخر من مقاله الجميل في ذات المعنى: (وإذا كنتَ مبدعاً حقاً، فلتبدعْ حريتك الداخلية، الذهنية والنفسية والوجدانية والروحية، فمن دونها ستمرض حريتك الأمّ، بل ربما ستجدها ميتة بعد خروجك من السجن)، فكما أن الحرية تناضل من أجل أن يبقى الجمال جمالاً إنسانياً خلاقاً وحراً، كذلك فإن الجمال يناضل طويلاً من أجل أن تبقى الحرية مساحته الحقيقية التي تمنحه الضوءَ، وتشرع أمامه الآفاق المتنوعة والمفتوحة والشاهقة..

 

وأليسَ غياب الجمال عن الحياة وعن مساحات التعبير الإنساني، يعني في مقابله حضور البشاعة والقباحة، ومَن يريد أن يقتل الجمال بكل ما يستطيع من خلال أدواته وبرامجه وأنماطه الأحادية، ومن خلال منقولاته الوراثية والعقائدية والتسلطية، فإنه في الحقيقة يريد للبشاعة والقباحة أن يكونا حاضرين يعبران عن فروضاته وأدبياته ومسلكياته وأيديولوجياته القامعة، وكذلك فإن غياب الحرية عن الحياة، إنما يعني غياب كامل للجمال، فكما أن الجمال حضور بهي ومشرق للحرية، فإن الحرية كذلك حضور فاتن وخلاب للجمال بكل أشكاله وتنوعاته وتعبيراته، وأليسَ الجمال هو أن يبقى متوهجاً بدهشة الضوء البارقة، الدهشة المحرضة على إثارة التساؤلات تلو التساؤلات في مختلف المجالات، وعلى مر الأزمان وجدنا كيف أن قصائد الشعراء وأعمال الأدباء ولوحات الفنانين ومقالات الكتّاب وكلمات المبدعين وكل منجزات الفنون الأخرى استطاعت أن تثير فيهم تساؤلات عميقة بفعل الدهشة المحرضة، ولم تزل تثير فينا أيضاً تساؤلات كثيرة في قضايا الحياة والكون والإنسان والمفاهيم، فكل تجربة جمالية تستنطق كل ما حولها، إنما تعني في الأساس استثمار حقيقي وكامل لمساحة الحرية، ولذلك حينما يفقد الجمال قدرته الذاتية على إثارة التساؤلات بفعل القيود والممنوعات والتحريمات والوصايات والترصدات الدينية المخفرية، يفقد تبعاً لذلك دهشته المحرضة والناطقة، ويغدو جمالاً مريضاً، فاقداً للدهشة والتحريض والتساؤلات، وكما أن الجمال في كل وجوهه وأساليبه وطرائقه ودهشاته تأسيس أصيل لمعاني وقيم الحرية، كذلك فإن الحرية تأسيس أصيل للجمال المحرض والناطق والمدهش..

 

والإنسان عموماً في جميع تاريخه الطويل، استطاع أن يشيد حضارته القائمة على مختلف الفنون والإبداعات، عندما استطاع أن يزيل عن طريقها كل أشكال القيود والممنوعات والوصاية، ليبقى الجمال يسير في أوصال الإبداع والتألق والبناء بانسيابية رائعة من غير أن يصطدم بأية نتوءات مدببة ومن غير أن يتعثر بالتعرجات الهالكة، فالإنسان عموماً قدم منجزاته الإبداعية والجمالية على مر تاريخه، لأنه آمنَ بالحرية طريقاً وسبيلاً، ولأنه آمنَ بأن الحرية تعني التمرد الخلاق على كل أشكال الوصاية والتسلط والاستبداد، والتمرد على كل أساليب التعاليم والتحذيرات والمذاهب المعيقة لحريته وإبداعه وتألقه، فحضارة الجمال والإبداع والفنون تعني في الأساس تمرداً خلاقاً على كل ما يعيق تفردها وجماليتها وألقها، لأن الجمال الإنساني عملٌ في البناء وليس الهدم، عملٌ في تحقيق السعادة والفرح للإنسان، بينما التسلط والكبت والقمع هدم للرغبات الإنسانية، وهدم للإبداع، وهدم للحرية، فهل رأيتم حضارة قدمت للحياة والإنسان، الفنونَ والإبداعات والسعادة والفرح والتألق، وهي ترسف في أغلال النصوص التراثية الدينية وفي الماضويات والمذهبيات الخانقة.؟

 

وأليسَ جمال الكتابة والكلمة في افتتانهما البالغ بجمال الضوء الباذخ، الذي لا حد لحريته في الإنارة والإشعاع، ولا حدود لحريته في التعبير، وهو الجمال الذي يطمحُ أن يبقى أكثر إنارة من الشمس الساطعة، وفي هذا الاتجاه يقول المفكر القصيمي: (الكاتب العظيم يهاجم الشمس لأنها أقلّ مما ينبغي، أما الكاتب الرديء فيصلي للشمعة لأنها أكثرَ مما ينبغي)، ليست العظمة بطبيعة الحال في أن يهاجم الكاتب الشمسَ، لمجرد الانتشاء بنزق الهجوم، بل العظمة في إنه أصبح يرى في ضوء الشمس حريةً أقل مما يطمح ويريد، لأنه يرى أن جمال المنجز الإنساني انعكاس للحرية في بياضها الشفيف والمطلق واللامتناهي، وليسَ أروع من أن يبقى الجمال مجترحاً إبداعاته وتأملاته ولوحاته واستنطاقاته وتساؤلاته، انطلاقاً من حريته الكاملة على جميع مستوياتها..

================

محمود كرم، كاتب كويتي   tloo1@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط