بسام درويش / May 23, 2002

بعث إلي قارئ مثابر على قراءة الناقد بقصاصة من صحيفة اسمها "صوت العروبة" تحوي مقالاً بعنوان: "لمحة سريعة عن مفهوم الجهاد في الديانات الثلاث"، بقلم أحدهم ويدعى صخر رزق الله. ولكي يعطي الكاتب لمقاله قيمة مرجعية فقد أتبع اسمه بذكر الشهادة الدراسية التي يحملها وهي شهادة "بكالوريوس لاهوت وتربية مسيحية".

 

حين قرأت العنوان قررت أن أهمله فوراً اعتقاداً مني أن المقال، ليس إلا اسطوانة سخيفة مكررة، مللنا سماعها من مسلمين يفسرون تعاليم المسيحية من خلال القرآن، دون أن يكلفوا أنفسهم بعض الجهد للاطّلاع عليها من مصدرها الأساسي وهو الإنجيل. ولكن، حين قرأت تعريف الرجل لنفسه كحاملٍ لشهادة "بكالوريوس لاهوت وتربية مسيحية"، فقد رغبت بقراءة ما كتب اعتقاداً من بأن هذا الرجل مسيحي ويحمل شهادة عالية في اللاهوت.. ولذلك لعلّني أتعلّم منه شيئاً فاتني خلال دراستي لتعاليم المسيحية!"

 

قرأت المقال بكلّيته ثم عدت إلى قراءته وأنا أبحث مجدداً بين السطور علّني أصل إلى المعرفة التي ضاعت مني، فلم أجد إلا نتيجة واحدة لبحثي. لقد توصلت إلى قناعة تامة بأن هذا الرجل لا يستحق شهادة بكالوريوس في اللاهوت إنما شهادة دكتوراه في الغباء. 

******

يقول عنوان المقال: "لمحة سريعة عن مفهوم الجهاد في الديـــــــانات الثلاث".

وحين يقرأ القارئ عنواناً كهذا، فإنه يتوقّع أن يحدثه الكاتب عن مفهوم الجهاد في كل من هذه الديانات الثلاث.

******

محاولات إثبات وجود أي أثر للدعوة إلى العنف في تعاليم المسيحية كانت دائمة محاولات يائسة فاشلة. لذلك، فعوضاً عن مواجهة الواقع والإقرار بعظمة وأخلاقية هذه التعاليم، نرى المساكين من الناس الذين عانوا من غسيل الدماغ طوال سني حياتهم، يلجأون إلى الطعن في المسيحية من خلال أعمال وتصرفات البشر الذين لا يحملون من المسيحية إلا اسمها. وهذا هو بالضبط ما فعله صاحبنا حامل شهادة البكالوريوس في اللاهوت والتربية المسيحية.

يقول الخواجة بكالوريوس هذا، وبالحرف الواحد:

"ظل الجهاد غائباً عن الساحة المسيحية زمناً طويلاً حيث أن الجهل كان مستفحلاً بالبشر بفعل الكنيسة التي منعت أي كتاب أو مطبوعات تنشر غير الكتاب المقدس على شرط أن تقوم هي بتوزيعه بمعرفتها. الأمر الذي زاد الطين بلة، وكانت العصور الوسطى من التاريخ المسيحي عصور الظلام والجهل والاستبداد حتى عام 1095 حين اخترعت الكنيسة الغربية بقيادة (البابا) أوريان الثاني الجهاد المسيحي والذي دعا إلى الحروب الصليبية لتخليص القبر المقدس من يد المسلمين مستبيحاً أرواحهم وأموالهم وكل ما يملكون، ولكن هذه المرة يستطيع المجاهدون المسيحيون أن يسرقوا ما شاؤوا من المسلمين."

يتابع الخواجة بكالوريوس قائلاً:

"وقد خطب بالمسيحيين في كليرمنت سنة 1095 مثيراً الحماس الديني الأمر الذي تلقاه المسيحيون بحرارة وهتفوا أن الله يريده وتزينوا بالصليب وزحفوا على الشرق ومزقوه ونهبوه واستباحوا حرماته ولم يعد القبر المقدس مقدساً فقد هدموا الكنائس الأرثوذكسية وشيدوا الكنائس اللاتينية وحكموا بالسيف رقاب العباد مسلماً ومسيحياً شرقياً ومن لف لفّهم."

ويتابع قائلاً:

"وكان البطل منهم من يقتل مسلماً أو يهدم كنيسة أرثوذكسية أو يسرق حلى امرأة واهنة، وكل ذلك بأمر الله والقبر المقدس عن طريق البابا الذي كان يتبختر بلباس قديس ويشرب دم المسلمين الذين قهرهم بجبروته وسلب مالهم ليتزيّن به. حتى عام 1291 حين أعلن المسلمون الجهاد الإسلامي على الجهاد المسيحي وطردوا المحتل شر طردة. كل هذا والمسيحيون الغربيون لا زالوا يعتقدون بقدسية حروبهم وبراءتها من الشوائب."

 

وهنا ينتهي بحث اللاهوتي الحصيف في مفهوم الجهاد في المسيحية قبل أن ينتقل إلى الإسلام!.. ونتوقف نحن معه لنتساءل عن حقيقة هذه الشهادة التي يدّعي حملها وهو لا يستطيع التمييز بين الناس أتباع العقيدة، أو الذين يدّعون أنهم من أتباعها، والعقيدة نفسها؟..

لو استشهد "هذا" بكلماتٍ، أية كلماتٍ من الإنجيل، كما استشهد من العهد القديم عندما تحدّث عن اليهودية، لقلنا بأن له رأياً في تفسيره لهذه الكلمات يختلف عن رأي الآخرين وتفسيرهم. ولكن، أن يتحدث عن "مسيحيين" وحتى لو كان هؤلاء المسيحيون على رأس الكنيسة المسيحية، فيقيم من أعمالهم وتصرفاتهم دليلاً على أن المسيحية تدعو إلى الجهاد بمفهومه الإسلامي، فإن رأيه لا يقف آنذاك عند حدود الغباء فقط، بل يتعدّى ذلك ليصبح نفاقاً وتلاعباً في الألفاظ.. وربما لغاية في نفس يعقوب. فبكل صراحة.. هذا الرجل هو موضع شكٍّ، إما في قدراته العقلية، أو اتجاهاته الدينية، أو في الاثنتين معاً.

******

من الواضح أن الرجل  يضمر كراهية شديدة للكنيسة الكاثوليكية بالذات من خلال ما يبدو من رفضه للقب "البابا" وحصره لهذا اللقب بين قوسين. لكنه وبالمقابل، وهو المسيحي حامل شهادة البكالوريوس في اللاهوت، لا يجد مانعاً من تكريم القرآن بإلحاقه بعبارة "الكريم" كصفةٍ لازمةٍ، رغم أنه كلاهوتيٍّ يُفترَض بأن لا يؤمن به ولا بكرامته. إنه ليس سراً يُعلَنُ إذا قلنا أن المسيحيين لا يرون في القرآن كتاباً مقدساً أو كريماً على الإطلاق. وهكذا، فنحن في الحقيقة لا نبالغ في وصفنا لهذا الرجل بالغباء وقد قضى عمره وهو يدرس اللاهوت والتربية المسيحية، ليصل إلى يوم يكتب فيه أطروحة، لا يستطيع التمييز فيها، بين تابع لدين من الأديان، والدين نفسه، لدرجة يقول فيها "وكان البطل منهم من يقتل مسلماً أو يهدم كنيسة أرثوذكسية أو يسرق حلى امرأة واهنة: وكل ذلك بأمر الله!.."

هل عجز هذا الرجل، رغم السنوات الطويلة التي قضاها وهو يدرس في الإنجيل، ينقب بين حروفه وسطوره، عن إيجاد كلمة واحدة يستشهد بها ليثبت بأن الله حقاً يأمر المسيحيين بقتل الناس أو بهدم بيوت العبادة أو بسرقة النساء الواهنات كما جاء في هذره!..

******

هناك عاهرات "مسيحيات" على أرصفة الشوارع يزيّنّ صدورهن العاريات بالصلبان. هناك رجال دين "مسيحيون" نسمع كل يوم عن أعمالهم المشينة. هناك رؤساء دول "مسيحيون" يرتكبون المجازر. هناك لصوص "مسيحيون" يسطون على المصارف والمحلات التجارية. هناك قادة دينيون "مسيحيون" من أمثال بيكر وسواغرت وجسي جاكسون، يجمعون الأموال باسم الرب ولأجل الرب ثم يبذرونها على بذخهم وعلى صاحباتهم. فهل يعني أن المسيحية تعلّم على الدعارة والسرقة وارتكاب المجازر وجمع الأموال باسم الله لصرفها على العلاقات غير الشرعية!..

في الحقيقة، لو نسبنا كل ما يقوم به المسيحيون إلى المسيحية، لكنا أضفنا أيضاً إلى صفاتها السيئة صفة الحمق وصفة النفاق، لا لشيء، إلا لأن هذا اللاهوتي الأحمق المنافق محسوبٌ على المسيحية. 

إنه ليبدو واضحاً أن هذا "المسيحي حامل شهادة البكالوريوس في اللاهوت والتربية المسيحية" غارقٌ في إسلامه حتى أذنيه إلى درجة دفعته إلى القول بما لم نسمعه حتى من مسلمين، ولو مجازاً، من وصفٍ "للبابا"، بأنه كان يشرب دم المسلمين!       

إنه غارق في إسلامه إلى درجة طعن فيها بدينه منافقاً، بينما لم يتردد عن الإشادة بالإسلام، مدافعاً عن عدوانية الجهاد في تعاليمه حيث قال:

"أما المسلمون فقد اعتبروا الجهاد أساس الدولة الدينية المنشودة، فقد انبرى القرآن ـ الكريم! ـ للتحريض على الجهاد بالمال وبالنفس وأعلن الشهادة لكل مجاهد والجنة مأواه.. والحق يقال أن المسلمين برعوا تماماً بالجهاد ونفذوا تعاليمه بدقة متناهية حتى غدوا أسياده وهذا ما نراه كل يوم في شتى أنحاء المعمورة. والسؤال الذي أطرحه هنا كيف لنا أن ننكر على الآخرين ما نبيحه لأنفسنا؟ ألم نجاهد في سبيل الله لاحتلال أرض الغير؟ ألم يمارس شعب الله المختار الإرهاب لاحتلال أرض الكنعانيين؟"

كلمة لا أستطيع إلا أن أرددها عندما أقرأ لأمثال هذا الرجل. أقولها ليس من قبيل السخرية بل لأني أشعر بأنهم حقاً يستحقون الرثاء. أرددها بيني وبين نفسي وأنا أخلد إلى الراحة بعد الكتابة عنهم: "يا حرام!.." 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط