هشام محمد / Jun 23, 2009

قرأت مؤخراً كتيّباً للباحث السعودي سعود السرحان بعنوان: الحكمة المصلوبة: مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة.  يقع الكتيب والذي قدمه الفيلسوف المصري حسن حنفي في 84 صفحة من القطع الصغير.  وزع الباحث دراسته بين أربعة محاور رئيسة: (1) واقع الفلسفة في عصر ابن تيمية، (2) أسباب عناية ابن تيمية بالفلسفة، (3) حكم الفلسفة عند ابن تيمية، وأخيراً (4) تأثير الفلسفة على ابن تيمية.  ستتناول السطور اللاحقة باقتضاب ما جاء في كل من المحورين الثاني والثالث، مع التعقيب والاضافة حسبما يقتضي الحال.

 

أسباب عناية ابن تيمية بالفلسفة:

لم تشغل الفلسفة حيزاً يذكر من هموم ابن تيمية الفكرية إلا بعدما جاوز السبعين من عمره.  في أواخر أيامه، انكب "شيخ الإسلام" كما يحلو لمريديه أن يلقبوه على وضع المؤلفات الشهيرة، مثل: "درء تعارض العقل والنقل"، "منهاج السنة النبوية"، "الصفدية"، "الرد على المنطقيين"، و"السبعينية".  انغماس ابن تيمية المتأخر في مطارحة الفلسفة والفلاسفة دفعت بالإمام الذهبي في كتابه "النصيحة الذهبية" لانتقاد ابن تيمية بالقول متأففاً:" فإلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يارجل لقد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن".

 

 ولكن مالذي دفع بشيخ تربى منذ بواكيره تربية حنبلية صرفة على السير في حقل شائك كالفلسفة، يتعذر دخوله على من كانت ينابيعه المعرفية مصدرها كتب الحديث والتفسير والفقه؟  لقد أراد ابن تيمية من خلال دراسته للفلسفة – كما نوه إليه الباحث–  أن ينسف الأطر الفكرية للتيارات الشيعية، وخاصة الإسماعيلية، أو ما درج على تلقيبهم في الأوساط السنية ب"الباطنية" لما عرف عنهم من شغف وميولات فلسفية.  إذاً، لم يكن الفضول المعرفي هو من حفز "شيخ الإسلام" على التعاطي مع الفلسفة، فابن تيمية دخل ميدان الفلسفة وهو شاهرٌ لسيف التكفير.  لقد أراد ابن تيمية من خلال تسفيهه لآراء وتصورات الفلاسفة أن يعري "اعداءه" الشيعة من أي سند عقلي، ومن ثم اثبات فساد عقيدتهم المؤسسة – بحسب رأيه – على الكفر بالله.  من الواضح أن ابن تيمية لم يقبل على الفلسفة بعقلية الباحث المتحرر من اية أهواء ذاتية واحكام مسبقة، بل اقبل عليها بعقلية مشبعة بايديولوجية ساخطة، وبفكر استعلائي واقصائي، وبذهنية تؤمن وبصرامة أنها وحدها فقط من تمسك بناصية الحقيقة.  هذا السلوك الذرائعي لشيخ الإسلام، والمتجرد من حيادية العالم وموضوعيته، كفيل بزرع علامات الاستفهام حول مصداقية استنتاجات الشيخ، مع فائق الاحترام لجهوداته المستميتة في الذب عن حياض الإسلام، بنسخته السنية طبعاَ. 

 

وبحسب الباحث السرحان، فقد وضع ابن تيمية خلال دراسته للفلسفة قاعدته الشهيرة "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح".  لا اعرف لماذا بدت لي تلك القاعدة كما لو كانت دعابة ثقيلة يصعب بلعها.  ايعقل أن تكون عنعنات الرواة وسلسلتهم معياراً موضوعياً لفرز الحقائق من الأكاذيب؟  كيف يثق ابن تيمية بروايات السلف، وبخاصة كثير من الأحاديث النبوية، بكل ما فيها من تناقضات بينية حادة، وما فيها من تصادمات عنيفة مع القرآن والعلم والأخلاق والذوق؟  وهل يملك هذا التراث المتضخم بكل ما فيه من شوائب توفير الإجابات اللازمة لمستجدات العصر وتفاعلات الواقع الديناميكية وتساؤلات العقل اللامتناهية؟ 

 

الملفت أنه وقبل ابن تيمية بأكثر من ثلاثة قرون، قال رجل، اسمه ابن الرواندي، وهو أحد أكثر المفكرين الملاحدة مشاكسة وجرأة في الإسلام، عبارة مغايرة للغاية وصادمة للغاية، إلا أن الأيام والسنين أهالت فوقها التراب، بعد أن اغتيل العقل وضربت حركة المعتزلة في مقتل: "فإما أن تتفق تعاليم النبي مع العقل، وحينئذ فلا موجب لها لأن العقل بغنى عنها وإما أن تتناقض معه، وحينئذ فهي باطلة".  هذا ما قاله بلا خوف ولا وجل ابن الرواندي، دون أن تدق عنقه، أو أن يحرق بالنار (نبش قبره بعد موته وصلب).   ولعل الفرق جلي بين هذا وذاك، فالأقدم ينتصر للعقل ويهزأ بالنص، بينما الأحدث ينحاز للنص ويهاب من مغامرات العقل.

 

وإذا كانت عبارة ابن الرواندي قد ذرتها الرياح، وبددتها الأيام، فإن آراء وأحكام وتعابير ابن تيمية مازالت تتوهج جمرتها في نفوس ورؤوس اتباعه حتى اليوم لدرجة أنك تشك فيما إذا كان ابن تيمية قد مات في سجنه قبل سبعة قرون خلت أم لا.  إن طريقة أحفاد السلفية الآن لا تختلف عن طريقة جدهم ابن تيمية في تعقب مناوئيه وخصومه من المفكرين والفلاسفة.  كتابات ابن تيمية هي أقرب ما تكون إلى ردة فعل أو ردود على الغير.  أيضاً، كتابات أحفاده اليوم لا تخرج في مضمونها عن مصادرة اجتهادات الغير أوالتصدي لأفكار مخالفيهم، تحت عناوين تحمل نفس الطلاء: "الرد على..." أو حوار هاديء مع...".  ابن تيمية كان لا يتردد في نعت خصومه بالكفر والإلحاد والضلال والفجور، وهو ما قد يعرضهم فيما بعد للقتل من قبل الحاكم أو الجهال ذوي الحماسة الدينية.  وأحفاد ابن تيمية كذلك لا يترددون في استدعاء قواميس التكفير والتخوين عند تناول نتاجات الآخرين الفكرية.  كل هذا دون أن نغفل علو نبرة الغرور الديني التي تسكن حروف ابن تيمية وحروف اولئك الذين تناسلوا إلى اليوم من عباءته.

 

حكم الفلسفة عند ابن تيمية:

 

جاء معنا أن ابن تيمية قد اقتحم ساحات الفلسفة ليهدمها من الداخل، ويسقط اعمدتها على رؤوس من سار في ركابها.  فالفلسفة عنده كفر، والاشتغال بها كفر.  لقد بلغت كراهية ومقت ابن تيمية للفلاسفة بأن يصفهم بأنهم أشد كفراً وضلالاً من اليهود والنصارى والمجوس ومشركي العرب والهند والترك والصابئين.  أما لماذا اختص الفلاسفة بهذه المنزلة العالية دون سواهم، فهذا لأنّ الفلاسفة يفسدون عقائد الناس، وهم – حسب ابن تيمية – يظهرون في البلاد "الجاهلة" التي تناسب احوالهم، مثل دولة القرامطة والتتر، ونحوهم من أهل الجهل والضلال، وفي دول أهل الردة والنفاق.  مرة أخرى، لا أكاد أجد فرقاً يذكر بين طبيعة فكر ابن تيمية ومفرداته وصياغاته اللغوية وبين أفكار ومفردات وصياغات المستنسخين من أهل السلفية اليوم، سواء أكانو شيوخ دين أو اساتذة أو خطباء أو دعاة. 

وانصافاً للحق، فابن تيمية لا يضع كل الفلاسفة في سلة واحدة.  فالفلاسفة الذين جاءوا قبل ارسطو، مثل سقراط وافلاطون كانو يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم، ويقرون بمعاد الأبدان.  أما ارسطو ومن جاء بعده من اليونانيين والإسلاميين، مثل ابن سينا والفارابي والسهروري وابن رشد فلا أحد يماريهم في الجهل والضلال والكفر.  الحقيقة أني شخصياً لم اكن أعلم أن سقراط وأفلاطون وفيثاغورس كانوا من الصابئة الحنفاء، مثل عمرو بن نفيل وأمية بن الصلت (!).  أما السر في كون أساطين الفلاسفة القدماء قد أسلمت قلوبهم فهذا يعود لأنهم قد نزلوا الشام ليغرفوا الحكمة الإلهية من معين الحكيم لقمان وأصحاب داوود وسليمان(!)  يالها من مقالة عجيبة حقاً!  لكن ما الحيلة مع فكرٍ بُنيَ على إيمان قلبي لا على سند عقلي؟  وحتى لو اتيحت لابن تيمية بالأمس نتائج الدراسات التاريخية اليوم ولقى التنقيبات الأثرية التي تكتفي بوضع ممالك داوود وسليمان السحرية في خانة الخرافة والخيال فلن يغير من الأمر شيئاً، مادام أن النص مقدم على العقل، والإيمان مقدم على العلم.

 

 وبما أن مؤلفات ابن تيمية تعتبر هي المحك للتمييز بين الحق والباطل، والفصل بين الصواب والخطأ عند أحفاده اليوم، فقد أعطى الباحث في مقدمته مثالاً لمدى تغلغل ابن تيمية العميق حتى في الأوساط والدوائر الأكاديمية، وذلك عندما أشار إلى وجود دراسة دكتوراة، نال على أثرها صالح الغامدي درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، بعنوان: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها.  الدراسة لا تخرج  عن حدود كيل المديح لشيخ الإسلام ابن تيمية في "فضح" الفلاسفة وتسفيه أفكارهم الملحدة.  أما تبويب ابن تيمية العجائبي للفلاسفة، وحديثه عن اتصال فلاسفة الشام بحكماء بني اسرائيل المزعومين فلا تراه يحفز "الدكتور" الوهابي على التشكيك والتساؤل والبحث، بل تراه يتقبل نتائج "الطوطم" الكبير دون مساءلة أو نقاش أو تفكير.  لهذا أقول أنه لا فائدة ترجى من الاكتشافات  التاريخية والأثرية التي تجرد التاريخ الديني من تأريخيته، وتضعه في سياق الحكاية الشعبية أو الخرافة، مادام أن العقل السائد لم يخرج بعد من جلباب ابن تيمية.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط