هشام محمد / Dec 20, 2006

ـ 1 ـ

"من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".  حديث نبوي يتحول بين أصابع يد المطوع (الوهابي) إلى عصا غليضة، تنهال على رأس من لا يشبهه شكلاً ومضموناً.  يئتزر المطوع (أو المطوعة) سلطته الإلهية أينما حل وارتحل... في البيت... في العمل... في الشارع... في الأسواق... في البراري... وفي المنتديات الألكترونية.  بضع كلمات تمنح من أرخى شعر ذقنه، ومن تسربلت بسواد فاحم سطوةً فوق بشرية.  المنكر، ذلك المفهوم الهلامي الرخوي، لا يتوقف عن الزحف على مساحة الممكنات، ولا من قضم حدود المسموحات، ليجعل من الحياة أضيق من خرم أبرة.  إنه أشبه بكرة من الثلج التي تكبر وتكبر، كلما واصلت التدحرج على منحدر الزمن ساحقة في طريقها مباهج الحياة ونظارتها.  بحضورهم تنقلب القاعدة الفقهية القائلة بإن الأصل في الأشياء الإباحة رأساً على عقب.  وياليتهم حينما يعيشون بين مقابر التاريخ يتركوننا وشأننا، بل تراهم يشدونا بأيديهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، أما القلب فهذا مما لا يكفيهم، فالمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف، أليس كذلك؟

 

ـ 2 ـ

قبل شهور مضت، هاجت وماجت فئة منهم (يقال دوماً أنهم قلة) وعلى نحو هيستيري لإفشال ندوات ثقافية أقيمت على هامش معرض الكتاب بالرياض.  جن جنونهم لرؤية شخصيات سعودية مثقفة لا تتقاطع مع توجهاتهم الظلامية تضيء ليال الرياض الكئيبة والتي لا ينعق فيها إلا تلك الغربان الوهابية وعبدة الموتى.  لم يكتفوا بالصراخ ولا بالتهليل ولا بالتكبير ولا بالمقاطعة ولا بالسب ولا بالشتم، بل تحركوا لضرب المتحدثين والاعتداء الجسدي عليهم، ولولا تدخلات رجال الأمن لسالت دماء.

وقبيل أسابيع قليلة انصرمت، أحيت كلية اليمامة والمؤمنة بدورها التنويري والتوعوي أسبوعاً ثقافياً لم تعتد عليه بلاد الحرمين المجدبة، والتي ينظر القائمون عليها لمثل تلك المناسبات بعين ملئوها الشك والريبة.  في إحدى الأمسيات، وبينما كان الدكتور الليبرالي عبدالله الغذامي يشخص مواطن الخلل والتلف في العقل العربي، انتفض المخربون، أو كما وصفهم مشاري الذايدي بالإرهابيين إلا ربع، بصفاقتهم وحماقتهم مقاطعين وصائحين وشاتمين.  كان الرجل يتحدث عن انتكاسة قيم التسامح والإخاء داخل المجتمعات العربية أمام تنامي التيارات الأصولية والنزعات الطائفية، مستشهداً بالحالة العراقية إذ كان المسلم يصاحب المسيحي، والشيعي يصاهر السني.  هنا بدا صراخهم المصحوب بعبارات التكبير يعلو: هذا حرام...هذا لا يجوز (!)  كان واضحاً من البدء أنهم يبغضونه كما يبغضون تركي الحمد وخالد الدخيل وقينان الغامدي وغازي القصيبي وكل صوت تنويري، لذا فقد جاؤا كي يخرسوه ويمنعوه من وصف داء هذا العقل ومن وصف الدواء الشافي.  وفي أمسية أخرى، وبينما كان الشاعر الحداثي علي الدميني يوزع قبلاته الافتراضية على أصدقاءه وصديقاته في قصيدة شعر حداثية، يكفرونها ويكفرون أصحابها من الأصل، حتى صاحوا في وجهه: هذا فسق...هذا فُجر (!) 

وفي أمسية أخرى، وبينما كانت ممثلو مسرحية "وسطي بلا واسطة" يقدحون شرارة ضحكات صافية في صدور الحاضرين، حتى انقضت فرقة الكوماندوز الوهابية بكل بربرية على خشبة المسرح ليشتبكوا مع الممثلين ورجال الأمن والحاضرين في مشهد بائس قلما تراه في مكان آخر من هذا العالم.  أهي خصوصيتنا السعودية... يبدو ذلك!  بدا من مقاطع البلوتوث المتبادلة أن أفراد الفرقة الوهابية كما لو تم تسمينهم وإدخارهم لمثل تلك المناسبات.  لقطة تشتبك معالمها مع الصور الكابوسية لأفراد ميليشا الأخوان المسلمين والتي كشف النقاب عنها مؤخراً.  حقاً، فتلك الجماعات تربي أعضاءها فكريا، ونفسياً، وجسدياً حتى إذا ما دنت ساعة الصفر للإنقضاض على كراسي الحكم حتى كانوا في أتم جهوزية واستعداد.   

 

ـ 3 ـ

ليس غريباً أن تبرز علامات جنون البقر على تلك القطعان الوهابية كلما سمعوا بنشاطات فنية ومحافل ثقافية، وليس عجيباً أن يصابوا بالهلع لرؤية حجر صغير يسقط في ماء هذه البلاد الآسن.  إن من يهاب تمزيق شرنقة الماضي، ويتعلم أن ما خلفه لنا السلف هو الخير كله، وأن ما حمله طمي المد الثقافي العالمي هو الشر كله، لا ريب أن يعتقد واهماً أنه وحده من يملك ناصية الحقيقة المطلقة.  لا لوم على هؤلاء الشباب المتعصب الذين لا يرون في الفلسفة إلا زندقة، ولا يرون في الموسيقى إلا مزمار الشيطان، ولا يرون في التمثيل إلا مجوناً، ولا يرون في الرقص إلا ابتذالاً.  ولا لوم على شيوخهم الذين يبرمجون عقول مريديهم من أجل خدمة أجندتهم ومشروعاتهم الآنية والمستقبلية.  لكن اللوم كل اللوم على الحكومة التي ما فتئت تفوت الفرصة تلو الأخرى لتحجيم هذا التيار المتطرف واقتلاع أنيابه، إن لم يكن بقصد تخليص أفراد الشعب من براثن التطرف الأعمى فعلى الأقل لحماية العرش من أن يطاح به.   لقد فهم هؤلاء المتشددون من المواقف اللينة للحكومة وردود الفعل الخائفة من الشعب أن الطريق سالكة لشن مزيد من الغزوات المباركة، لهذا فسوف يزحفون في المرات القادمة، في تحدٍّ سافر لإرادة الحكومة من أجل إبقاء هذه البلاد رهناً للفكر الوهابي الجامد، ولا عزاء للحالمين بالخروج من هذا السجن الكبير.

================            

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط