هشام محمد / Jan 12, 2005

في المرة السابقة، تناولت الاعتبارات الموضوعية التي تجعل من قبول كل ما نسب للنبي محمد من أحاديث مسألة تحتاج إلى الكثير من التمحيص والتدقيق، خاصة تلك التي تتصادم في متنها مع العقل أو تتجاهل معطيات الواقع المعاش، حتى لو صح السند أو سلمت سلسلة الرواة من الجرح.  كما أومأت بإيجاز شديد إلى الخلفية التاريخية لشخصيتين نالتا نصيب الأسد من رواية الحديث، تحوم حولهما علامات استفهام كثيرة، وهما أبي هريرة وعبد الله بن العباس.  فعلى سبيل المثال، كانت كثرة رواية الحديث عند أبي هريرة محل تندر الصحابة أنفسهم كما سجله لنا ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) بالنص التالي: "أن رجلاً من قريش لبس جبة جديدة وأخذ يتبختر بها فمر بأبي هريرة فقال له:  يا أبا هريرة! إنك تكثر الحديث عن رسول الله، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً؟ فرد أبو هريرة على سؤال الرجل بقوله: سمعت أبا القاسم يقول: إن رجلاً ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حلته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة فوالله ما أدري لعله كان من قومك ورهطك." (وجهة نظر في الحديث الشريف: سعود الجارح، موقع الحوار المتمدن الإلكتروني) كما عرجت في المقالة السابقة إلى وجود تحفظات تحيط بمنهجية البخاري في تدوين الحديث، لا تعد مقبولة بمقاييس علمية صرفه.  أعرف جيداً ما قد يثيره هذا الموضوع من ردود فعل غريزية انفعالية ترفض المساس بالماضي المقدس، وتعتبر أي محاولة عقلانية لإضاءة الزوايا المعتمة في هذا التاريخ كيداً للإسلام وحقداً عليه وعلى أتباعه.  ولعل من حسن الحظ، أن كل الشواهد والوقائع التاريخية مستقاة من بطون كتب التاريخ والتفاسير الإسلامية، مثل طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، وسيرة ابن هشام.. الخ.
 
وحتى أبقى في صلب الموضوع، فإننا أمام كتلة هائلة مما ينسب
لمحمد من أقوال وأفعال ومواقف وحكابات.  أولاً، هناك (جزء) من أقوال وسلوكياته ذات بعد بشري بحت تعكس في معظمها ثقافة المجتمع العربي ومفرداته اليومية التي تربى في تلافيفها آنذاك، لكن الرواة والمفسرين حمولها ما لا طاقة لها به، فحولوها إلى وصفات طبية مهلكة ووقائع تاريخية بلا رصيد ونظريات فلكية تهاوت أمام الاكتشافات العلمية الحديثة، كل ذلك إمعاناً في تعزيز معجزات "النبي" وإكسابه قدرات عجائبية على غرار معجزات الأنبياء الغابرين.  ثانياً، توجد عناصر غير عادية أقحمت في سياق مواقف عادية مر بها محمد قبل أو بعد البعثة من المتعذر هضمها لتضارب الروايات حول التفاصيل الداخلية لها من جهة، ولخروجها السافر عن معايير العقل والمنطق.  وأخيراً، هناك أحاديث تعاني من هشاشة المتن وتهافت الرواة، ولكن لها حضور طاغي وممتد بعمق في حياتنا اليومية، لدرجة أنها صارت أحد أمضى الأسلحة التي تتمترس وراءها المؤسسات السلطوية والدينية في مقاومة التغيير والدخول إلى عالم الحداثة.  كل هذا سأتناوله بشيء من التمثيل في السطور التالية.
 
بشرية
"النبي"
يفرق معروف الرصافي بين رأيين شائعين حول بشرية كلام
"النبي" محمد.  الفريق الأول ويحتج بقول القرآن: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى." أي أنه ينفي جواز الاجتهاد للنبي، مما يعني أن كل ما نطق به لسان محمد في حواراته مع زوجاته وأصحابه وخصومه ما هو إلا وحي من السماء.  أما الفريق الثاني فهو يحفظ للنبي آدميته، مفرقاً بين ما نزل من السماء على لسانه وما اجتهد به في غير ذلك.  يسوق معروف الرصافي بعض الوقائع التاريخية التي تنفي حجة الفريق الأول وتؤكد على البعد البشري لديه.  فعلى سبيل المثال، بعد انقضاء معركة أحد، خرج "النبي" يلتمس جثة عمه حمزة بن عبد المطلب، فوجده مبقور البطن مجدوع الأنف والأذنين، فاصابه غضب شديد، وحلف أن يمثل بسبعين من قريش لو ظفر بهم.  إلا أنه عندما سكن غضبه، وانطفأت ناره، نهى  أصحابه عن المثلة، كما يقول في القرآن: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين."  لكن تبقى حادثة الغرانيق الشهيرة الدليل الأكثر وضوحاً على أن النبي قد ينطق بالهوى، وذلك عندما جرى على لسانه الآيات التالية: "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى."  يذكر أن كفار قريش فرحوا للغاية عند سماع النبي يتلوا هذه الآيات، فسجد كل من في النادي من مسلمين وكفار في مشهد مهيب لا يتكرر. لكن النبي عندما عاود مراجعة نفسه، شعر بفداحة هذه الزلة الخطيرة التي مايعت ما بين الإسلام والشرك بالله.  لهذا فقد تراجع عن مديح أصنام قريش وعاد لمهاجمتها والتعريض بها بواسطة آيات أخرى.  وأخيراً ليس هناك أبلغ من كلماته الاعتذارية لفلاحي المدينة الذين قبلوا بمشورته ـ وهو الذي لا يملك خبرة بأمور الزراعة وهمومها بحكم نشأته في مجتمع تجاري في مكة ـ فعندما هلك محصولهم، قال لهم: "أنتم أعلم بأمور (أو شؤون) دنياكم." وهناك المزيد من الأحداث الأخرى التي لم يكن للسماء دور في توجيه "النبي"، بل تصرف فيها كبشر عادي، له كغيره نصيب من الاجتهادات، وحظه من الأخطاء.  لهذا كله يجب التعامل مع أحاديثه سواء الصحيحة أو المدسوسة عليه بكثير من الحذر والحرص، خاصة تلك التي تتعامل مع مسائل علمية وتاريخية.  إذ ليس لدي أدنى شك في أن تكون تلك المرويات ما هي إلا انعكاساً لحصيلة لقراءات محمد وإطلاعه على الكتب المتداولة قبل البعثة، وأمسيات المثاقفة الطويلة مع ورقة بن نوفل، واتصاله ببعض (أنصاف المتألهين) مثل أمية بن الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل.  ولعل الأحاديث الثلاثة التي سأوردها في الجزء المتبقي من هذه المقالة ستكشف الفارق الهائل بين العلم والخرافة، وبين طفولة الحكايات الشعبية ونضوج الاكتشافات العلمية، وبين مسامرات المجالس والنوادي وجدية وصرامة الأجواء المختبرية والبحثية.                    

ـ يحتوي صحيحا البخاري ومسلم على الحديث التالي والذي جاء على لسان الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري: "كنت مع النبي في المسجد عند غروب الشمس، فقال: ياأبا ذر! أتدري أين تغرب الشمس؟، فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها".  وفي ضمن الإطار هناك حديث مشابه ورد في صحيح البخاري بالنص التالي: "إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني الشيطان..).  لا حاجة بالطبع للتذكير بأن طلاب المرحلة الإعدادية وربما الابتدائية يدرسون في مقرر الجغرافيا أن الشروق والغروب لا يعزى لحركة الشمس فهي ثابتة في مكانها، ولكن لأن الأرض تدور حول نفسها كل يوم مرة.  وعلى ما يبدو فإن الشيخ المتوفى عبد العزيز بن باز قد أطلع على هذا الحديث وفهم الآية القرآنية على أنها حقيقة علمية لا يمكن التشكيك والطعن فيها.  ولهذا فقد أصدر كتابه[1] الذائع الصيت في عام 1974 منكراً فيه ما يدعيه علماء الغرب حول دوران الأرض.  وليت الأمر وصل إلى حد الإنكار فحسب بل أن تصديق المرء بمثل هذه "الهرطقة العلمية" يجعله في حكم المرتد، ويجب أن يستتاب، وإلا قتل كافراً مرتداً ويؤول ماله فيئاً لبيت مال المسلمين (تخيل؟!) 

ـ هناك حديث آخر مذكور في الصحيحين يصف فيه محمد الطول الفارع لأبي البشر آدم حيث كان طوله عند طرده من الجنة ونزوله الأرض بستين ذراع (حوالي 30 متر).  غير أن الاكتشافات والحفريات العلمية الحديثة التي توصل لها العلماء (الكفار طبعاً!) جاءت بنتائج تتناقض جملة وتفصيلاً مع الحديث المذكور.  إن عمر الإنسان على الأرض يتجاوز ملايين السنيين، وهو تاريخ يتجاوز بكل المقاييس الفترة التقريبية لهبوط آدم وحواء على الأرض.  والأهم من ذلك كله، أن الحفريات العلمية عن أقدم الرفات البشرية وجدت أن الإنسان البدائي، عكس ما يتصوره الكثيرون، أقرب للقرد!  يقول الباحث التاريخي خزعل الماجدي: "وقد كان للتطورات البيولوجية التي طرأت على شكل الإنسان آنذاك مثل حركة الإبهام وانفصاله عن بقية الأصابع وقدرته على مسك واستخدام الأشياء وموقع العينين القادر على النظر بوضوح وتركيز، وكبر الدماغ وانحسار الفك إلى الوراء قليلاً.." (أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ: خزعل الماجدي،ص 26).  واختصاراً للقول فإن طول الإنسان البدائي لم يكن يقل عما هو عليه الآن إن لم يكن أقل (أكذوبة الأعجاز العلمي (5): أخطاء البخاري العلمية: خالد منتصر، موقع إيلاف الإلكتروني).  إن المبالغات التي يطفح بها الحديث النبوي لم تكن سوى تعبيراً عن الثقافة الشعبية السائدة وقتها بدليل أن الشعوب القديمة كانت غالباً ما تلجأ إلى أسطرة وتضخيم الشخصيات ومنحها صفات جسمانية خارقة وسنوات عمر خيالية تصل لمئات وربما آلاف السنين.

ـ وهذا حديث آخر أخرجه الشيخان (أي البخاري ومسلم) يقول فيه: "إذا سمعتم صياح الديكة فأسالوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطاناً."  يفند الدكتور خالد منتصر (أكذوبة الأعجاز العلمي (5): أخطاء البخاري العلمية، موقع إيلاف الإلكتروني) بالعقل والمنطق ما يذهب إليه الحديث بقوله: ".. فالقرآن والحديث ينصان على أن لكل ابن آدم ملائكة حفظة وملكان يكتبان أعماله وعلى ذلك فلا بد أن تصيح الديكة طيلة الأربع وعشرين ساعة، وكذلك الحال مع الحمار لابد هو الآخر أن ينهق أربعا وعشرين ساعة لأن لكل إنسان شيطاناً موكلاُ به وقريناً يضلله، وفي القرى المصرية نشاهد حميراً كثيرة أمام المساجد وفي الشوارع فيجب عليها طبقاً للأحاديث أن تنهق عند الآذان لأن هناك حديثاً يقول أنه إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط، فهنا كان لابد للحمار أن ينهق عند سماع صوت المؤذن لأنه سيشاهد الشيطان الذي خرج وأدبر."
 
يتبع.....

[1]  يورد بن باز في كتابه الصادر من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة "الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض" المقطع التالي فص الصفحات 24-23:
"فلم يزل الناس، مسلمهم وكافرهم، يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة، ويشاهدون الأرض قارة ثابتة، ويشاهدون كل بلد وكل جبل في جهته لم يتغير من ذلك شيء. ولو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والأشجار والأنهار لا قرار لها.  وهذا جبل النور في مكة في محله، وهذا جبل أحد في المدينة في محله".  منقول من كتاب العلماء والعرش للدكتور أنور عبد الله. 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط