زهير الشرفي / Jul 23, 2006

منذ بداية التاريخ البشري كان الإنسان يتساءل: من أنا؟ أين أكون؟ من أين جئتُ؟ إلى أين سأذهب؟ كيف أسير وأنجح في سيري؟ هل أنا عبد لكياني أم فاعل في مصيري؟... هذه التساؤلات وأمثالها كانت ولا تزال تمثل مادة البحث والتفكير الفلسفي. فكان الإنسان حرا وواعيا بطبيعة ذاته وطبائع الوجود وناجحا في دفع حضارته وتطوير امكانياته وتوسيع مجال تصرّفه ونفوذه بقدر نجاحه في الإجابة على تلك التساؤلات وبقدر نجاحه في اكتشاف الإجابات التي تنسجم مع قوانين ونواميس الكون.

 

لقد تزامن تطور الفلسفة مع التطور الحضاري: تزامنت فلسفة كونفيشيوس مع الحضارة الصينية، وتزامنت الفلسفة اليونانية مع الحضارة اليونانية العظيمة، وفلسفة المعتزلة وأهل العقل والعدل مع الحضارة العربية العباسية، وفلسفة الأنوار مع الحضارة الحديثة المعاصرة... ونلاحظ  في العالمين العربي والإسلامي اليوم ما يدعم  نفس القول: ففي هذين العالمين يلتقي التخلف والاستبداد وعدم المساواة وانعدام الحرية والديموقراطية مع ظاهرة غياب تدريس الفلسفة وتشويهها ومحاربتها. بل أكثر من ذلك: فقد تمزّقت الشعوب إلى طوائف يجمعها الحقد المتبادل وبدأ الإحتراب الطائفي في العديد من هذه الدول المعادية للفلسفة وحرية التفكير.

تشتغل الفلسفة بالبحث عن الحقيقة منذ سقراط الذي اشترى الحقيقة بالموت فدفع حياته ثمنا لصدْقه ولعصيانه أوامر رجال الدين في اليونان، إلى المعتزلة والفلاسفة المسلمين الذين قُتلوا أو تكبّدوا شتّى أشكال الإهانة والمعانات والعزلة والتعتيم، وإلى كوبرنيكوس وجوردانو برينو وغاليليو... لكن مدارسنا اليوم لا تدرّس الفلسفة إلا بقدر ما هي تعتني بإهانتها وتشويهها ودفع أبنائنا وتلامذتنا للابتعاد عن سبيلها ومناهجها.

فالفلسفة التي ينبغي تدريسها باكرا منذ سنّ المراهقة حيث تتفتّق أحاسيس الجرأة والقوّة عند أطفالنا والتّوْق إلى الحرّية وجمع المعارف، إنما يقع تدريسها بعد ذلك السنّ وبعد أن يكون التلميذ الشابّ قد تلبّس منهجا لنفسه وذاته هو منهج العادة والطاعة لأصحاب النفوذ والانسحاق أمام المعهود والمفروض.

ومدارسنا التي تقدّم الحجج المعهودة لرجال الدين وأصحاب الأساطير والرواية، هي التي تمتنع عن تقديم الحجج المُقابلة لرجال الفلسفة وأهل العقل والعلوم الصحيحة. أليس لأبناءُنا الحق في الإطّلاع والمعرفة؟ أليس لهم الحق في الاختيار؟... هم الذين يولدون أحرارا كما يقول الفصل الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أليس من حقهم أن تُتْرك لهم حرّية الإختيار؟...

 

ثم إن مدارسنا التي لا تُنشئ التلميذ على حبّ الحقيقة لا ينبغي لها أن تتحدث عن ما هو وراء الحقيقة. ذلك لأن نسبية الحقيقة جزء من الحقيقة وليست بديلا عنها وإن كان يوجد شيء ما فوق الحقيقة أو بعدها فإما أن يكون جزء من الحقيقة أو هو خيال محض. المدرسة عليها أن تؤهّل التلميذ للصّدق في البحث وللالتزام التامّ بالبحث عن الحقيقة، أما نتيجة البحث فليس من حق المدرسة أن تحدّدها له.

مدارسنا التي فشلت في تقديم قيم وأنوار الحداثة ليس من حقّها أن تقفز للحديث عن نظريات "ما بعد الحداثة"، ومدارسنا التي لم تؤهّل عقل التلميذ ولم تقدّم لأبنائنا حُجج العقل والعقلانية لا يجوز لها أن تتحدث عن ما قد يوجد "بعد العقل والعقلانية":

فعديد من المذاهب الفلسفية المعاصرة كالوجودية واللاأدرية والقائلة بـ "تجاوز" أو "نسبية" الحقيقة والبحث العقلي، لا تُفهم معانيها ومُدعياتها إلا بعد نضج واكتمال عقلانية البحث عند التلميذ. لذلك فإن تقديمها في مدارسنا قد لا يصلح بالأساس سوى لإبعاد التلاميذ عن قيم الحداثة والعقلانية والصدق والجد في كسب الحقيقة وبالتالي لكراهية مادة الفلسفة ذاتها.

هذه المذاهب "الفلسفية الجديدة" التي تقدّمها مدارسنا لتلاميذ قتلتهم برامج الشحن المذهبي الأصولي عبر دروس التربية والتفكير "الاسلاميين" بصفة خاصة لم يأخذ منها التلاميذ سوى المحتوى "العبثي" و"التشاؤمي" والظلامي واللاهوتي. وهذه المحتويات هي التي تتجمّع داخل المنظومة الفكرية والنفسية لكل الضحايا من أتباع الحركات الإسلامية الإرهابية وتمثل سندا إيديولوجيا لهذه الحركات. لأجل هذا فإن إنقاذ البلاد يكون:

ـ بالعزوف عن تدريس هذه المذاهب في حالة العجز عن تقديم نقد لها.

ـ بتدريس العقلانية في أوضح وأتم مظاهرها.

ـ بتأهيل التلاميذ على أقدس القيم الفلسفية الإنسانية التي تدعو إلى حب الحقيقة والكدّ والجدّ في البحث عنها، والتي تتجسم في وحدة العقل البشري ووحدة منطقه وبراهينه ووحدة علومه الصحيحة.

ـ بتدريس الفلسفة منذ السنة الأولى ثانوي.

ـ بحماية عملية تدريس الفلسفة من الإساءات والتشويهات التي يُحدثها أعداؤها وأعداء الحرية. وتكون الحماية بواسطة رجال وهياكل فكرية وفلسفية لها سمعة حداثية وعلميّة داخل الوطن وعلى المستوى العالمي أيضا.

ـ بإعادة الترتيب القيمي إلى حالته الطبيعية، وهذا يعني أن يكون البحث عن الحقيقة هو الأعلى والموجّه لبقية القناعات لا العكس: فإن كانت الحركات الأصولية الإرهابية تبدأ عند تجنيد مناضليها بقلب الترتيب الطبيعي وبإعلاء قِيَمها الإيديولوجيو- لاهوتية إلى مقام السيادة والتوجيه، فإن الفلسفة تريد العكس، ومشروع الحداثة والحضارة لا يكون إلا بالعكس أيضا.

 

في الختام أقول أن عدم حماسة العديد من تلامذتنا لمتابعة دروس الفلسفة إنما هو أمر غير طبيعي البتّة: فكيف يعزف العقل عن التفكير، كيف لا يتحمّس التلميذ للفهم والمعرفة، إن لم يكن العقل مكبّلا والحياة محطّمة والتلميذ مدجَّنا؟

كيف ينحسر أو يضعف الحماس لمتابعة دروس الفلسفة؟ إن السبب في ذلك يتمثل، قبل كل شيء، في عجز الجهاز الإداري ـ التعليمي إن لم يكن في عدائه الصريح لهذه المادة بتغييبه لروحها التنويرية واستعاضته لتلك الروح بخليط إيديولوجي أُنتج وتعفّن بعضه في المركز الاستعماري واستُقدم بعضه من القرون الوسطى. إن حجم النجاح في تدريس مادة الفلسفة والنجاح في جعل التلاميذ يهتمون بمتابعة البحث في إشكالياتها هو الذي يدلنا على عصرانية وحداثية الدولة وعلى جديتها في العمل من أجل نهضة وتقدم الشعب والوطن.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط