ديانا نعمة / Apr 23, 2009

 

ها قد مضت عدّة أسابيع على اتخاذي قراراً بالانتباه إلى نشاطي الكتابي، وكنتُ قد قطعتُ على نفسي عهداً بأن أجهّز مادةً كلّ أسبوع على الأقل. من الواضح أنّي لم أستطع الوفاء بعهدي، والسبب بكلّ بساطة يعود إلى شحّ "المواد الأوّلية" للكتابة.

الموادّ الأوّلية اللازمة للكاتب، وأعني طبعاً الكاتب اللي متل حكايتي، الذي ليسَ لديه من الأبحاث والمعارف المفيدة إلا الشيء القليل، يحتاجُ إلى موادّ أولية يقوم بصياغتها ووضعها في قالبٍ ما، حتى تصبح صالحةً للعرض أمام القارئ. وتتمثّل المواد الأوليّة في مواقفَ يجدُ الكاتبُ نفسه متورّطاً فيها، وأحداثٍ يمرّ بها، وشخصيات يقابلها ويخوض معها في أحاديث وحوارات ونقاشات.

مرّت الأسابيع الماضية بأيّامها ولياليها، ويا للأسف الشديد، لم أتورّط خلالها في مواقفَ صعبة، ولم أمرّ بأحداث مثيرة، ولم أقابل أشخاصاً مهمّين لأخوض معهم في أحاديث تتناسب ودرجة أهميّتهم، واقتصرت مشاهداتي على نماذج من "المواطن الغليظ"، فاخترتها لتكون موضوع هذا اليوم باعتباري لم ألتقِ بغيرها.

ما الذي يجعلنا نلصق بمواطنٍ ما تهمة "الغلاظة"؟ أو بالأحرى ما هو التعريف الدقيق للمواطن الغليظ؟

باختصار، المواطن الغليظ هو ذاك القادر على تسويد عيشتك، وتسكير الأبواب المفتّحة في وجهك. وهو المخلوق الوحيد الذي يخرّب عليك سعادتك دون أن ينكشَه ضميرُه نكشة عذاب، لأنّه بكلّ بساطة غليظ!! ولا يوجد أيّ نصّ في القوانين والشرائع والأديان يجيز محاسبة الغليظين على غلاظتهم، كما أنّ الغليظ معذورٌ -ما بيتآخذ-، فهذه طبيعته التي لا يستطيع تغييرها.

والغليظون يُصنَّفون في أنواع وأنماط حسب درجة الضرر، فهناك الغليظ المحمول (القابل للتحمّل) من قبل الأشخاص غير الانفعاليين، وهناك الغليظ المتحوّل الذي يتحوّل من غليظ إلى قليل تهذيب أو من غليظ إلى حرامي أو نذل، أو من غليظ إلى نكبة أوعقبة أوعثرة أوإعاقة أو... وإليكم بعض الأمثلة:

تخيّل مواطنة زميلة لك في مكان عملك الذي لا تحبّه، ولا ينتابك الانبساط والانشراح عندما تدخله، تستقبلك صباحاً بوجه (مجلغم)، وأسنان ملوّثة بأحمر الشفاه كشفَتْها لك ضحكتُها البلهاء، فتردّ تحيّتها بانقباض وأنت تجلسُ على طاولتك وتبحث عن فنجانك (أبو أذن) المطبوعة عليه رسوماتك الكرتونية المفضّلة، تسألها عنه وتصفُ لها شخصيات الكرتون في محاولةٍ منك لإفهامها أنّ هذا الفنجان خاصّ بك ويعبّر عنك، فتتسعُ ضحكتها البلهاء إياها وتجيبك بأنّها "استعارته مؤقّتاً" لتضع فيه أقلامها الجافّة التي لم تستخدمها منذ سنة!! فتتحمّل وتستوعب الأمر باعتبار أنّ فنجانك ليس من ذهب ولا أهميّة قصوى لوجوده معك، وتستطيع –ولو على مضض- أن تستخدم سواه (غليظة محمولة). إلا أنّ رحابة صدرك ربّما لن يكتب لها الاستمرار عندما يصدح كومبيوتر زميلتك المواطنة الغليظة من صباحية ربّنا بأغاني الكراجات والسرافيس والملاهي الليلية، عندها فقط ستبدأ بالشعور بالغضب، وتستمرّ بالغضب تصاعدياً عندما تندمج الغليظة مع الموسيقا وتسترسلُ بالغناء بصوت... يشبه صوت احتكاك الأظافر بالحائط، وكلّ الأغاني تخرج من فمها بنغمٍ واحد، ولو مرّت صدفةً غنيّة حلوة وعزيزة عليك فلا تفرح، إذ أنّ زميلتك الغليظة موجودة لتفسدَ عليك متعة الاستماع، فتضارب على المغنّي بصوتها! (غليظة متحوّلة إلى قليلة تهذيب).

مثال آخر... تخيّل مواطناً مساوياً لك في الحقوق والواجبات والجوهر، دفعتك ظروف بالغة التعقيد للقائه والتعرّف عليه، حتى تقع في "غلاظته" من أوّل نظرة ومن أوّل سلام ومن أوّل موعد...

يسألك المواطن عن اسمك، تجيبه بلطفٍ بالغ: اسمي فلان... وبإمكانك أن تناديني كذا... وأحبّ أن تناديني كذا... لأنّ أصدقائي المقرّبين ينادونني كذا (طريقة ذكيّة جداً لجعل الطرف الآخر مرتاحاً في حديثه معك، فأنت تريده أن يناديك كما يناديك المقرّبون، وهذا يعني أنّك لا تمانع أن يصبح واحداً من هؤلاء المقرّبين). لكنّ المواطن ويا للأسف... غليظ!! غليظ إلى درجة أنّه يضحك نفس ضحكة زميلتك الغليظة إياها (سبحان الله... أشياء كثيرة مشتركة بين أفراد الصنف الواحد) وهو يقول: بتعرف... أنا شفت فيلم بزماني بيحكي عن قرد اسمو على اسمك... هاهاهاهاها.... يستغرق المواطن الغليظ في قهقهة شديدة البلاهة دون أن ينتبه إلى تعابيرك التي تنضح استياءً! وكيف له أن ينتبه وهو غليظ من أرفع طراز؟ سمعت بحياتك عن جمل قدر بيوم يشوف حردبته؟

وفي موقف آخر يخاطبك المواطن الغليظ قائلاً: تذكّرني تصرفاتك هذه بتصرّفاتي عندما كنت صغيراً مثلك!!! فتذكّره وبتهذيب أنّك لست صغيراً، فيجيبك الغليظ: لا أعني صغر السنّ... بل العقل!!!

 غلاظة المواطن في هذا الوضع تختلف عن الغلاظات الأخرى، ولعلّها أشدّ أنواع الغلاظة فتكاً وتدميراً، فالغليظ من هذا النوع قادر على إيذائك وجرحك في الصميم بمجرّد قراءة تعاويذ غلاظته على رأسك،  كما أنّه يحسن اختيار الأوقات الملائمة لتطبيق غلاظته حتى يحقق أكبر قدرٍ من الخسائر بضربة واحدة: فعندما تكون معنوياتك مرتفعة في وقتٍ ما، الغليظ كفيل بتسويتها بالأرض، وعندما تكون بأمسّ الحاجة إلى وجود صديق –بالمعنى الصحيح للصديق-، يفعل الغليظ المستحيل حتى يُشعرك بأنّك وحيد منبوذ وعديم القيمة كالأرملة الوحدانية!

من المؤسف أن نجد أنفسنا مضطرين إلى التعامل مع النماذج الغليظة يومياً وفي كلّ الأوضاع والمجالات. عندما تخرج صباحاً إلى العمل فستجد الغليظ ينتظرك كيفما تحرّكت، في الشوارع وفي المواصلات وحتى في سيارتك الخاصة... فالسائق الغليظ الذي يكسر عليك ويشتمك ويهدّدك، والسائق الغليظ الذي يقشطك فوق العدّاد شي مية ليرة، والسائق الغليظ الذي يحاول أن يدعسك وأنت تعبر الشارع، وعمّو الشرطي الغليظ الذي يترقّبك ويتعقّبك لا خوفاً عليك ولا حبّاً بالنظام... فَشَر! فهو يتمنّى في قرارة نفسه أن يكون حزامك مفكوكاً (الأمان طبعاً)، أو تخالف الإشارة وتهرس كام زلمة بطريقك، لا بل يتمنّى أن تفوت بشي حيط لينال اللي فيه النصيب!

تصول وتجول في دوائر الدولة لأنَّ عندك معاملة رسمية بدها "ملاحقة" (لا يُستخدم هذا التعبير أحدٌ في العالم سوانا)، فيصفّر مؤشّر الغلاظة وبيضوّي أحمر، لأنّك ستجد أغلظ خليقته تعالى بانتظارك، معقّب معاملات على الباب: بمشّيلك ياها أستاز، نحنا بخدامة الطيبين أستاز... وموظّف: اتركها وغطّلك غطّة لبكرا... بس اليوم خميس... إيه غطّ للأحد!!! وموظّف ثانٍ: هي بدها ختم الديوان، وموظّف الديوان خالتو مرت أبوه عطتك عمرها وآخد إجازة، راحت معك للأسبوع الجاية!

في مدارسنا وجامعاتنا تجدُ الغلاظة: عندما يدخل الدكتور القاعة ليلقي المحاضرة، وهو يعلم تمام العلم أنْ ليس له هناك مستمعون، ولا مريدون، ولا مستقيظون، وليسَ هناك سوى متمتمين: إيه اللَّعية اللي تلعي قلبك يا دكتور شو قليل وجدان وقليل قدر! ويبقى مع علمه هذا مصرّاً على إلقاء المحاضرة، ومصرّاً على قول: حدا عندو سؤال؟؟؟!!! (لك مين بدّو يسألك بالله؟ هالنايم ولا هالشّارد ولا هالعشقان؟). كما ويصرّ بشدّة على إعطاء نسبة للحضور من المحصّلة النهائية، أفليسَ هذا قمّة البلاهة والجهالة و... الغلاظة؟!

حتى إعلامنا لم ينجُ من الغلاظة: برامج غليظة، أخبار غليظة، مذيعون غليظون يحاولون أن "يتهضمنوا" (لو يبقوا على غلاظتهم الطبيعية... مو أحلى؟)، مقابلات غليظة، إعلانات غليظة، مسلسلات  مدبلجة غليظة... كلّها تجتمع لتنتج بالتالي مشاهدين غليظين، لأنو ما حدا بيتحمّل يشوف الغليظ إلا الغليظ اللي متلو.

السوريّون يا جماعة الخير شعبٌ يتميّز بغلاظة فريدة من نوعها، واسألوني ليش؟

كنت قد ذكرتُ سابقاً أنّ الغليظ المزبوط لا يعرف أنّه غليظ، بل يعتبر نفسه مهضوماً حلو النكتة، وكذلك الشعب السّوري: فهو يرى نفسه ظريفاً لطيفاً وخفيفاً، لا مشاكل لديه، ولا أزمات من أيّ نوع، لا أخلاقية ولا ثقافية ولا اجتماعية! وهنا الكارثة!

متى سيصحو هذا الشعب ويتنبّه إلى أنّه أضحى أضخم مصدِّري الغلاظة في الشرق الأوسط والعالم؟ 

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط