بسام درويش / Dec 05, 1993

قال الشاعر عمر أبو ريشة في الملوك والرؤساء العرب الذين اجتمعوا في الرباط:

 

إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا            أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا

خافوا على العار أن يُمحى فكان لهم             على الربــاط لدعم العــار مؤتمرُ

على أرائكــهم سبحانَ خالقهــم               عاشوا وما شـعروا ماتـوا وما قُبروا

 

إعراب

خافوا: خاف فعل ماضٍ. والأفعال التي تفتخر بها أمتنا العربية كلها أفعال ماضية ولكنها ليست كلها مدعاة للفخر. فعل "خاف" هذا، يجوز إعرابه مضارعاً أي حاضراً. إذ أنَّ الخوف قد أصبح من القواعد المتَّبعة والضرورية لسلامة اللغة. فاللغة هي الكلمة والكلمة كانت عند الحاكم وكان الحاكم الكلمة.. به كانت الكلمة والكلمة كانت كل شيء. وكما يخاف الإنسان ربَّه، كذلك عليه أن يخاف الكلمة. الكلمة إن قيلت دون دراسة أو تفكير قد تُؤوَّل وتجلب على صاحبها الويلات. الحاكم يخاف من الناس والناس يخافون من الحاكم ويخاف الناس من الناس والخوف يعود على الكلمة. وهكذا ففعل "خاف" ماضياً كان أم حاضراً، فعلٌ ترتكز عليه قواعد اللغة بقدر ما ترتكز عليه قواعد الدين والسياسة والتربية والمنطق والاقتصاد.

الفعل مبني على الفتحة المقدَّرة على ما قبل الواو منع من ظهورها التعذُّر. وليست الفتحة هي الوحيدة بين الحركات التي لا تظهر بسبب التعذُّر، فكل الحركات قد تمتنع عن الظهور للسبب نفسه، وإذا ظهرت فإنها حتماً تؤدي إلى سقوط الواو وهي "الضمير المتصل" المبني على السكون في محل رفع فاعل، يعود على كل الأحزاب العقائدية، ضمائر الأمة العربية الساكنة الهادئة التي لم يعد يُسمَع لها صوت إلاَّ في المناسبات.

 

على: حرف جر. وحروف الجر رغماً عن صغرها ووضاعة شأنها فإنها تجر كلمات أكبر وأعظم منها. جرَّت كثيرين إلى السجون والتعذيب والموت. جرَّت حكاماً إلى طريق الخيانة وجرَّت أموال الشعوب العربية وخيرات البلاد إلى المصارف الأجنبية وإلى حانات وكباريهات أوروبا. وقد اخترع القادة الحكماء حروف جر جديدة جروا بها البلاد إلى أسوأ أوضاعها الاقتصادية كما  "جرجروا" المواطنين مثلاً في شوارع بغداد بربطهم ديموقراطياً بمؤخرات السيارات وسحلهم، لا لشيء إلاَّ لتخالف الآراء. كذلك جروا شعوبهم إلى حروب خاسرة ومعها جروا إسرائيل إلى أعماق الأراضي العربية.

 

حروف الجر ليست سيئة بحد ذاتها إذا أُحسِنَ استعمالها. استعملتها إسرائيل لجر المياه العربية لري مشاريعها الزراعية واستعملها الغرب لجر خيرات الأمة العربية لمصلحة شعوبه وكذلك المرحوم الاتحاد السوفييتي لجر الحكومات العربية إلى معاهدات اقتصادية وثقافية وعسكرية و"بلوطية" لم تجلب لأمتنا غير الخراب.

حروف الجر العربية التقدمية جرت العراق إلى حرب دموية خاسرة لا معنى لها مع إيران وجرَّت سوريا للوقوف مع إيران ضد العراق. جرت العراق إلى الكويت وأميركا إلى المنطقة العربية وسوريا إلى أميركا ومصر إلى إسرائيل وجرَّت يد عرفات لتسقط في يد رابين الذي جرجر يده جراً لمصافحته. وبقدرة قادر، توحدت حروف الجر العربية والإيرانية والعبرية فجرَّت شعب لبنان إلى حرب أهلية كان من نتيجتها أن جرَّت أقدام العرب والعبريين والفارسيين وغيرهم إلى ذلك البلد الذي كان ينعم بالازدهار.

 

العار: اسم مجرور بعلى. والجار والمجرور متعلقان بخاف. ولم تجد الأمة العربية سوى هذا الحرف الصغير المسكين لتلصق به تهمة جر العار عليها .

 

أن: أداة نصب. وليس هناك أكثر من أدوات النصب والاحتيال وكذلك النصابين والمحتالين في شرقنا العربي. ولكن المسؤولين عن القواعد الجماهيرية والثورية استطاعوا بذكائهم المعروف أن يستعملوا حروف النصب هذه في مجالات كثيرة. استعملوها لنصب المشانق لكل من تجرأ وفتح فمه بكلمة واستعملوها أيضاً لنصب التماثيل في الساحات العامة لتخليد ذكراهم وأعمالهم المجيدة.

 

يُمحى: فعل مضارع مبني للمجهول. وليس هذا الفعل وحده قد بُنِي للمجهول. صفقات كبيرة وتهريبات أكبر، بنايات وحسابات جارية وغير جارية كلها بنيت للمجهول.. فاعلها دائماً مجهول، وإذا كان لا بدَّ وأن تتم باسم أحد فقد جُعِلَ لها نائب فاعل، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً تقديره هو "عائد على الشعب"، باسمه تتم كل السرقات، وبه أيضاً  تُلصَق.

 

فكان: الفاء استئنافية. وما من عهد جديد وصل إلى الحكم إلاَّ واستعمل هذه الفاء ليستأنف بطولات العهد السابق فيبلع ما تبقَّى ويُنجِز ما لم يُنجَز.

 

كان: فعل ماضٍ ناقص. والأفعال الناقصة في تاريخنا العربي غنية عن التعريف. تاريخنا مليء بالاغتيالات والخيانات والمخازي. الحسن مات مسموماً وقُتِل أخوه وصلب زيد بن علي. كان المتوكل مؤنثاً وَضِعاً وكان المعتز مخنثاً. قتل المأمون أخاه وقتل المنتصر أباه وسمَّ موسى بن المهديّ أمَّه وسمَّ المعتضد عمَّه وكان معاويةُ قاتلَ الصحابة والتابعين وأمُّه آكلةَ أكباد الشهداء الطاهرين وابنه يزيد مربِّي الفهود وهادم الكعبة وناهب المدينة وصاحب يوم الحرَّة. (من كتاب الرسائل لأبي بكر الخوارزمي) و"كان" هذه، لها أخوات، إذ أنّ والدة "كان" قد أنجبت الكثير من الأفعال الناقصة الأخرى التي أثبتت وجودها في قواعد اللغة العربية وفي العالم العربي حكومات وشعوباً.

 

لهم: اللام حرف جر. وهي من بين أصغر حروف الجر. والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر والميم للجماعة. وهكذا نرى مقدار قوة هذا الحرف الصغير الذي يجر إليه "الضمير" ويضيف إليه "الجماعة". وكما تُلصق الميم بالجماعة، يُلصَق كل عمل لا يناسب الحكم والحكَّام "بالجماعة".. جماعة الأخوان، جماعة القوميين، جماعة العملاء، جماعة الخونة، جماعة المارقين.. أما الجماعة الحاكمة فلا تُلصَق بها أية ميم أو غير ميم إلى أن يأتي عهد جديد فيلصق به الله ما شاء ومن شاء والله أرحم الراحمين.

 

على: حرف جر سبق تفصيله.

 

الرباط: اسم علم مجرور بعلى. و"العلم" بعرف الشعوب هو رمز للأمة ولسيادتها ولكن استعيض عنه في شرقنا بصورة القادة والجنرالات.

 

لدعم: اللام حرف جر. دعم: اسم مجرور باللام بالكسرة الظاهرة. ومع أن الكسرة كانت ظاهرة للعيان بعد حرب الأيام الستة، فإن حكامنا قد خففوا من وقعها وجعلوها نكسة ثم بعد ذلك دعوها نصراً، لأنها فتحت عيون الأمة العربية على ضرورة الاتحاد للوقوف في وجه العدو الصهيوني.

 

العار: مضاف إليه مجرور بالكسرة. المضاف من أضاف واستضاف ويستضيف، كما في قولنا: لقد حل عار الهزيمة ضيفاً على أمتنا وأصبح من أهل البيت. ومن أمثلة الضيافة والاستضافة والإضافة في قاموسنا العربي ما يلي:

استضاف العرب إسرائيل على الأرض العربية دون تحديد لمدَّة الضيافة فأصبحت من أهل البيت.

رفَّع الرئيس صدام حسين بقرار جمهوري الرهائن الغربيين إلى رتبة ضيوف.

تستضيف أجهزة المخابرات العربية المواطنين دون سؤال أو جواب. 

استضاف لبنان كل أنواع الضيوف وعرَّض نفسه للإضافة.

 

مؤتمرُ: اسم لكان مرفوع، أما خبر كان فهو مقدر، وفي خبر كان أصبحت أحلام الأمة العربية بالوحدة. في خبر كان أصبحت مقدراتها وخيراتها وثرواتها وأراضيها؛ ولكن الآمال لا يمكن أن تصبح في خبر كان لأنها تعبر عن المستقبل وذلك بكفالة سين وسوف. ولذلك فاليوم الذي سوف تصبح فيه كل الأنظمة الحالية في خبر كان، لا بد آتٍ، وبزوالها ستزول الأفعال الناقصة وحروف العلَّة وحروف البهدلة كلها حتى لو زعزع ذلك قواعد اللغة العربية.

===============

نشرت في بيروت تايمز في شهر ديسمبر 1993 (التاريخ المنشور أعلاه تقريبي) وفي جريدة "آخر خبر" 15 يونيو 1997

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط