هشام محمد / Nov 22, 2005

ـ 1 ـ

نشرت جريدة الحياة بتاريخ (12/10/2005) تعميماً رسمياً صادر عن الرئاسة العامة لرعاية الشباب والرياضة السعودية يحذر فيه الأندية الرياضية من تشغيل أي أنواع من الموسيقى أو الغناء أثناء أداء الحصص التدريبية. وجاء في حيثيات قرار الرئاسة أن استخدام الموسيقى يتنافى مع (الخصوصية الدينية) المعروفة عن المملكة العربية السعودية. كما أشارت الجريدة في نفس الموضع أن الرئاسة العامة قد فتحت تحقيقاً مع أحد المدربين العرب الذي قام بإجراء التدريبات على أنغام أداء الفنانة الشعبية (موضي)! ولعل ما يشفع للمدرب المسكين أو يخفف من العقوبة المزمع تطبيقها عليه أنه لم يقم بتشغيل أغاني أجنبية أو عربية بل أغاني شعبية تعتمد كثيراً على الدف المعترف به من قبل فقهاء المسلمين دون باقي الآلات الموسيقية.


ـ 2 ـ

عندما قرأت التعميم أصبت بحالة من الحنق والغيظ للأسباب التالية:

1 ـ هناك إسراف مبتذل في استخدام تعبير الخصوصية السعودية. هذه الخصوصية تعبير هلامي وغير محدد الملامح، ولكنه مزيج من الدين الإسلامي والعادات المجتمعية. الخصوصية السعودية ما هي إلا مصيدة للإمساك بأي محاولة للإفلات من قبضة دين متزمت وعادات غليظة، وجدار برلين الذي يقف في وجه موجات التحديث والتطوير. وهي فوق ذلك تعبير ضمني عن إحساس بالفوقية والتميز عن كافة الدول والشعوب الإسلامية وغير الإسلامية.

 

2 ـ التراخي مع مطالبات التيار الديني المدلل وتدخلاته التي لا تنتهي عند حد. لا شك لدي أن الرئاسة لم تتخذ مثل هذا القرار دون ضغوط مارسها المتدينون كالعادة. لقد مررت شخصياً بتجربة مشابهه عندما كنت طالباً في الثانوية العامة، حيث طلب مني أستاذ الرياضة صنع لوحة كبيرة تضم صور لمنتخبات ولاعبي الكرة المشهورين. لقد بلغ إعجاب أستاذ الرياضة المصري باللوحة أنه وضعها في مكان بارز من جدران المدرسة. المحزن أن الصورة لم تسلم من إملاءات الطلبة المتدينين وقتها. كان أحدهم يحدق في صورة ما ليكتشف أن مارادونا مثلاً لا يرتدي سروالاً شرعياً يغطي الجزء الأسفل من فخذيه المكتنزتين فيمسك متبرعاً بالقلم الأسود ليستر عورة مارادونا الفاسق. وما هي أيام قليلة حتى اجتاح السواد أفخاذ اللاعبين وصدور المشجعين ووجوه المشجعات مما حدا بأستاذ الرياضة أن يرمي بها للتخلص من الصداع اليومي!!!


3 ـ استمرار هيمنة التعامل الفقهي العقيم المشبع بروح التحريم مع الموسيقى وكافة أنواع الفنون الإنسانية كالرقص والنحت والتمثيل والرسم. مازال النص الديني يهاجم الفنون ويحرمها متهماً الغناء بأنه ينبت النفاق في القلب، والتمثيل بتعليم الكذب وإشاعة الاختلاط، والنحت والرسم بتحدي قدرة الخالق. لقد وقف الإسلام تاريخياً ضد تطور ونمو كافة الفنون باستثناء فن الزخرفة الذي ما كان ليترعرع لو لم يكن في بيئة مليئة بالمحرمات والمنهيات. وعلى الرغم أن الإسلام يكافئ تارك الخمر بأنهار من خمر في الجنة، ويعوض تارك الزنا بكتيبة من الحور العين إلا أنه لا يقدم بديلاً للموسيقى والفنون لا في الدنيا ولا في الآخرة، وكأن الإسلام بذلك يعادي الطاقات الإبداعية والخيالات البشرية أو لنقل أنه لا يعنى بالحاجات المعنوية للنفس البشرية.


ـ 3 ـ

مما يثير التعجب أن غالبية السعوديين متعلقون بالفن والغناء، إلا أنك لو قمت بدراسة مسحية لاستقصاء رأيهم بشأن حرمة الغناء لأجاب معظمهم بأنه حرام بيّن لوجود أحاديث وتفسيرات وآراء تحرمه!!. في المقابل، هناك نصوص دينية وآراء فقهية تبيحه لكن غالبية السعوديين يميلون إلى تبني الاجتهادات الفقهية التي تحرم أكثر مما تحلل. وبما أني سعودي وأعرف شعاب المجتمع السعودي وطرق تفكيره وخصائصه النفسية فالسعودي عندما يجد رأيين فقهيين أحدهما يحلل والآخر يحرم فسوف يأخذ بالأخير، وهذا ما يعكس ذهنية التحريم المتفشية داخل المجتمع.

إن استمرار مطاردة النص الديني للفن، واعتقال النزعات الفطرية الإنسانية والومضات الإبداعية من موسيقى ورسم ونحت داخل دائرة الحرام الكبيرة قد أفسح المجال لانتشار ما أطلق عليه الدكتور حمزة المزيني " ثقافة الموت" ونال جراء كشفها حرباً شعواء. صور هذه الثقافة تحتل الشارع والمدرسة والمسجد والبيت وحتى صالات الانتظار في الدوائر الحكومية والمستشفيات. لقد صار مألوفاً في السنوات الأخيرة، وربما حتى اليوم، مفاجأة الطلاب في طابور الصباح بإدخال نعش لتعليم الصغار أن الحياة قصيرة وحقيرة، ولا تساوي جناح بعوضة، وأن الموت قريب جداً. وبالمثل، فإن
عدداً لا يستهان به من المدرسين والمدرسات في كافة المراحل التعليمية قد حولوا الحصص المدرسية إلى دروس عملية لكيفية تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم في القبر. قبل شهور قليلة قرأت في جريدة الحياة خبراً عن مديرة مدرسة بنات في مدينة الخبر، قد جعلت من إحدى الغرف ما يشبه القبر وذلك بوضع بعض الجماجم والعظام البالية، وإدخال المؤثرات الصوتية والبصرية المخيفة. بقي أن تعرف أن مديرة المدرسة بدلاً من أن تعمم الفائدة العظيمة على كافة الطالبات لتحظى بالأجر الوفير، قد فرضت أجراً على الطالبات الراغبات (بالترويح) عن أنفسهن داخل المقبرة المدرسية... فقاتل الله الجشع وحب المال!!!

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط