سيمون جرجي / Jul 15, 2007

كنتُ واقفاً أمامَ مكتبِ "إيزلا" للسياحة والسّفر، وهي شركة سريانيّة آشوريّة، ولهذا فأنا معتادٌ على التعامل معها. كنتُ لا أزال في "جراج" حلب المُسمّى "إبراهيم هنانو"- وهو أحد أبطال الثورة السوريّة الكُبرى التي قامت في العشرينات من القرن الماضي ضدّ الانتداب الفرنسي- أنتظرُ الحافلة التي ستقلّني إلى مدينة الولادة والطفولة، مدينتي الجميلة.

 

بعد فترةٍ قصيرة تقدّم مني فتىً أسمرَ اللونِ بثيابٍ رثّة يحملُ علبةً خشبيّة تُستعمل عندَ ماسحي الأحذية وسألني إن كنتُ أرغبُ في مسحِ حذائيَ الأسود المُغبرّ، تطلّعتُ إليه مبتسماً وقلتُ له:

ـ لا، شكراً.

إلا أنّه لم يكتفِ بإجابتي المُختصرة، بل ألحّ عليّ مراراً وتكراراً وقدّم لي عرضاً في تخفيضِ الكلفة حتى العشر ليرات، فتمنّعتُ من جديد. أخيراً اقتربَ قليلاً وسألني إن كنتُ أقبلُ أن يُلمّعَهُ فقط، وأمامَ إلحاحه ودعواته المتكرّرة رضختُ لما سمّيتُه أمراً واقعاً ووافقتُ، لكني سرعانَ ما قلتُ له:

ـ لي شرط وحيد، وهو أن تأخذ أنت الحذاء لتعملَ عليه، لأنّي أمقتُ أن أضعَ رجلي بهذا الشكل أمام الآخرين.

 

وفي الحقيقة كان هذا السّببَ الرئيس لتمنّعي المتكرّر، لأني أشعرُ بالحرجِ والإهانة وأنا أضعُ رجلي أمام طفلٍ راكعٍ لمجرّد صبغ الحذاء، وهو من الأمور التي أقوم بها بنفسي بشكلٍ دائم. أشعرُ أحياناً أنّ الأمرَ لا يحتمل مثل هذا التفكير، لكني أواظبُ على حشره في زوايا عقلي دون تمحيصِ الأسباب والدوافع!

 

جلستُ على حافّة الرّصيفِ المتّسخ وشعرتُ أنّ بنطاليَ قد صار جزءاً لا يتجزّأ منه، لكنّ قبولي حملني على أن أُشاطر ماسحَ الأحذية الصّغير جلسته مهما كانت.

أخذَ فردةَ اليمين ووضع عليها قليلاً من المعجونِ الأسود اللونِ، فسارعتُ وقلتُ له:

ـ ألمْ تسألني تلميعَ الحذاءِ فقط، فلماذا فعلتَ هذا؟

بقي صامتاً وتجمّدتْ يداه وبقيتا فوق الحذاء والمعجون، لكنّ نظرتَه الثاقبة الحزينة اخترقت الموقف، فأضفتُ بسرعة وتلبّك:

ـ افعلْ ما تُريد.

سُرّ وأعاد رسمَ ابتسامته على وجهه من جديد وتابعَ العملَ متلقّفاً الفردة اليُمنى فاليُسرى ثُمّ اليُمنى فاليُسرى وهكذا دواليك. سألتُه:

ـ ما اسمُك؟

أجابَ بسرعة ودون أن يلتفتَ إليّ مواصلاً عمله:

ـ "عقيد"، لافظاً حرف القاف على طريقة الأعراب البدو، أي جيماً مصريّة.

ـ ومن أينَ أنتَ؟ بادرتُه من جديد.

أجابَ موجّهاً وجهه نحوي ومندهشاً بعضَ الشيء من هذا الزّبون الفضوليّ:

ـ من هُنا، من حلب حيّ "الشيخ مقصود".

ـ كم عمرُك؟

ابتسمَ وقال:

ـ أربع عشرة سنةً.

لم أكتفِ بل قلتُ له:

ـ هل تركتَ المدرسةَ يا عقيد؟

أجاب:

ـ نعم.

ـ وهل تعرف القراءة والكتابة؟

قال:

ـ لا، لأني خرجتُ من المدرسةِ منذ زمنٍ بعيد.

 

قالها وكأنّه رجلٌ خارجٌ لتوّه من ماضٍ سحيق الأيّام والخبرات. سحبتُ سيجارةً من علبتي "المالبورو لايت" وأشعلتها، ثمّ قدّمتُ أخرى إليه وفي هذا اختبارٌ وخطيئة، لكني أردتُ أن أعرفَ إن كان يُدخّن أم لا! رفضَ شاكراً، فعاجلتُ وقلتُ:

ـ حسناً فعلتَ وتفعل، فالتدخين يضرّ بصحّتك وهو من العادات السيّئة، ومن الأفضل ألا تُقدم عليه لا اليوم ولا غداً.

أنهيتُ عِظتي وخطابي وشعرتُ كم أنا كاذب بترديدي مثل تلك العبارات الطبيّة والأخلاقيّة والسيجارة تحترقُ بين أصابعي والدخانُ يخرجُ من فمي مبدّداً عبارة المعلّم الأوّل: "يا طبيب اشفِ نفسَك"!

ـ ولماذا لا تعملُ عملاً آخر أو تتعلّم حرفةً أجود؟

أجابَ بمرارةٍ لكن بصوتٍ عاديٍّ:

ـ لأنّ أخي لا يقبل.

ـ إذاً هو مَن يُرسلك إلى العمل؟

ـ نعم هو.

ـ وهو مَن يأخذُ غلّةَ نهارِك وأتعابِ عملك؟

ـ أجل.

ـ وكم يُعطيك منها؟

ـ أحياناً النصف.

ـ وكم تبلغ الغلّة اليوميّة في العادة؟

قال بعدَ أَن رفعَ يدَهُ عن الحذاء وتوقّف عن العملِ لبُرهة:

ـ بين الثلاثمئة والأربعمئة ليرة سوريّة.

سكتُّ وفي قلبي غصّة قَدْ حشرها الزّمن وقسّاها فعلقت وبقيت في حلقي لا تريد أن تنزاح، سكتُّ وأنا أرى وأسمع عن ظلمِ مجتمعٍ وعائلةٍ وأميّةٍ طغت على فتىً في عمر البراعم، ورغم ذلك لازالَ يتمتّع بابتسامةٍ برّاقة تُشرقُ بين بحرِ اتّساخه بالأصباغ والضّعف. قطع عليّ عقيد حبلَ أفكاري متسلّماً زمام الحوار قائلاً:

ـ لقد رأيتُك من قبل، لكن لا أذكر أين!

أكملَ وقال:

ـ هل تعرفني؟ أعني هل رأيتني من قبل؟

أجبتُه:

ـ وجهك ليس غريباً عني.

وتابعتُ:

ـ أظنني التقيتُك هُنا في الجراج منذ عدة سنوات.

قال:

ـ أنا أيضاً أظنّ ذلك، لكنني كنتُ صغيراً آنئذ.

انتهى من عملِه فارتديتُ الحذاءَ المُلمّع ونفحتُه ضعفَ ما سألني، شكرني بعطفٍ وبابتسامته الجميلة التي مزّقتها قساوةُ الأيّام والتفتَ وغابَ بين الآخرين.

نفضتُ أنا أيضاً ما علق من غبارِ الرصيف على بنطالي وقلتُ في نفسي: هل يشعرُ حقاً عقيد بأنّه كالآخرين؟ هل يعلمُ بأنّ له من الحقوق ما للآخرين منها؟ فتىً يسحقُه جور أخيه الأكبر وإهمال المجتمع وقساوة البشريّة فإلامَ وإلى أينَ المسير؟

=================

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط