محمود كرم / Sep 07, 2008

أن يقول الواحد ما يريد من دون أن يكون واقعاً تحت سلطةٍ قامعة، ومن دون أن تحاصره القيود والأحكام المسبقة، ومن دون أن يكون هدفاً لاتهامات جاهزة، ومن دون أن يصادر رأيه الحاكمون بإسم السماء، ومن دون أن تنهال عليه المواعظ والتوجيهات والتوعدات توبيخاً وتخويفاً وتشنيعاً، فذلك يعني إنه يعيش في مجتمع متحضر يمارس حقه الإنساني الطبيعي في الكلام والحوار وسط مناخات مفعمة بالحرية والانفتاح، ولا يضع هذا المجتمع أي نوع من القيود والأعراف والمسبقات والأحكام والاتهامات على الحوار..

 

المجتمعات التي تضع أي نوع من القيود والممنوعات والتحذيرات على الحوار، هي المجتمعات التي تمنع الإنسان من أقدس حقوقه، وتصادر العقل وتلاحق الرأي الحر، وتطمس منابع التفكير، كما هو الحال في المجتمعات الإسلامية والعربية المحكومة دائماً بقوة السائد وسلطة المقدس، والقابعة في سجونها العقائدية على حد تعبير المفكر علي حرب، ولذلك فهي مجتمعات عاجزة عن خلق أفكار متجددة وجريئة ومخالفة للسائد، وقافزة بالإنسان نحو آفاق رحبة وحرة ومفتوحة، لأنها مانعة للتفكير الحر، وخانقة للحوار الحر، وتعمل هذه المجتمعات انطلاقاً من وظيفتها الإجتماعية والدينية (المقدسة) على أن يتربى أبناءها منذ الصغر على تقبل الكلام المسموح به والمعترف به والمعمول به فقط، والذي يأتي شكلاً ومضموناً مطابقاً ومتوافقاً مع التعاليم التلقينية والبرمجة الشفهية، ومتماشياً بالضرورة مع العقل الجمعي المندرج قديماً في تفسيراته اليقينية المطلقة والسائدة، ولذلك تنعدم في هذه المجتمعات فن صناعة الحوار الحر، وتنعدم فيه أدوات الاستحضار الفني التلقائي للحوار والنقاش، لأنه مجتمع لا يؤمن أساساً بالحوار سبيلاً للمعرفة والتفكير والبحث، وعادةً ما تُلزم هذه المجتمعات أبناءها على الابتعاد من الانخراط في أية حوارات حرة وجريئة كلما توفر لهم ذلك، خوفاً عليهم من الضياع والتمزق والهلاك، وأصبح بعض الأبناء الخارجين عن سلطة التلقين وثقافة المظهرية الدينية، والرافضينَ أيضاً للبرمجة الذهنية والتفاهة الثقافية في هذه المجتمعات، أصبحوا يتطلعون إلى يوم تتبنى فيها مجتمعاتهم الحوار الحر والمفتوح وغير المقيّد، وغدا هذا المطلب الطبيعي بمثابة الحوار (الحُلم) كما أسرّت لي بذلك ذات حسرةٍ وألم إحدى الصديقات الكاتبات، ولكن كما يقول الفيلسوف برتراند راسل (من الواضح إن التفكير ليس حراً، إذا كانت الأعراف تمنع بعض الأفكار أن تمنح الحياة)..

 

بينما نرى أن المجتمعات الحرة والمتحضرة والعقلانية تريد دائماً أن يكون الحوار حراً ومفتوحاً ومنطلقاً، بلا أي قيود أو حدود أو حواجزَ أو خطوط حمراء أو هيمنة من أي نوع، لأنها تريد من خلال الحوار أن ينتصر الإنسان فقط، وليسَ النظرية أو المذهب أو الأيديولوجيا أو النص، ففي أي حوار إنساني حر ومفتوح ومريح، ينتصر العقل وتنتصر الحرية، وتنتصر الحقيقة وحدها إن وُجدت، لأنه حوار لا يرفع أمام العقل والرأي ممنوعات من أي نوع ما، ولا يخضعه لشروط مسبقة، ولا يجبره على اعتقادات معينة، ولا يلزمه بارشادات محددة، ولا يجره قسراً وترصداً إلى قناعات محددة..

 

والحوار الذي يكبل الإنسان بقيودٍ من أي نوع ما، لا ينتج سوى العصبية والتحيز والانسداد والفراغ والعدم، لأن هذا الحوار ينحاز للنظرية والشعار فقط، ويروج للأيديولوجيا فقط، ويستميت من أجل النص فقط، ويضع كل شيء فوق الإنسان وقبله وأمامه، وهو الحوار الذي  يستهدف أن يجرّد الإنسان من عقله ورأيه وفكره واختياراته، وينزع منه إرادته الحرة ونزعته الحرة في قول ما يشاء وفي ما يريد أن يفكر فيه..

 

فالحوار الحقيقي والحر يهدف أساساً إلى تبنّى التداول العقلاني لكل المفاهيم التي تضج بها الحياة بصورة عامة، ويفسح أمامها مساحات بيضاء، لابتكار لغةٍ إنسانية حرة، تلك اللغة التي تبحث عن التفاهم والتنوع الخصب، والتشارك والتعالق والتداخل والامتزاج ، والنظر إلى الأمور خارج الحدود الهوياتية الضيقة والخانقة والمعيقة، لأنه يتأسس على التبادل والتداول العقلاني الحر والمفتوح بين المنظومات المعرفية والثقافية الإنسانية، وينبذ التعصب والتحزب والتحيز والانغلاق، وأعتقد أن ما أنتجته الحداثة الفكرية والثقافية، هو اعتماد القيم الإنسانية النبيلة التي تحفظ للإنسان كرامته وحريته ورأيه واختياره الحر، سبيلاً إلى حوار حقيقي وحر ومفتوح، تمتزج فيه الأفكار، وتلتقي فيه الأهداف، وتنسجم فيه المقاصد الإنسانية، بهدف خلق صيغٍ للتعايش الإنساني، تلك الصيغ التي لها القدرة على أن تُخرج الإنسان من سجونه الذاتية الضيقة والمقيّدة، لِتضعه في رحاب الكونية، إنساناً خلاقاً ومبدعاً ومنتجاً ومتعايشاً..

 

وينطلق الحوار الحر في صناعة الأفكار والفلسفات الإنسانية من منظومة معرفية وقيمية رحبة، لطالما انتصرت دائماً لميراث الإنسان في حقه الكامل في البحث والتفكير والرأي والاستنتاج، وهي المنظومة المتعافية تماماً من أي تشوهات أيديولوجية وشعاراتية وتلقينية وصنمية، وهي المنظومة الصانعة للحوار الذي يعتمد المعرفة والقيم الإنسانية أساساً حراً للخلق والإبداع والتفكير والانتاج، بينما الحوار المقيّد الذي تشوّهه الأحكام والتعاليم والتحيزات والمذهبيات الجاهزة والمسبقة، يلغي الإنسان في مقابل النص، ويلغي العقل في مقابل النقل، ويلغي التفكير في مقابل المقدس، ويلغي الإرادة في مقابل الغيب، ويحدد تالياً الهوية، أياً كانت، دينية أم عرقية أم اجتماعية، طرفاً في الحوار، يأخذ طابعاً افتراسياً ويعتمد نمطاً متوحشاً، ويتقصّد توجهاً قمعياً، ويتخذ من ترسانته النقلية والنصية الماضوية أرصدةً دفاعية عن وجوده وماهيته الثقافية..

 

ودائماً ما يسعى الحوار الحر المتعافي من الهيمنات والاطلاقيات والموروثات الاستلابية، إلى تقصّي الأفضلَ والأصلح والأنفع  والأصوبَ للإنسان من خلال الاعتماد على العقلانية والتفسيرات العقلية في البحث عن إنشاء وصناعة وإيجاد تلك السبل والروافد، وليسَ اعتماد التلقينات الماضوية النصية والنقلية، كقاعدةٍ في الحوار، فالحوار الحر يؤمن بالعقل المتحرر من الأسبقيات اليقينية والتلقينية والنصية والتعليبية، ولا يسعى إلى اقحامها أو فرضها أو تثبيتها في الحوار، لأنه يؤمن بالإنسان قبل النص، ويؤمن بالإنسان قبل النظرية والشعار والأيديولوجيا والأسطورة، وينتهي دائماً إلى العقل والعقلانية والقيم الإنسانية في اجتراح الأنماط الحياتية التي تجلب للإنسان السعادة والرقي والنظافة والأمان، ولذلك نجد أن الحوار الحر عادةً ما يكون منتجاً حقيقياً للفلسفات والأفكار والمعرفيات، وصانعاً لمساحات كبيرة زاخرة بالتنوعات الثقافية، وخالقاً للتفاعل الفكري المنتج، لأنه ليسَ اجتراراً للتلقينات والموروثات والشفهيات والمسبقات والمنقولات والأوهام والقوالب النصية الناجزة، وليسَ ترديداً للعنعنات..

 

وفي حوار شيّق وحر مع أحد الأصدقاء الكتّاب هنا في السويد، سألني صديقي مباشرةً عما الذي وجدته هنا مريحاً لي خلال فترة مكوثي القصيرة، فأجبته سريعاً : إن ما يجعلكَ تشعر عميقاً بجوهر إنسانيتكَ الأعلى، هو حريتكَ الكاملة في الحوار، فلا أحد يضع أمام الحوار قيوداً أو ممنوعات أو توجيهات أو مسبقات محددة أو مقدسات منزلة، فلا تشعرَ بأي قيد من أي نوع على الحوار، ولذلك فهم ينتصرون بالحوار الحر للإنسان والعقل والقيم الفردية..

==================

محمود كرم، كاتب كويتي

tloo1@hotmail.com  

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط