هشام محمد / Dec 05, 2008

كتب الشيخ عائض القرني، مؤلف كتاب "لا تحزن" الذائع الصيت والأعلى مبيعا، في جريدة الشرق الأوسط، وبتاريخ 14 فبراير من العام 2008 التالي:

"أكتب هذه المقالة من باريس في رحلة علاج الركبتين وأخشى أن أتهم بميلي إلى الغرب وأنا أكتبُ عنهم شهادة حق وإنصاف، ووالله إن غبار حذاء محمد بن عبد الله (صلى الله عليه اوسلم) أحب إلي من أوروبا وأمريكا مجتمعتين.  ولكن الاعتراف بحسنات الآخرين منهج قرآني، يقول تعالى: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة"، وقد أقمت في باريس أراجع الأطباء وأدخل المكتبات وأشاهد الناس وأنظر إلى تعاملهم فأجد رقة الحضارة، وتهذيب الطباع، ولطف المشاعر، وحفاوة اللقاء، حسن التأدب مع الآخر، أصوات هادئة، حياة منظمة، التزام بالمواعيد، ترتيب في شؤون الحياة، أما نحن العرب فقد سبقني ابن خلدون لوصفنا بالتوحش والغلظة، وأنا أفخر بأني عربي؛ لأن القرآن عربي والنبي عربي، ولولا أن الوحي هذّب أتباعه لبقينا في مراتع هبل واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.  ولكننا لم نزل نحن العرب من الجفاء والقسوة بقدر ابتعادنا عن الشرع المطهر، نحن مجتمع غلظة وفظاظة إلا من رحم الله، فبعض المشايخ وطلبة العلم وأنا منهم جفاة في الخُلُق، وتصحّر في النفوس، حتى إن بعض العلماء إذا سألته أكفهرَّ وعبس وبسر..." (الشرق الأوسط 14 فبرائر 2008). 

*********

ايقظت مقالة الشيخ عائض الباريسية في الذاكرة اسم رفاعة الطهطاوي، ذلك الشيخ الأزهري الذي سافر مع بدايات القرن التاسع عشر إلى باريس ضمن بعثة علمية أرسلها الحاكم المستنير محمد علي باشا.  سافر رفاعة إلى بلاد "الفرنجة" كما كان يحلو له أن يسميها، وهو لم يخبر بلادا غير مصر، ولم يعرف ديناً سوى الإسلام.  هناك في مدينة النور، خالط رفاعة الفرنسيين، وقرأ كتبهم واطلع على علومهم، وتحدث إليهم واستمع إليهم.  عاد رفاعة إلى أرض المحروسة، يتأبط اسلاماً متفتحاً يؤمن بالعلم والعقل لا بالعنعنة والنقل، ويحمل اسلاماً جديداً يرى المرأة شريكاً ونداً لا فتنة وعورة.  وبالعودة إلى مقالة الشيخ عائض، فمن النادر أن تهج حمامات سلام من أكمام حروف شيخ سلفي، ومن النادر أن يتحول سيف شيخ سلفي إلى وردة.  لا أقصد الشيخ عائض تحديداً، بل اعني غلاة السلفية والمتزمتين منهم.  وبما أن الاعتراف المحتشم ببعض من فضائل الحضارة الغربية قد يوحي لمريديه ومنتقديه بشيء من التخاذل، وببعض من الانبهار، فقد سارع الشيخ إلى التأكيد على أن غبار حذاء النبي أحب إلى قلبه من أوروبا وامريكا مجتمعتين.  هذا عن قيمة الغبار المنثور في الفضاء...فكم ستساوي قيمة الحذاء إذناً؟!

 

ما حرضني على كتابة هذه المقالة، ما سطره شيخنا الجليل بقوله أنه لولا الوحي المرسل إلى النبي لبقينا عاكفين على عبادة هبل والللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.  إن الربط بين انبلاج نور النبوة وأفول عبادة الأصنام بالتأكيد هو مسلمة تاريخية لدى كل مسلم، بل هو حجر الزاوية في البناء العقدي للمسلم.  والحق أن معظم المسلمين يؤمنون بما هو أكثر من ذلك.  فلولا النبي محمد لما عرفنا فضل السواك على معجون الأسنان.  ولولا النبي محمد لما عرفنا أن المرأة في الأصل كانت ضلعاً أعوج.  ولولا النبي محمد لما عرفنا بأن أكثر أهل النار هم من النساء.  ولولا النبي محمد لما عرفنا أن من يتخلف عن صلاة الفجر فإن الشيطان قد بال في أذنه.  ولولا النبي محمد لما عرفنا أن الشمس وهي تسيل وراء الأفق قد ذهبت لتسجد تحت العرش.  ولولا النبي محمد لما عرفنا أن الحجر سينطق وينادي المسلم في آخر الزمان حتى يجهز على اليهودي المختبيء وراءه.  ولولا النبي محمد لما عرفنا كيف نقف، وكيف نجلس، وكيف ننام، وكيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف نضحك، وكيف نحزن، وكيف....وكيف....

 

لنطرح كل هذا جانباً، ولنقف على مسألة علاقة صعود ديانة الإسلام بسقوط عبادة الأصنام.  هناك نقطتان جديرتان بالطرح.  وهي تبقى في آخر المطاف مجرد اجتهادات بشرية قابلة للنقاش، وليست بحقائق مطلقة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.  وسيكون كتاب الدكتور شاكر النابلسي "لو لم يظهر الإسلام ما حال العرب الآن؟ سيناريوهات مختلفة للواقع المضاد دينياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً" مرجعاً للاستشهاد به في الجزء المتبقي من المقالة.

 

أولاً، قبل ولادة الإسلام، كانت جزيرة العرب عامة، ومكة خاصة، وطناً يضج بالديانات على اختلاف ألوانها الأرضية والسماوية.  كانت مكة أشبه بلوحة فسيفساء فريدة لما حوته من أديان وعقائد، عاشت جنباً إلى جنب في سلام وامان.  ومما يؤكد على وجود هذا التنوع الديني والتسامح العقائدي أن كتب التاريخ واخبار الرواة لم تحدثنا عن معارك دارت، ودماء سالت، من أجل نصرة إله ما على إله آخر.  ويخطيء الكثير منا عندما يظن أن قريش أدارت ظهرها لإله الإسلام من أجل عيون هبل والعزى ومناه.  الحقيقة أنهم كانوا يعرفون من هو الله، ويؤمنون به كإله أكبر، وأكبر دليل على ذلك أن الكثير من الأشخاص حملوا أسم "عبدالله"، وكان منهم والد النبي محمد.  إلا أنهم كانوا يتزلفون إلى هذا اللامرئي البعيد بألهات أرضية لتشفع لهم عند هذا المتعالي وراء السماء السابعة.  فضلاً عن ذلك، فقد كانت آلهة قريش مجرد أبقار سمينة تدر على سادة قريش المال الوفير لكون مكة قبلة الحجاج ومهوى القلوب.  ومما يذكر بهذا الخصوص أن الصحن المكي كان يزدحم بثلاثمائة وستين صنماً، إلى جانب صورة المسيح ومريم العذراء المعلقتين في جوف الكعبة.

 

أما إذا تركنا مكة، فسنجد اليهودية وقد استقرت في يثرب وخيبر.  ولم يكن اليهود فاعلين دينياً أو سياسياً لانشغالهم في تعاطي التجارة والزراعة والحرف اليدوية، دون أن ننسى أن اليهودية بطبعها ديانة منكفئة على ذاتها، ولا تطمح إلى اكتساب أتباع جدد.  أما المسيحية فقد كانت أكثر نشاطاً من اليهودية في تنصير المؤمنين.  ويذكر أن العديد من القبائل قد دانت بالمسيحية، ومنها قبائل طي وبني عذرة.  وهناك الحنيفية، وهي ديانة توحيدية تبنّى أفكارها وطقوسها الإسلام فيما بعد.  ومن أمثلة التصورات والطقوس الحنيفية والتي تم فيما بعد أسلمتها: عبادة الله لا شريك له، حج البيت الحرام، صوم رمضان، الختان، تحريم الربا، تحريم أكل الخنزير، تحريم وأد البنات، وما إلى ذلك من ممارسات تجد صداها في الدين الإسلامي.  إنَّ ما يفرق الحنيفية عن باقي الديانات الأخرى أنها كانت ذات طابع نخبوي يجتذب فئة محددة من المثقفين، أمثال قس بن ساعدة، زيد بن نفيل، عبدالله بن أبي الصلت، حبيب بن ثمامة (رحمان اليمامة أو ما يعرف في الكتابات الإسلامية بمسيلمة الكذاب)، وعبدالمطلب بن هاشم (جد النبي).  زبدة الكلام، إن القول بأنّ الجزيرة كانت أرضاً للأوثان فقط فيه كثير من التجني على حقائق التاريخ والتجاهل لما عرفته المنطقة من تعددية الأديان والتعايش السلمي فيما بينها قبل أن يمحى كل هذا مع سيادة الإسلام.

 

ثانياً، العقائد الدينية نتاج تطورات مجتمعية وفكرية وسياسية واقتصادية، وليست بمادة عصية على التغيير والتحول.  انظر إلى حال الديانات الوثنية في بلاد الشرق الأدنى وتقلباتها وديناميكيتها وتعاقب آلهتها.  إن العقل البشري الذي تصور قبل قرون أن انحباس المطر واحتضار الأرض يعود إلى مقتل الإله "بعل" على يد الإله الشرير "موت"، وأن انسكاب مياه الغيوم واحتفاء الأرض (الأم) بماء الغيم (مني السماء) يرجع إلى مصرع الإله "موت" وطحنه وذر رماده في الحقول الظمآنة على يد "عناه" المحاربة وأخت "بعل" المفجوعة بموت أخيها الشاب أبي الغيث، أقول أن هذا العقل ما عاد اليوم يصدق هذه الأساطير بعد كل هذه الفتوحات المعرفية والاكتشافات العلمية.  إن الرياح تحفر أجساد الجبال وتنقش وجه الصخور الصلدة، فهل يعقل أن تبقى اللات والعزى ومناة الثالثة صامدة أمام أمواج التغيير طيلة هذه القرون؟  ومما يعضد ما أشرت إليه، أن سعيد بن العاص عندما حضرته المنية راح يبكي، فقال له أبو لهب: ما يبكيك؟ أمن الموت تبكي؟ فقال له ابن العاص: لا، ولكني أخاف ألا تعبد العزى من بعدي.  إن مخاوف ابن العاص على مستقبل عبادة الأصنام ليست بسبب التهديد الإسلامي المنتظر، ولكن لتراجع الحياة الدينية عند المكيين المنطلقين بقوة عبر الآفاق في بناء مدينة اقتصادية ثرية، تشبه إلى حد كبير دبي أو هونج كونج هذه الأيام.  ومن القصص المتداولة عن بروز ظاهرة احتقار الأصنام، ما قام به الشاعر امرىء القيس الذي سب الصنم، وكسر القداح في وجهه.  كما كان لبني ملكان بن كنانة صنم، يقال له "سعد"، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته، فلما رأته الإبل نفرت منه فذهبت في كل وجه، فغضب الملكاني، فأخذ حجرا فرماه به، ثم قال :

    أتينا إلى سعد ليجمع شملنا                 فشتتنا سعد فلا نحن من سعد 

 

إن الإيحاء المتكرر بإن عبادة الأصنام كانت غائصة في اعماق المجتمع العربي، و متغلغلة في تلافيفه الروحية هو بهدف تضخيم دور الإسلام، وتعظيم انتصاره على عبادة الأوثان، والتي في رأيي أنها كانت مثل أوراق الخريف الصفراء، لو لم يزحزحها الإسلام فإن الزمان والتطور البشري كفيلان بالإطاحة بها.  إن محاولات مشائخ الإسلام المستميتة في تمجيد شخصيات الإسلام الأولى، ورفعها إلى عنان السماء، يدفعها - وربما بلا قصد - إلى أبلسة خصوم تلك المرحلة، وتزويدها بقوى استثنائية حتى يكون للانتصار الإسلامي لوناً لافتاً ومذاقاً خاصاً، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال تهويل الدور الذي لعبته الأوثان في حياة العرب.  الأسوأ من هذا كله، أن هذا السلوك الفكري لرجال الدين ينطوي ضمناً على تقزيم ذواتنا، نحن أبناء هذا الزمان، وكأننا ما كنا لنعرف شيئا لولا تلك الرسائل السماوية.  لا غرابة أن تجعلنا تلك العقيدة التحقيرية نكاد نستحي من أن ننظر إلى وجوهنا في المرآة، ويتمنى أحدنا لو كان مجرد غبارٍ تثيره نعلا الرسول الكريم.

=========

هشام محمد   affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط