إبراهيم عرفات / Oct 03, 2009

لقد أضحى التحول من دين لآخر في مصر ظاهرة متكررة بشكل كثير الحدوث لم نألفه من قبل. غالباً ما تأتي هذه التحولات الدينية في خطاب شعبويّ سجاليّ انتصاري فيه ينقسم الناس لفسطاطين من أهل الأديان. منذ طفولتي اعتدت سماع الكثير من قصص التحول وكانت في مجملها هي قصص لأقباط يدخلون في الإسلام وقصص بعض الأوروبيين الذين يتم عرضهم بشكل انتصاريّ وكأنهم يتباهون بالغنيمة وما في ذلك من رجحان كفة في تثبيت المعتقد. في البلاد الأوروبية، وفي الحالة الطبيعية، لا أحد يكترث لتحول فلان لمعتقد أو خروجه من هذا المعتقد لأن هذه هي مسألة ضميرية ولا ينبغي أن تقرر مصير المجتمع كما هو الحال في مجتمعاتنا الشمولية بذهنيتها المشاعية الشمولية وعندهم اعتقاد الفرد ملك الجماعة المسلمة. هم يملكون وهم يبرمون قرارات الفرد المصيرية، ولهم الأمر من قبل ومن بعدُ. وفي حين كنا نسعد برؤية قصص نادرة لم تكن إلا نزراً يسيراً (مثل قصة الشيخ الفحام والشيخ ميخائيل كامل منصور وغيرها من قصص تعود للزمن السحيق) فنحن الآن أمام جملة كبيرة من التحولات. تطالعنا الانترنت بل والتلفزة العربية عن تحول فلانة أو فلان مثلا من الإسلام إلى المسيحية. من كان يصدق جرأة إمرأة في مجتمع كمصر مثل نجلاء الإمام وهي تخرج على الإعلام وتتحدث من قلب مصر عن حقها في أن تصبح مسيحية ودون أدنى شعور بالخزي أو الخجل من خطوة كتلك؟ نحن الآن حيال تغيرات جذرية تقلب مجتمعاتنا العربية رأساً على عقب حيث قد أضحى التحول للمسيحية أمراً مألوفاً نعتاد سماعه من حين لآخر بشكلٍ لم نألفه من قبل.

 

عندما سمعت بقصة السيدة ناهد متولي لأول مرة اندهشت وغلبني انبهار شديد وإعجاب شديد بآن. وأيضا عندما سمعت بتحول السيدة وفاء قسطنطين للإسلام غلبني إعجاب شديد وإنبهار شديد بآنٍ. السيدة وفاء قسطنطين، كمثال، هي زوجة قسيس والإسلام، في وقت من الأوقات، ينال إعجابها وتقديرها والمسلمون هم كذلك؛ ومن ثم تأخذ خطوة جادة لاعتناق الإسلام. بالطبع كلنا يعرف ثورة الكنيسة القبطية على خطوة كهذه، وهو الأمر المأسوف له حيث أني أتوقع أن أبناء الحرية ممن ينعمون بها يعطونها لغيرهم دون مشارطة. السيدة وفاء قسطنطين لم تكن قنية لأحد فيقرر لها أحد مصيرها الديني مبدياً ردود فعل مماثلة لما يبديه المسلمون عندما يتحول مسلم إلى ديانة أخرى غير الإسلام. كنت أتوقع أن الكنيسة القبطية تتركها وشأنها فتختار ما تشاء مادامت هي قد وجدت راحتها النفسية والقلبية في الإسلام، وأن الإسلام هو الآخر يوافق قناعاتها الضميرية. لكن للأسف التفكير الأبويّ البطريركي العشائري كثيراً ما يجري منا مجرى الدم من العروق حتى إننا نقوم بتهميش فردية الفرد والتي هي أولى ما حبا به الباريّ خليقته حيث كل كائن متفرد تفرد عجيب عن الآخر في بصمات اليد وتكوين الحامض النوويّ وأمور أخرى كهذه أكثر من أن أحصيها تؤكد أن الفردية لها السبق الأول والأخير لا الشمولية بما فيها من إملاء (قد يكون فاشستي) لرغبة المجتمع وتعسفه الجائر على الفرد.

 

أول مرة التقيت فيها شخص يتحول من ديانة إلى أخرى كان شابا قبطياًً واسمه رسمي سوريال صليب. فرحت بتحوله من المسيحية وتركه المسيحية وأنه قد انضم إلى فسطاطنا الإسلامي والذي كنت أعتبره فسطاط الحق والهداية. إنه ككثيرين من الأقباط الذين ينضمون لـ الدين الرسمي للدولة وبذاك يقف في صف الأغلبية الآمرة الناهية. تحول كهذا لا شك ينال دعم جميع القوى الأمنية بمصر ويتم دعمه على جميع الأصعدة لدخول واحد من الأقباط في دين الأغلبية المسلمة. قصّ رسمي قصته عليّ حيث كنت أريد منه أن يساعدني في إقناع ضيف مسيحي عندي بالإسلام وقال إنه كان لا يجد سوى روتينيات مكررة لم يجد فيها أي حياة. تعرف به جيرانه المسلمون فشرحوا له أمور الإسلام وبينوا له ما فيها من معقولية بدت معقولة لذهنه وشعر وأنه يفهم ما هو الدين لأول مرة. شعرت بزهو شديد لمعرفة رسمي وتمنيت أن أكون أنا أيضا سبباً من الأسباب التي يسخرها الله في هداية مسيحي أو مسيحية لديانة الإسلام. في المقابل، نجد ناهد متولي تبحث عن إله يقدّر كرامتها كإمرأة لا أن يراها ناقصة العقل والدين ومسها يبطل الوضوء وأن إفرازاتها الجسدية نجاسة من النجاسات. أذكر سعادتي الغامرة لسماع قصة رسمي والآن يعود بي الزمن للوراء فأشعر بالتعاطف معه في تحوّله للإسلام وفي الوقت ذاته أشعر مع ناهد متولي بتعاطف وتقدير مماثل لتحولها للمسيحية. في هذا وتلك، أجد ذاتي في كليهما ولا عجب حيث قال الشاعر الفرنسي أرثر رمبو: الآخرون هم أنا أو أنا هو الآخر. وما أكثر ما يثلج صدري كلما سمعت بقصص تحول إلى المسيحية مثل الأب عفيف عسيران صاحب ترجمة المزامير الشهيرة بأسلوبها القرآني العذب. له أيضا مؤسسة بيت العناية وهو مسلم شيعي سابق.

 

ربما يحسن بنا التعبير أن نصف حالة التحول الديني على أنها "أزمة" ولا يعيبها كونها أزمة فكثير من الابداعات والانتاجات والاختراعات التي أفادت البشرية قد كانت وليدة أزمة وأزمات؛ والحاجة أم الاختراع. الأزمة ربما تتمخص عن الابتكار وتحفز على الانتاج والخلق والإبداع. ما أخشاه هو البلادة والخمول والركون إلى حالة واحدة وتبقى الحياة فيها على وتيرة واحدة ومعها يبقى الإنسان "محلك سرّ" أو بحجة أن هذا التحول قد يؤدي إلى فتنة طائفية وبالتالى على المرء أن يرضخ لمعاييرهم الاستاتيكية النمطية المألوفة بما فيها من روتينية. قد يطمئن الإنسان إلى حياته فلا يراجع شيء ولا يعيد حساباته في أي شيء فيغلب عليها الضجر وتفكيره يغلب عليه الاجترار فيعيد الكلام ذاته في كل مرة على أثر التلقين العقائدي الاستاتيكي. عند الجواب يسترجع ما سبق أن اجتره. حيال بشر كهذه تشعر أنك أمام إنسان آلي "روبوت" يجيب أجوبة أوتوماتيكية ويتصرف تصرفات أوتوماتيكية وكل شيء متوقع سلفاً وكأنك قد كبست على زر جهاز التسجيل فيقول لك كل شيء مسجّل على الشريط. وثمة أزمة،إذن. أزمة تعصف بالحالة النفسية فتتبدل الثوابت إلى حال لم تكن عليه من قبل فتصعد إلى طاولة الفحص والتمحيص والتجريب ولا تبقى ثوابت غيبية فيما بعد. تحدث أزمة تعصف بالوجدان فيقرر شيء ما أمام محكمة الضمير فيتحرك وجدانه تجاه ما يجعله إنسان أكثر صدقاً مع نفسه.

 

كثير من السيدات المسلمات تواجهن أزمات تعصف بصميم الأمن والطمأنينة في حياتهن الزوجية فينشدن حياة أكثر استقرارًا وأكثر أمانًا وإذذاك يلجأن للمسيحية. هذا التحول لا يحدث بين يوم وليلة ولمجرد الرغبة في التحول ولكنه أمر يعصف بالإنسان عصفاً فيأخذ قرارًا جذريًا يؤثر كليةً على سائر مجريات حياته/ حياتها. كثير من المسلمات  يلجأن لمسيحية تشير إلى الأمان فتتراءى لهن القديسة مريم العذراء لأنها صورة الأم والأم تحمل معها إشارة إلى البيت واستقراره وطمأنينته. المسيحية الإنجيلية هي إنجيل فقط وأما المسيحية الأرثوذكسية أو الكاثوليكية فتحمل معها الكنيسة الأم؛ والقديس قبريانوس يقول: "من لا يقدر أن يأخذ بالله أباً له فلا تكونن الكنيسة أماً له". في صميم هذه السيدات المسلمات بحث عن البيت واستقراره وأمانه والمسيحية في صورة بيت توفر هذا والعذراء في صورة أم تصبح الصدر الحنون الذي تتكأ عليه السيدات هذه وسط هذه الأزمات. البيت لا يكون بيتاً بدون الأم، الأم هي الصورة المجسدة لكيان البيت، والبيت بدوره صورة مصغرة عن البيت الأكبر وهو الوطن بما يحمل من معاني الأمان. عندما أشير على فتاة مسلمة قد اعتنقت المسيحية أن تذهب للكنيسة الإنجيلية لا يعجبها الاقتراح حيث هذه الكنيسة في نظرها كتاب فقط في حين هي تبحث عن الأم المتمثلة في العذراء في الكنيسة وما تحمله من معاني دفء الأمومة وأمان البيت. الكنيسة الإنجيلية مرجعيتها الكتاب فقط أي الكتاب المقدس وقد قامت بتجريد بيت العبادة من رموز العبادة كالصور والبخور وكل هذه الرموز التاريخية الغنية التي تضفي على بيت العبادة جو البيت؛ ومن ثم فهي "كنيسة كتابية" لقوم من "أهل الكتاب" لا يقرون شيئاً سوى "الكتاب" والكتاب وحده. إذا، ليس عجيباً أن تلجأ معظم المسلمات وسط أزمة التحول الديني إلى بيت كبير يدعى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وربما الكاثوليكية بحثاً عن البيت المنشود في التقاء بالأم الحانية القديسة العذراء مريم بما تمثله من حنان الأمومة في بيت هو الكنيسة.

 

قلنا إن المرأة تحمل في داخلها إشارة إلى الوطن الأكبر والذي يجسدها بيتها وطنها الأصغر إذا هي أيضا وطنٌ بذاتها. وهل شعر المواطن المصري بالانتماء الصادق لوطنه؟ عندما نسمع كلمة الوطنية نتذكر الأغاني الوطنية التي أغرقونا بها منذ الطفولة وكثرة الحديث اللزج المائع عن الوطن وحب الوطن والوطنية. ولكن هل انغرس بصدق حب الوطن بداخلنا من البدء؟ هل يولد المواطن المصري وبداخله شعور صادق بالانتماء بالوطنية؟ ما أكثر ما نسمع من عبارات مثل "البلد بنت دين الـ....." وأشباهها من عبارات خرجت من نفس مقهورة تعاني من الاحتقان النفسي المتأزم داخلياً في جو كله أزمات سواء كانت أزمة تعليم أو أزمة حرية أو أزمة ديموقراطية أو أزمة بطالة وأزمات لا حصر لها تنفرد بها مصر رغم ما بها من موارد كثيرة وهبات قد حباها بها الباريّ منذ بدء التاريخ. هل تأصّل بداخلنا شعور صادق يعكس صدى لأغنية الفنان محمد عبد الوهاب وطني الحبيب بيتي الأكبر؟ هل يشعر الطفل بالأمان منذ البداية في بيته الأكبر وطنه؟ أم تتم معاملته وكأنه نكرة من النكرات وأشياء تسمى أطفال؟ في فرنسا والبلاد الأوروبية يتم تشجيع الناس على معاملة أطفالهن على أنهن كبار ناضجين والشاعر وردسورث قال إن الطفل هو أبٌ للإنسان. سمعت أن الرئيس الجزائري أحمد بن بيللا قال لهم إنكم حينما تبصقون على تراب الأرض فأنتم تبصقون على الجزائر نفسها... من يومها وأنا أحاول تذكر ذلك وأعلم أن البص على تراب الأرض قد يعني البصق على الوطن نفسه بما يحمل من قدسية. وبحكمي مهاجر فقد لاحظت أن المواطن الأميركي العادي قد تربى على أساس أنه أميركي وأن أميركا هي بلده ويتحدث عنها دوماً بعبارة "بلدي..." و"في بلدي....". نحن نقول بإفراط عبارات مثل "في ديننا" وهم يقولون "في بلدنا" و"في بلدي". تربينا على الشوفينية الدينية والإقصاء باسم الدين والله وغيرنا شعر بالالتصاق بوطنه ويضعه في أولى أولوياته. النعرة الدينية هي أكبر وبال يحلّ بنا وعلى مذبح الإله ينحر الإنسان أخيه الإنسان قرباناً ظاناً أنه يقدم خدمة لوجه الله.

 

أسلفنا وقلنا إن التحول الديني ينبع من أحشاء الأزمة التي تعتمل في أعماق وجدان الضمير الإنساني. ولكن ماذا عن أزمتي أنا إبراهيم عرفات؟ لماذا تنصّرت واعتنقت المسيحية وتركت الإسلام؟

 

بالنسبة للأسباب الحقيقية التي دفعتني لترك الإسلام، فإنه ليس باليسير أن أجملها في سبب واحد أو جملة محصورة من الأسباب. يكفي القول إنها تبدأ بـ  أزمة في الحياة. إنها أزمة تتمخص عن معاناة داخلية تهز الإنسان هزًا عنيفًا و تقوض مضجعه. لذا فهو يعيد حساباته في كل الثوابت و الموجودات وكل شيء يخضعه للشكّ الديكارتي والتحليل النقدي، ولا ثابت سوى الإنسان الذي يبحث في كل هذه المسلمات الميتافيزيقية. بدايةً، لم أشأ أبدًا أن أترك الإسلام بل كان قلبي دوما يخفق بكل ما جاء به القرآن. لا زلت أحب أن أسمع القرآن بصوت الشيخ عنتر سعيد مسلم و لي ذكريات جميلة وأنا أجاهد و أغصب نفسي على حفظ سورة الملك و أراجعها أثناء سماعي من الميكروفونات في المآتم في ذكرى أربعين فلان. أذكر جيدا هذه الأيام التي بدأت فيها أرتل مع أساتذتي "سُئل سائلُ بعذاب واقع ما له من الكافرين من دافع ....إلخ" و حرصي على قواعد التجويد و التنغيم و أنا أقرأ مثلا "بعذابٍ واقع" و كيف يتم إدغام التنوين هنا إلخ. طبعا نسيت الكثير من كل هذا و قد أخطأ التعبير الآن و أنا أكتب لك الآن على سجيتي. أردت في البداية إقناع المسيحيين بالإسلام و كنت أسخر من كتابهم و كثيرا ما قلت لنفسي إن كتابا كهذا ليس جديرًا بأن يُقرأ و مكانه ليس إلا تحت الأقدام. وبالتالي كلما جلست إلى مكتبي كنت أفتح الدرج السفلي حيث الكتاب المقدس فيه وأضع حذائي فوق هذا الكتاب المقدس حيث لم أصدق للحظة أن هذا الكتاب هو تنزيل العزيز الحكيم. أجلّ؛ لم أكن أظن أني في يوم من الأيام لأصبح مسيحي و لم أُرد هذا البتة من البداية.

 

إذا، ماذا حدث في أزمتي الدينية؟

لقد حدث جذب ونفور. حدث انجذاب لمسيح الإنجيل وأيضا حدث نفور من إله الإسلام المتعسف. إله الإنجيل، الرقيق المتواضع القلب، يشدّ الناس إليه بجاذبيته حيث هو جذّاب في تعاليمه وتصرفاته ومواقفه تجاه بني البشر. يرى المطران جرمانوس فرحات في كتابه "الرياضة الروحية" أن الصلاة هي انشداد القلب نحو الله لإبعاده عن الشر واكتساب الخير. وكيف يحدث هذا الانشداد إنْ لم يأت المسيح بنفسه ويشد القلب ويجذبه إليه؟ وهكذا تكون الهداية في المسيحية. جميع أمور المسيحية في الإنجيل تأتي على مستوى الشد والاستقطاب هذا. لهذا ما أكثر التراتيل المسيحية التي تحمل عبارات مثل "حبيبي سباني" وغيرها. فإن كان عمل الهداية في البداية، سواء في مسيحية أو إسلام، هو عمل يبدأه الله، فما الداعي للتحزبية؟ وما الداعي للنغمة الانتصارية وكأنهم يربحون الغنائم ويقتنصونها في بربرية صحراوية ثم يولون الأدبار بالصياح والصراخ؟

 

إن أكثر شيء كان قد تسبب في نفوري من الإسلام هو موضوع أهل الذمة و نظرة الإسلام للنصارى و قضية الجزية. عشت طول عمري مهضوم الحقوق و لذلك فأنا متعاطف مع المهضومين. لما قرأت سورة التوبة و بالتحديد آية 29 شعرت بالإسلام ينسلّ مني تدريجيا كما ينسلخ الجلد عن الحية و لا سبيل لإرجاعه إليها. إنه قد انسلخ دون رجعة وغير مأسوف عليه. تساءلت:كيف لإله يخلق ناس اسمهم نصارى و يجعل قومٍ آخرين هو قد خلقهم أيضا يسودونهم و يعاملونهم بإذلال وقت دفعهم الجزية؟ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؟ وصاغرون لماذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!! بأي حق يصاغر الإنسان أخيه الإنسان؟ أؤكد لكم أني شعرت بقتام شديد في نفسي و لم أكن أتمنى أن يكون ديني هو السبب في ركوب قوم على ظهور قومٍ آخرين و سيادتهم عليهم و إذلالهم لهم. كنت أنظر وأنا طفل للأقباط في قريتنا فأجد فيهم البساطة و الهدوء و سلامة القلب و النية؛ و كلما نظرت إلى أحدهم و حدقت النظر في عينيه تشعر وكأنك تخترق إلى ثنايا قلبه وتجده عامرًا بالحب لجميع البشر. رباه! هؤلاء أقباط فلاحين و لا يتقنون صناعة الكلام وكم شعرت أنهم كتابٌ مفتوحٌ أمامي وتمنيت لو كنت مولودا بين ظهرانيهم متمتعا بهذه البراءة وهذا الحب لكل الناس. كثيرًا ما عنفوني في جماعة الإخوان المسلمين وعدد آخر من أصدقائي المسلمين ممن يُفترض فيهم الاعتدال لأني قلت "الأخ فلان" مريدًا بذلك نفرًا من الأقباط. قالوا لي بغضب: "لا تقل الأخ فلان عليهم". وما كان من هذا إلا أن زاد من انجذابي و تعلقي بالأقباط و بكل ما يتصل بدينهم و إنجيلهم؛ و كان هذا الانجذاب يوازيه في الوقت ذاته نفور متزايد من تعلقي بالديانة الإسلامية لأني شعرت أنها تغرس الكره في المسلم كلما صار متدينًا أكثر فأكثر. لا أقدر أن أقول أني كنت أملك منهجية علمية بالكيفية التي أرى بها الأمور وأزنها الآن، ولكن كان عندي من التمييز ونقاء الضمير الإنساني والحكم المقسط و البديهة الربانية ما يكفي لأخذ موقفٍ مصيري دون رجعة.

 

اخترت المسيحية ببساطة لأن بها «مسيح الإنجيل» و الذي لم أجده في أي مكان آخر؛ فهو مسيح يحب الجميع لأقصى درجة بل قل إلى المنتهى، و لم يسلك أبدًا بالعنف لنشر دعوته مثلما فعل محمد. لا نسمع عن خبر فيه قاتل المسيح في سبيل الله أو في سبيل إعلاء راية المسيحية. لو لم يلجأ محمد للمدينة واكتفى فقط بالمقاومة السلمية في مكة، فعندي إحساس قوي أني عندها لن أتركه أبدًا لأنه إذ ذاك يكون قد قاوم بالحب وليس بالغزوات وسفك الدماء كما قام محمد المدينة والذي نلتقيه بدءًا من الحقبة المدنية فصاعدًا. صارت هذه سنّته بل الجهاد فرض عين وهو الفريضة السادسة إن شئنا. يكفي أن تعرف مقدار الرعب الذي يستلذ به المسلم بسادية غير عادية وهو يتعامل مع الكفار: وهذا هو السلاح الذي يستخدمه المسلم الغيور على دينه بتحريض من قرآنه على مجابهة الكافرين بإلقاء الرعب في قلوبهم. حتى في أميركا، حيث أقيم الآن، استخدموا معي سلاح الرعب هذا لإجباري على الرضوخ لهم، وفعلوا هذا مرة تلو الأخرى ولا يزالون يفعلون. هل يظن أحد أني أعتقد ولو لثانية أن هذا الدين ربانيّ؟!

 

 

بسبب ذلك، أضحيت في مأزق صعب. فما العمل؟ صار الإسلام لا يناسبني فيما بعد،وفي الوقت ذاته في تلك الأيام، لم أرغب في أن أكون ملحدًا حيث قد شببتُ على عادة مناجاة الله. وجدت في المسيح حب الله لجميع البشر و هو يحتضن كل الخليقة و أشعر برغبة حارة دوما في مناجاة الله و كأني قد تزوجته، إن جاز التعبير. لا زلت أجد في المسيحية زادي في ترحالي في هذه البرية وأنا أرّنم لربي ما قاله أخي نجيب ليبب "أنا ماشي و حبك لي منار، و صليبك عدّاني من النار". دائما أجدني مستريح في المسيحية كلما قرأت الإنجيل و نظرت للصلبان في غرفة المعيشة عندي وأيضا لوحة الخليقة لمكيافيللي والأيقونات الأرثوذكسية و الكاثوليكية التي تصلني هدايا من القدس فأشعر أني في وسط أسرة إلهية تتواصل عبر السنين. أذهب لغسل الصحون في المطبخ وأجد أيقونة العذراء بلونها الأزرق والذهبي و تنعكس عليها أشعة الشمس فأشعر أن الله حاضر في بيتنا وكله دفء. أشعر في المسيحية بالسمو و الرقي الفكري وأعلى مرحلة من مراحل الاكتمال الإنساني. آهٍ لو أنا مسيحي بكل معنى الكلمة! و لكننا نمتد نحو الهدف لعلنا ندرك الذي لأجله أدركنا، أي المسيح.

 

نعم، أيضاً، اخترت المسيحية لأن فيها الإنجيل والذي كلما قرأته وجدت أني محبوبًا جدًا من ربي والذي حبه لا يتوقف على طاعتي أو عدمها بل هو حاضر في جميع الأوقات لأنه من طبعه الحب؛ وهو ليس إلا الحب. بالإنجيل كنوز وغنى روحي لا يستقصى؛ وفي كل مرة أقرأه أجد أني أكتشف فيه عمق جديد وكأني أقرأ الإنجيل لأول مرة. وكلما قرأت كلام المسيح أشعر وكأني لأول مرة أسمع كلام المسيح وألتقيه لأول مرة فأشعر بحرارة تتسرب لجسمي و كأنها نيران تنقيني في باطني (حيث "إلهنا نارٌ آكلةٌ") فأنعم بالمكوث الدائم في ملكوت ربنا. تلك كانت أزمتي الشخصية مع الله والدين والتي قد تتوّجت بانتصار المسيح في حياتي أي بانتصار قيمة الحياة على ثقافة الموت؛ فليس هو تحزب لفريقٍ ضد فريقٍ آخر ولا هو تناحر على من ينافس الآخر ويتجبّر على إخراسه لأن المسيح في كمالات صفاته وجمال شخصه لا ينافسه آخراً. حق المسيح لا ينتصر بالزعيق أو جولات الردح الديني وإنما هو ينتصر بلمسته لقلب الخاطيء وشده إليه شدًا. كان هذا صراعاً يعتلج في باطني على القيم الضميرية التي يمثلها الإنسان؛ وانتصارًا مني للكرامة الإنسانية بجعلها ذات المرتبة العليا في حياتي؛ لا دوغمائية الأديان بتناحريتها. ليس من ثمة تنافسٍ بين الأديان وإنما هو إلهٌ يفيض حباً للخليقة بأسرها على اختلاف مشاربها وعقائدها ويتوق لأن يضمها فيه في وحدة هو أساسها ومرجعيتها.

   
======================

تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:

 

timothyinchrist@gmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط