بسام درويش / Apr 01, 1994

"قالوا لقليـط ليش بتضل معكَّر؟.. قللون شو بدي أعمل، كل ما بدفش خرية بتجيني خرية أكبر!"

*********

"قليـط" هذا، ليس اسماً لشاعر عربي مخضرم، أو لفارس همام من فرسان بني حمدان، أو لجبلٍ في اليمن السعيد، أو لأحد رواة الحديث، أو لمناضل عربي من أبناء الشقيقة كوموروس.  لا وليس لبطل من أبطال حزب البعث العربي الاشتراكي المناضل.

 

إنـه في الحقيقةِ اسمٌ لأحد فروع نهر بردى في دمشق الشّـام.  مياهُـهُ تجري وكأنها لا تجري لكثرةِ ما تحمله معها من أوساخٍ وفضلاتٍ تلفظها فيه مجاري المدينة، جاعلةً منه مصدراً دائماً لروائح تزكم الأنوف وتقطعُ الأنفاس والمصارين، وأيضاً مأوىً للجراذين ومعملاً لإنتاج البعوض بكل أنواعه وألوانه.

 

"قليـط" لم يكن على هذه الصورة الكريهة طول عمره، فقد كانت مياهه النظيفة إلى حد ما، تروي بساتين الغوطة الشرقية حيث كانت ضفافه هناك متنزّهاً لأهل الشام يقصدونها في نهايات الأسابيع وأيام الأعياد.   

 

كبرت المدينة ولم يعد باستطاعة "قليط" تصريف الأوساخ المتجمعة فيه بالسرعة التي اعتاد عليها من قبل، وذلك بسبب شحة مياهه ومياه أبيه نهر بردى الذي كان يرفده بها. ومن أجل الدقّة في التأريخ، يمكننا القول أنه لم يعد هناك فيه مياه تجري إذ لم يعد بينه وبين مجاري المدينة نفسها فرق يذكر.   

 

كلمة "مُعَـكَّـر" تطلق عادةً على الماء للتعبير عن عدم صفائه، كما تُطلَـقُ مجازاً على الناس للتعبير أيضاً عن عدم صفاء مزاجهم؛ ومن هذا المنطلق يشبِّه أهل الشام أصحاب المزاج العكر بماء نهـر قليــط الذي سبق وصفه.  وهكذا، إذا ما سُئلَ أحدهم عن سبب انزعاجه وضيق طبـاعه، فإنه غالباً ما يجيب قائلاً: لك شو بدنا نعمل.. قال سألوا قليـط ليش بتضلّ (لماذا تبقى) معكَّر ؟.. قللون (قال لهم) شو بدّي إعمل، لكْ  كل ما بدفش (أتخلّص من) خرية بتجيني (تأتيني) خرية أكبر!..     

 

هذا المثل كـثـُرَ استعمالـه أيام كانت البلاد تشهد انقلاباً عسكرياً تلو الآخر يحمل إلى الحكم قـادةً وأبطالاً لم يسمع أحد من قبل ببطولتهم أو حتى بأسمائهم. وقلَّ استعمال هذا المثل في هذا المجال عندما ثبَّتت آخر دفعة من الأبطال أقدامهـا في الحكم، ولم يعد بقدرة أحدٍ على "دفشــهم" من مراكزهم، بالضبطِ مثلما لم يعد بقدرة نهر قليـط على "دفش" الكتل الكبيـرة التي ثبّتت جذورها بِقاعِه الضَّحْل .   

 

وعلى هذا المقياس يمكن أن يُقال بأنَّ بين قليـط وشعوب الدول العربية كلها تشابهاً كبيراً، إذ يبدو أن كلاً منهما قد فقد القدرة على دفش هذه الكتل الآسنة: قليط لِشـحّة المياه فيه، والشعوب العربية لشحّة الرجال بين صفوفها!

*********

من كتاب "لا حياة لمن تنادي" (مع بعض التعديل) لبسام درويش، طبع سنة 1997

نُشِر ايضاً في صحف عربية في كاليفورنيا.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط