مالك مسلماني / Mar 10, 2006

في التقرير الذي نشرته مجموعة الأزمات الدوليّة[1] حول تداعيات الهجمات على العتبات الشيعية المقدسة في سامراء 22 شباط (فبراير)، والأعمال الانتقامية اللاحقة على المساجد السنية وعلى العرب السنة في العراق، لاحظ معدو الورقة وجود احتمال نشوب حرب أهلية في العراق؛ وأشاروا إلى أن الانقسام السني ـ الشيعي هو العامل الأكثر خطورة في الأزمة القائمة، والذي يهدد بتفجير الجغرافيا العراقية. ويسرد التقرير في مستهله الخطوط العامة للعنف المتبادل بين الطائفتيْن، حيث تسعى مجموعات سنية لإثارة الحرب الطائفية وذلك بمهاجمة المراكز الشيعية المقدسة، والتجمعات المدنية؛ ومن جهة ثانية، عمليات القتل التي تقوم بها وحدات حكومية طائفية وميلشيا شيعية ضد المجتمع العربي السني. ولفت التقرير الانتباه إلى أن الأعمال الوحشية من جانب الجماعات السنية الإرهابية لاقت ردود أفعال مروعة من جانب قوى شيعية على الأرض عبر القيام بالأعمال الانتقامية الهائجة؛ وأخطر ما ذكره التقرير أن تأثير المرجعيات الشيعية الكبرى قد ضعف في هذه الأزمة، فأُهمل نداء السيستاني الداعي لعدم التعرّض للسنة ومراكزهم الدينية.

وتنتهي الورقة في ختامها إلى مجموعة توصيات موجهة إلى الأطراف السياسية في العراق، كما إلى الحكومة الأمريكية، وإلى المانحين للمساعدات، وختاماً إلى دول الجوار؛ وهي التوصيات التي يرى فيها واضعو الورقة أنها ستساعد على معالجة الأزمة، ومنع تدهور الوضع إلى اندلاع حرب الأهلية.

ولكن ثمة جوانب برأينا لم يتم وضعها تحت البحث، وهي من العوامل التي تلعب دوراً كبيراً الآن في تغذية العنف في العراق اليوم.

 

أسباب العنف

إن أسباب الصراع الدموي في العراق اليوم تعود إلى جملة مسببات:

1 ـ غرق المجتمع العراقي، مثل بقية المجتمعات العربية، في حالة سكون حضاري، فالنظام الحضاري الذي يعيش فيه هو نظام متخثر، قائم على أساس الروابط البدائية: العصبية القبلية، والعرقية، والدينية، وحتى العصبية المذهبية.

2 ـ حضور العصبيات بوصفها الأساس الحامي للفرد في العالم العربي. وهنا تتجلى مظاهر تحجّر البنيات العربية الاجتماعية المختلفة، ورفض المجتمعات العربية للتقدم.

3 ـ ليست الدولة في البلدان العربية دولة كل المواطنين. إن الدولة في العالم العربي أداة بيد مجموعة محددة، منوط بها مهمة خدمة هذه المجموعة على حساب كل المواطنين. وبالتالي فالدولة في العالم العربي أخفقت حتى في خلق كيان وطني قطري (دعْ عنك أوهام الوحدة العربية).

4 ـ يرى البعض أن النظام الشمولي العراقي تمكن من منع انزلاق البلد إلى مستنقع الحرب الأهلية. لكن المجتمع في ظل النظام المخلوع كان في حالة شلل واختناق، وليس في حالة سلم أهلي. وبالتالي فإن تطاول حكم النظام الاستبدادي هو الذي قاد إلى تفجر العنف بهذا الشكل غير المسبوق في تاريخ العراق المعاصر. ثم إنه يتوجب عدم تناسي حقيقة أن الحروب الإقليمية التي خاضها النظام كان لها جانبان: خدمت مسألة تصدير الحرب الأهلية، وساعدت على توليد العنف في الداخل؛ ومن جهة أخرى، دمرت الاقتصاد العراقي، والذي كان يمكن أن يوفر أرضية تسمح بتأسيس مفهوم وحدة وطنية من منظور اقتصادي على الأقل.

5 ـ حضور الإيديولوجية الإسلامية لدى غالبية العراقيين، وهي من العوامل المؤثرة في تغذية العنف في العراق اليوم.

وهذه النقطة هي التي نريد أن نشير إليها بالأسطر التالية لأنها غابت كلياً عن التقرير المُشار إليه أعلاه.

 

حرب أهلية أم فتنة داخل الإسلام؟

ثمّة في العراق مؤشرات منذرة على قرب تفجر حرب أهلية دينية، وبالتحديد حرب طائفية بين الشيعة والسنة. ولكن كون الصراع قد يتفجر على أساس طائفي لا يعني أنه يمكن إدراجه ضمن فئة الحرب الأهلية، صحيح أن الحروب الأهلية أخذت في التاريخ أشكالاً مختلفة: دينية، وعرقية، وطبقية، لكن الهدف من هذه الحروب لدى الأطراف المتصارعة كان واضحاً على الأغلب، ألا وهو السيطرة على السلطة في البلد، وطبعاً ما يتفرع عن ذلك من قضايا تخص تغيير الترسيمة الاجتماعية للبلد: اقتصادياً و/ أو سياسياً. ولكن هل ما يجري في العراق يمكن تصنيفه في باب الحرب الأهلية؟

لا يبدو لنا أن هذه الأعمال الهمجية مقدمات حرب أهلية، بل هي ممهدات لانفجار عنف مذهبي ـ طائفي ـ عرقي يأخذ منحى حرب إبادة، يسعى كل طرف إلى تصفية الآخر، بحيث أن الهدف من الصراع هو الصراع بحد ذاته. أي أن الغاية الوحيدة للأطراف المتصارعة هي القتل.

ما يُلاحظ في التاريخ الإسلامي أن الحروب فيه كانت تميل لإبادة الآخر؛ فكانت دائماً حرب تصفية «العدو»، إنْ في حالة المسلمين ضد غير المسلمين، أو كانت في حالة الحروب الداخلية بين المسلمين أنفسهم. إن تصفية الحسابات بين الأطراف الإسلامية كانت تجري دائماً بأشكال دموية، وما نشاهده اليوم في العراق هو استمرار لتلك الممارسة الإسلامية. دعْ عنك النقطة الأخطر في المنظومة الإسلامية، وهي أنها منظومة تقبل فكرة الموت لدرجة القداسة.

إن ما حدث في سامراء، والأعمال الانتقامية الخطيرة تبرز نزعة التدمير الذاتي لدى المسلمين. وبالتالي من الواجب أولاً معالجة هذه النزعة، وربما البدء من الأيديولوجية نفسها التي تبشر بعقيدة الغزو. وبرأينا أن الميل للعنف الانتحاري، عندما يتعذر عليه إيجاد منفذ نحو الخارج، فإنه ينقلب على الذات. وليس من حل أمام الإسلام غير تجاوز نفسه كي يتفادى المسلمون الانجرار أكثر فأكثر إلى دائرة صراع انتحاري مع الآخر والذات.

* * *

إن مساراتٍ واحتمالاتٍ وخياراتٍ في العالم العربي مرهونة بالطريق التي سيسلكها العراق؛ فإما أن يتخلص من رواسب الماضي الاستبدادي، ويتمكن من النهوض؛ وإما أن يغرق في أتون حرب أهلية، فتغرق المنطقة في لجة الظلام الدائم؛ وهو ما تدفع به الأيديولوجية المسيطرة. ومن طبيعة المقهورين، ومن آثار استبداد الطويل عشق التدمير.

 

----------------------------------------

[1] The Next Iraqi War? Sectarianism and Civil Conflict, Middle East Report N°52

27 February 2006

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط