جوزيف بشارة / Oct 27, 2006

قبل نحو أسبوعين قام مسلحون بنحر القس بولس اسكندر راعي كنيسة مار افرام للسريان الارثوذكس بالموصل، العراق، وذلك بعد أيام قليلة من اختطافه. وأعلنت مصادر قريبة من القس الراحل أن عملية الإعدام الوحشية تمت بسسب رفضه الانصياع لطلب المتطرفين باعتناق الإسلام. مر الحدث مرور الكرام على الأطراف العراقية المتناحرة والقوى الدولية المتورطة في المسألة العراقية، اللهم من بعض عبارات التنديد والأسف الجوفاء وشعارات الوحدة الوطنية البالية. رأى البعض أن الحادث لا يمكن فهمه بمعزل عن الحرب الطائفية الدائرة في العراق والتي راح ضحيتها ما يزيد عن نصف مليون عراقي في السنوات الثلاث الأخيرة. غير أن البعض الأخر قام بالربط بين ذبح القس اسكندر ومحاضرة البابا بينيديكت السادس عشر، بابا الفاتيكان، التي اقتبس فيها فقرات من كتاب يحتوي على عبارات تتعلق بانتشار الإسلام بالسيف كان أدلى بها إمبراطور بيزنطي في القرن الحادي عشر الميلادي. جاء الربط بين اغتيال رجل الدين المسيحي ومحاضرة البابا، بعد مظاهرات التنديد الواسعة التي اجتاحت العالم الإسلامي ودعاوى الانتقام التي رفعها الإسلاميون وحملات الهجوم التي تعرضت لها مصالح المسيحيين في العالم الإسلامي والتي كان منها اغتيال راهبة كاثوليكية في دولة الصومال التي يسيطر على مناطق واسعة منها عناصر إسلامية متطرفة. رغم منطقية الرأيين السابقين، إلا انه يجب الإشارة إلى أن المسيحيين لم يكونوا يوماً طرفاً في الحرب الطائفية الدائرة بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة، كما أن المسيحيين لم يعلنوا أبداً تأييدهم لطرف ضد الأخر. ومن ناحية أخرى فقد سعى المسيحيون المقيمون في العراق قدر طاقتهم للنأي بأنفسهم بعيداً عن محاضرة البابا بينيدكت المشار إليها، ويجدر بالذكر هنا أن القس المنحور كان أرثوذكسياً، ومن ثم تسقط جزئياً الدعاوى القائلة باعتبار قتله انتقاماً من رجال البابا بينيديكت في العراق.

 

هناك حقيقتان تتعلقان بالأوضاع الحالية للمسيحيين في العراق لا ينبغي غض النظر عنهما. الحقيقة الأولى التي يحاول البعض إخفاءها هي أن العراق يبدو مقبلاً على مرحلة قاسية من الحرب الأهلية يسعر نارها إرهاب المتطرفين والتكفيريين والرافضين للتعددية. وهي المرحلة التي يبدو أنه لم يعد للمسيحيين دور يذكر فيها. لذا نجد أن نسبة كبيرة منهم تقدر بمئات الألاف غادرت العراق إلى كردستان وسوريا والأردن هرباً من الاضطهاد البربري المنظم الذي يشنه الإرهابيون ضدهم في السنوات الأخيرة. ولعل الإعلان عن الإمارة الإسلامية في بعض المدن العراقية هو خير دليل على أن وجود المسيحيين في هذه المدن لم يعد مرغوباً فيه من قبل الإرهابيين المسيطرين على زمام الأمور هناك. وفي ظل الأجواء الملتهبة بنار الإسلاميين الإرهابيين في العراق لم يكن مدهشاً ذبح القس بولس اسكندر في الموصل التي شهدت مؤخراً توزيع منشورات تطالب العراقيين بإبداء الطاعة والولاء للإرهابي أبو عمر البغدادي الذي نصب نفسه أميراً لإمارة العراق الإسلامية في الموصل وصلاح الدين والأنبار وغيرها من المدن العراقية التي تسكنها غالبية سنية. ولذا فلم يكن مدهشاً توالي أنباء هروب المسيحيين العراقيين من وطنهم، خاصة بعدما تخلى عنهم الجميع في مواجهتهم للإرهاب المتزايد نحوهم ونحو مصالحهم الاقتصادية ودور عباداتهم. فالحكومة العراقية، بافتراض حسن نيتها تجاه المسيحيين، لا تزال غير قادرة على الإمساك بزمام الأمور بعد انتشار الانفلات الامني إلى معظم المدن العراقية. كما أن القوات الأمريكية، التي حافظ المسيحيون العراقيون على علاقات باردة معهم حتى لا يتهموا بوطنيتهم وحتى لا يوصموا بالخيانة أو العمالة للقوات الأجنبية،  لم تكن أبداً حماية الأقلية المسيحية إحدى أهدافها خلال حرب عزل صدام حسين وبعدها.

 

أما الحقيقة الثانية فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأوضاع المسيحيين في الدول العربية والإسلامية بشكل عام. هذه الأوضاع المزرية المشينة تشير إلى خطط خبيثة غير معلنة تخبئ مستقبلاً غامضاً للمسيحيين في هذه الدول. لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن المقصود من تضييق الخناق على المسيحيين من قبل المتأسلمين المتطرفين والإرهابيين هو تفريغ الدول ذات الأغلبية المسلمة تماماً من المسيحيين. نعم، فبعد تفريغ شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية من المسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، جاء الدور الأن لاقتلاع الجذور التاريخية للمسيحية من البقية المتبقية من الدول التي تحوي أقليات مسيحية ملموسة مثل لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والسودان، فضلاً عن نيجيريا وأندونيسيا. لقد تناقصت أعداد المسيحيين في معظم هذه الدول بصورة مذهلة في السنوات الأخيرة بسبب الاضطهادات العنيفة التي يتعرضون لها والتي تبدأ بالاستبعاد والتجاهل مروراً بالمضايقات النفسية والجسدية والتهديد وانتهاك العرض والتنكيل وإهدار الحقوق وتنتهي بالقتل الذي يصل في كثير من الأحيان إلى المجازر الجماعية. وقد جاء تناقص أعداد المسيحيين بعدما قرر مئات الآلاف منهم الهجرة إلى الخارج كسبيل وحيد للخروج والهروب من حلقات التعنت والحقد الكراهية التي التفت حول رقابهم، بعدما تزايد نفوذ الإسلاميين المتطرفيين بشكل خطير في السنوات الأخيرة. الملاحظ هنا ان القادرين مادياً فقط هم الذين يهاجرون، في حين يبقى الفقراء تحت رحمة الإرهاب وعرضة للتغيير القسري للعقيدة.

 

لقد ذبح القس بولس اسكندر بالسيف في العراق في القرن الحادي والعشرين لرفضه تغيير عقيدته. ورغم أن ذبح رجل الدين العراقي ليس الحالة الأولى أو الأخيرة في التاريخ لذبح مسيحيين على أيدي متطرفين مسلمين، إلا أن قضية القس اسكندر تتفرد عن غيرها من الحالات الأخرى لأنها تجيء في الوقت الذي هاج فيه العالم الإسلامي هوجته الشهيرة اعتراضاً على اقتباس البابا بينيديكت السادس عشر لمقولة الإمبراطور البيزنطي التي ربطت انتشار الإسلام بالعنف. الغريب والعجيب والمقزز في الوقت نفسه أن نخبة كبيرة وقائمة طويلة من المتأسلمين برفضهم القاطع لنظرية استخدام العنف والسيف والحروب والغزوات في نشر الإسلام ليس فقط يزيفون التاريخ، وإنما يتجاهلون وينكرون الاضطهاد الحالي الواقع على المسيحيين في معظم دول العالم الإسلامي. ولكن إلى هؤلاء أقول ما حاجتنا بعد إلى دليل تاريخي على استخدام العنف للتخلص من غير المسلمين، فالحاضر الذي نعيشه ربما تشهد أحداثه المؤسفة على ذلك! من المؤسف أن محاولات تجميل التاريخ والحاضر الإسلامي تجيء لتنتقص من الحقوق الأدبية والمعنوية والحيوية للمسيحيين. فلقد أخطأت بعض الشخصيات التاريخية الإسلامية منذ الفرن السابع الميلادي حين استخدمت، في كثير من الحالات، العنف والترهيب والزكاة لتوحيد العقيدة في الدول الإسلامية. لم يكن المتأسلمون الناكرون للحقائق والواقع بحاجة لتزييف التاريخ للدفاع عن الإسلام أولاً لأن التاريخ لا ينسخ مهما حاولوا تجميله، وثانياً لأن أخطاء الشخصيات التاريخية ربما كانت شخصية لا علاقة لها بالعقيدة الإسلامية، وثالثاً لأن معظم أتباع الديانات ارتكبوا حماقات ضد الإنسانية عبر التاريخ وكان الاعتذار عن هذه الحماقات سبيلهم للاندماج في الحضارة الحديثة. ومن ثم فقد كان المتأسلمون المتطرفون بحاجة ماسة لا لتزييف التاريخ، ولكن لتنقية عقلياتهم وعقليات أتباعهم من الأفكار الهدامة التي تلغي العقل وتحرم حرية العقيدة وتمنع المساواة بين أفراد المجتمع الإنساني بدلاً من إنكار التاريخ.

 

الكارثة التي تزيد من إحباطات المسيحيين العراقيين وتزيد من أوضاعهم سوءاً وتعقيداً هي رفض الجميع مد يد المساعدة لهم، بل ورفض العديد من القوى الفاعلة الاعتراف بالمأزق الذي يعيشونه في وطنهم الذي عاشوا به قرون طويلة قبل الفتح العربي. ولكن إن لم يكن الأمر بالخطورة التي تدفعنا للقلق على مصير المسيحيين في العراق، وإن كانت كل الشكوك في نوايا الإسلاميين هي مجرد أوهام كما لا يزال يظن البعض، فما الذي يتعرض له المسيحيون في العراق؟ ولماذا هاجر أو هجر مئات الألاف منهم إلى كردستان وسوريا والأردن في الشهور القليلة الماضية؟ لا شك في أن الأوضاع الامنية في العراق تدعو ليس فقط للقلق ولكن أيضاً للخجل بعدما أثبتت بعض الفصائل العراقية والمتعرقنة، لا جميعها، عدم جدوى الديمقراطية مع الشعوب العربية والإسلامية. ولا شك في أن فشل الحكومة العراقية والقوات الأمريكية في الإمساك بزمام الأمور سيضاعف من تدهور الأمور في العراق وسيزيد من مشاكل الأقلية المسيحية تعقيداً. لقد خرج الأمر عن سيطرة القوات الأمريكية والحكومة العراقية، وأصبحت الفصائل البريئة من الشعب العراقي ومنها الأقلية المسيحية فريسة سهلة للإرهابيين البعثيين أو الإسلاميين العراقيين أو القادمين من الخارج. لا يبدو في الأفق أي أمل في حل للمسألة العراقية، ولذا لا يبدو في الأفق أيضاً أي أمل في حل لمسألة المسيحيين العراقيين طالما قتلت الضمائر وانتفت العقول وتحكمت لغة السيف والعنف والإرهاب في مصائر الأبرياء. لكم الله يا مسيحيو العراق. وإن كان الله معكم فمن إذن يكون عليكم. ومهما كانت الشدائد والضيقات والاضطهادات فلن تنجح مخططات استئصال المسيحيين من بلاد الرافدين.

===========

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط