بسام درويش / Sep 25, 1997

ماتت الأم تيريزا.

الأم الحنون تيريزا؟

 

هل نعزي ذويها وقد فقدها ذووها منذ أن اختارت البعد عنهم لخدمة ربها وأبناء ربها في كل أرجاء المعمورة؟..

 

أم نعزي بناتها الراهبات اللواتي ينتمين إلى كل أمم العالم، واللواتي اخترن بمحض إرادتهن أن يتركن كل مغريات العالم ليتبعنها، ويضعن أيديهنَّ في يدها، تماماً كما ترك تلاميذ المسيح شباكهم وعائلاتهم ليتبعوه في أعظم مسيرة حب شهدها التاريخ.

 

أم ترانا نعزي من هم أجدر بالعزاء من كل هؤلاء حقاً.. ومن هم سوى الفقراء والمرضى والمحرومين والمساكين والعطاشى والجياع الذين غمرتهم هذه الأم العظيمة بحنانها وإيمانها القوي، فأعانتهم على دمل جراحهم والخلاص من أمراضهم، وأوجدت لهم السقف والفراش والطعام والماء والدواء، وهي الفقيرة المعدومة التي لم يمنعها كبرها ولا مرضها في سنوات عمرها الأخيرة من متابعة مسيرتها في خدمتهم والسهر على راحتهم.

 

حقاً لقد تركت الأم تيريزا وراءها جيشاً كبيراً من المتطوعات نذرن حياتهن لمتابعة المسيرة.

 

حقاً لقد تركت الأم تيريزا آثاراً لن تمّحي من قلوب كل المساكين ومن على كل الأرصفة التي كانت للمساكين فراشاً.

 

حقاً لقد تركت الأم تيريزا مأثرة خالدة خلود رسالة معلمها.

 

ولكنها رحلت عن هذا العالم وهي آسفة خائفة..

 

لم ترحل آسفة على سنوات عمرها التي قضتها في خدمة الفقراء وهي التي اختارت سبيلها بمحض إرادتها.

 

ولم ترحل خائفة من الموت أو ما بعد الموت وهي التي قالت: "أنا لست أخشى الموت لأنني عندما أموت فإني ذاهبة إلى بيتي!"

 

ولكن الأم تيريزا قد رحلت والأسف يعمر قلبها لأنها كانت متعلقة بالأطفال الذين أحبتهم والمعتَّرين الذين شغفت بهم. رحلت والخوف يملأ قلبها لأنها كانت تخشى في قرارة نفسها أن يخلق رحيلها فراغاً كبيراً يؤثر على البيت الذي تعبت في بنائه على مدى نصف قرن من الزمن.

 

رحلت الأم تيريزا، وقبل أن ترحل، أعلنت رغبتها أن تدفن بهدوء كما يدفن الفقراء، ولكن حكومة الهند التي عرفت فضلها وقدّرت تضحياتها، لم تشأ إلاّ أن تكرّمها كما كرّمت الراحلين من عظمائها. كذلك لم يتوان ملوك العالم ورؤساؤه عن تكريمها، فحضر من حضر منهم بنفسه، وانتدب آخرون منهم من يمثلهم في إلقاء نظرة وداع على جثمانها الطاهر.

 

وكما كانت الأم تيريزا عظيمة مهيبة جليلة في حياتها، كانت عظيمة مهيبة جليلة في موتها. ولأنها لم تفرق في خدمتها للمحرومين بين مسيحي وهندوسي ومسلم وسيخي وبوذي، فقد وقف ممثلو هذه الأديان وغيرها وقفة إجلال واحترام أمام جثمانها، حيث تلا كل منهم صلواته بلغته الخاصة وحسب شعائر دينه بعيداً عن كل تعصب عرقي أو ديني.

 

هل ندعو للأم تيريزا بالرحمة ونحن بحاجة لدعائها أكثر من حاجتها هي لدعائنا؟

 

إننا وإذ نحيّي كل الرؤساء والملوك وممثلي مختلف الأديان الذين تقاطروا لتقديم آيات الاحترام للراحلة العظيمة، لا نملك إلا نعبّر عن اشمئزازنا لتصرف ممثل باكستان الذي جاء ليشارك في وداع الأم، لا لشيء، إلا لأن الدبلوماسية اقتضت حضوره، فاقترب من النعش وأخذ إكليل الزهر من بين يدي الضابط الهندي وألقى به أمام النعش بسرعة ثم انسحب دون أن يقف لحظة واحدة أو أن يتجه بنظره ناحية الجثمان، أو أن يظهر أدنى إشارة احترام أمام هذه الأم التي لم يعرف قلبها معنى لكلمة تعصب. 

 

رحلت أم الفقراء والمعوزين بجسدها، ولكن روحها ستبقى ترفرف فوق أبنائها الفقراء والمرضى والمساكين. رحلت ولكنها تركت وراءها جيشاً كبيراً سلاحه الإيمان والحب لا بدّ وأنها تشرف عليه من السماء حيث هي مع البررة.

رحلت الأم تيريزا، فقد حق لجسدها أن يستريح.

============

نشرت في بيروت تايمز  عدد 578  أيلول  1997 وفي آخر خبر عدد  18  تشرين الأول 1997 يعاد نشرها هنا مع بعض التعديل.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط