بسام درويش / Jul 05, 2003

عندما جاء الحجاجُ إلى العراق والياً عليه من قبل الخليفة عبد الملك بن مروان، كان أولَ ما فعله هو أن ألقى في العراقيين خطبة شهيرة خلّدها له التاريخ، جاء فيها:

 "أما والله إني لأحمل الشرَّ بحملهِ وأحذوهُ بنعله وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوساً قد أينعتْ وحان قِطافها، وإني لَصاحبُها، وإني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق.."

وبالطبع، لم يقصد الحجاج بخطبته تلك ممازحة أهل العراق، فقد عنى ما قال، وقطف من الرؤوسِ ما يزيد عن المائة ألف، وفرض على أهل العراق طاعته طوال فترة حكمه، زارعاً في قلوبهم من الرعب ما زال مسيطراً عليهِمُ حتى اليوم. ذاك الرعب هو نفسه الذي مكّن صدّام حسين من حكمهم طوال ربعِ قرنٍ من الزمن.

***********

اليوم، جاء العراقَ رجلٌ آخرَ والياً على أهله، ولكنه لم يأتِ لما أتى من أجله الحجاج بن يوسف.

ذاك أتاهم ليقودَهم كالغنم إلى طاعةِ مولاه الخليفة، وليضمن دفعهم للضرائب المفروضة عليهم. أتاهم ظالماً متجبّراً، بلغ به جبروته فيما بعد أن توجه إلى الكعبة فهدمها وقتل عبد الله بن الزبير قتلة خلّدها التاريخ.

أما والي العراق الجديد بول بريمر، فلم يأتهم ظالماً ولا متوعداً. لم يأتِ ليقودهم كالغنم إلى طاعة مولاه، إنما جاء يعيدهم إلى حظيرة مختلفة وهي حظيرة الأمم المتحضرة. جاءهم ليعيدَ لهم كرامتهم التي داس عليها الحجاج وخلفاؤه لألفٍ وثلاثمائة سنة من الزمن!..

لم يأتِهم ليجبي منهم الضرائب، إنما ليعيد لهم أموالهم التي سرقها منهم آخر حجاجٍ ركب على أكتافهم.

***********

الوالي بول بريمر، لا يمكن أن يقارن بالحجاج بأي شكل من الأشكال، لأنه من مدرسة تختلف عن تلك التي تخرج منها ذاك. لكنه اليوم في وضع لا ينفع معه إلا سيف الحجاج نفسه، حتى ولو اختلفت الغاية من الضرب به. 

لقد أتى العراق وقد أوكلت إليه مسؤوليةٌ عظيمة، وهي إعادة بنائه، وتحقيق الاستقرار فيه، ومساعدة أهله على إقامة حكم دستوري ديموقراطي حرٍّ، كي يصبح عضواً فعّالاً في المجتمع الدولي، يحترم مواثيقه ويساهم في مستقبله.

لكن لدى بول بريمر مسؤولية أخرى أمام أمّته التي أتى يمثُلها، وأمام شعبه الذي وضع تحت إمرته رجالاً ونساءً وشباباً من خيرة أبنائه. أمام بول بريمر مسؤولية العودة بهم إلى عائلاتهم سالمين. ولكي يتمكن هذا الوالي من تنفيذ المهمتين على أحسن وجه، فلا بدّ له من أن يستعير سيف الحجاج ويلوّح به كلما دعت الضرورة إلى ذلك. فبين أهل العراق من يبدو أنه اعتاد على الذل. وبينهم من خسر بزوالِ حكمِ آخر حجاجٍ منافع كبيرة. وسيبذل أولئك وهؤلاء، كلَّ ما بوسعهم لعرقلة مسيرة العراق على طريق الحرية والكرامة.    

كي يعود بريمر إلى بلده مرفوع الرأس.. وكي يوفّر على شعب العراق سنوات أخرى طويلة من العذاب.. وكي يبلّغ الرسالة بأوضح صورة لكل الأنظمة الأخرى التي تقف مراهنةً على فشل مهمته.. فإنّ عليه أن يَلبسَ وجه الحجاج، ويتخلّى عن ابتسامته الدبلوماسية الهادئة التي أصبح يُعرفُ بها، ويقف هو أيضاً على شرفة قصره، لينذر العراقيين كما أنذرهم الحجاج، ثم ليقرن بعد ذلك إنذاره بالعمل:

يا أهل بغداد.. يا أهل العراق.. لقد بلغ السيل الزُّبى!..

إني لأرى بين رؤوسكم رؤوس أفاعٍ وإني لصاحبُها، وإني لقاطفٌ نظيرَ كلِّ أصبعٍ من أصابعِ جنودي، ألف رأسٍ من تلك الرؤوس. فحذاروا حذاروا من إيوائهم، وإنّي واللهِ إن فعلتم، لهادمٌ بيوتكم على رؤوسِهم وعلى رؤوسِكم!..

**************

مهمة بول بريمر مهمة صعبة للغاية، وهو كممثل لحكومة الرئيس جورج بوش يتحمّل مسؤولية كبيرة أمام الأمة الأمريكية والتاريخ. فاحتمال عودة العراق إلى ما كان عليه، أو ربما إلى وضع أسوأ مما كان عليه، بعد انتهاء مهمة القوات الأمريكية فيه، هو احتمال واردٌ. هناك احتمالٌ لِحربٍ أهلية أو دينية أو عرقية أو انقلاب عسكري بتأثيرات داخلية أو خارجية. وإذا حصل ذلك فإنّ أحداً لن يغفر لعهد الرئيس بوش هذه الحرب، لا في العالم ولا في أمريكا، ولا في العراق طبعاً. لذلك، ولجعلِ ذلك الاحتمال أقرب إلى المستحيل، ليس أمام الحكومة الأمريكية إلا تأسيس نظام علماني صرف والإشراف عليه مدنياً وعسكرياً لفترة لا تقل عن ثلاثين سنة، ينشأ خلالها جيل جديد بعقلية جديدة. جيلٌ لا يقبل بغير العلمنةِ نظامَ حكمٍ له بعد أن نشأ عليه وعرف فضله.

مهمة بول بريمر صعبة، لأنه أمام عدوين، أحدهما ظاهر ويتمثل بفلول النظام البائد والمنظمات الإسلامية المتطرفة المدعومة من الخارج. وثانيهما متنكّر يلبس قناع التعاون، ويتمثّل بمؤيديه من معارضي العهد البائد، والأكثرية الساحقة من هؤلاء، إن لم نقل كلّهم، لا يرون فيه إلا مسيحياً وغريباً يفضلون رحيله في أسرع وقت.

ربما على بريمر، أن يقضي بضع ساعاتٍ كل ليلة يقرأ فيها عن تاريخ هذا الشعب كي يفهم حاضره. ولعلّه يستمدّ من خطب الحجاج خبرةً ما بعدها خبرة في حكم العراق، كتلك التي قال فيها:

"يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق.. هل استخفكم ناكث أو استغواكمُ غاوٍ أو استفزّكم عاصٍ أو استنصركم ظالمٌ أو استعضدكم خالعٌ إلا اتبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكيتموه! يا أهل العراق هل شغب شاغبٌ أو نعب ناعبٌ أو زفر كاذبٌ إلا كنتم أشياعه وأتباعه! يا أهل العراق ألم تزجركم المواعظُ! ألم تنبهكمُ الوقائعُ! ألم تردعكمُ الحوادث!"  

***************

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط