مالك مسلماني / Jan 23, 2007

يتطلب تحليل ظاهرة اجتماعية أو سياسية وفق مبادئ علم الاجتماع، النظر إلى الظاهرة من خلال سياقها التاريخي لا وفق المُشاهَد للعين. فالظاهرة الاجتماعية، من وجهة نظر العلم، هي حصيلة تفاعلات مديدة بين مختلف الفئات المؤلّفة للمجتمع، وهذه التفاعلات تجري ضمن ظروف تاريخية محددة. ومن هنا، فإن أي مسعى لتفسير العنف الدائر في العراق لا يكون من منظور المقاربة الصحفية، حيث أنّ التناول الصحفي، إذ يرصد الحدث ويوثّقه، فإنّه يجعله في خدمة المؤرخ الاجتماعي، وهكذا، تبقى التغطية الإعلامية لما يجري في هذ البلد منذ اقتلاع صنم الطاغية، ورغم أهميتها، عملية تسجيل للحدث. أما دور المحللين فهو محاولة فهم العنف الجاري في العراق؛ لأن الأحداث التي يشهدها، هي في حقيقتها، مجردُ ظهورٍ إلى السطحِ لما كان كامناً في المجتمع العراقي (أو بعبارة أفضل «في المجتمعات العراقية»).

 

بدأ تاريخ العراق يأخذ منحى مختلفاً في الخمسينات مع تدفق العائدات النفطية، عندما قامت الدولة العراقية بعملية تحديث على أساس حيازة الآلة؛ ومنذ تلك اللحظة لاح أن تلك الدولة هي التي تقود مشروع تحديث البلد، لكن هذه العملية التي قادتها لم تكن إلاّ حداثة ظاهرية، لأنها كانت حداثة شراء الآلة وتوزيع الريع على محسوبين عليها في داخل المجتمع العراقي. وعندما جاء الانقلابيون ﺒ«ثورتهم» (!)، فإنهم استمروا بنفس السياسة: سياسة تحديث فوقية للقشرة الخارجية من المجتمع العراقي؛ ولهذا فإن هذه العملية التي أشرفت عليها الدولة لم تؤدِّ بالمجتمع لأن يكون مجتمعاً حديثاً، لأن الدولة في أنظمتها المتعاقبة لم تنتج عقلاً حداثياً يوازي ما تحوزه من ثروة نفطية ويعادل ما تستورده من التقنية.

 

لقد اتسمت الدولة العراقية بالاستبداد والتسلط، وقامت على مبدأ الراعي/ الرعية. أو الحاكم المطلق/ التابع المطلق. وهذا بالتحديد ما جعل الدولة راعي التجزؤ في المجتمع، فلم تكن قطّ الأداةّ الموِّحدة للمجتمع العراقي. وبقيت الدولة كذلك لأنّ مصلحتها السياسية تملي قوانين عملها، والأهم، لأنها نتاج اللاتجانس الاجتماعي في العراق. كانت الدولة متخلفة في بنيانها السياسي عن اقتصادها «المتطور» شكلاً.  بسبب ذلك، حافظت البنية الاجتماعية ـ السياسية العراقية على ركودها، فبقيت قيم القبيلة، والدين، والمذهب عناصر فاعلة في العراق، وبقي المجتمع العراقي مجتمعات لا تقبل الوحدة، وتعيش بظل قوانين قبل الأمة، وبالتالي لم تتأسس فيها الديمقراطية. وهذا الوضع في العراق ذي الجغرافية الواحدة ظاهرياً، والانقسام المجتمعي فعلياً، هو الذي سمح للنظام الانقلابي بدفع الطاغية إلى الواجهة. فالسلطة التي انبثقت من مجتمع قبل الأمة، وهي سلطة دون شرعية العقد الاجتماعية، كانت تحتاج إلى ديكتاتور يُعبد من أجل الحفاظ على الكيان السياسي من التآكل. كان نظام الحكم نظاماً فوقياً، قامعاً، أبوياً في روحه؛ وكان وجود الطاغية من المعالم الأساسية لمثل هكذا نظام.

 

لكن حال العراق كان مقيضاً له أن يتجه نحو الأسوأ عندما خاض النظام المنهار حربين عبثيتيْن نتج عنهما إفقار متزايد للشعب العراقي، وتدهور في وسائل الإنتاج. وربما ستكشف الدراسات المستقبلية حجم الدمار الذي لحق بوسائل وأدوات الإنتاج، لاسيما في الإنتاج الزراعي، الذي لا شك بأنه لم يخلق دماراً اقتصادياً فحسب، بل تغييراً سكانياً؛ لأن دمار الأرض بوصفها وسيلة إنتاج أدى لدفع مزارعين للهجرة إلى المدن، مما يعني توسعاً في مدن الصفيح. وكل ذلك كان يرفد الخزان البشري القابل للانفجار بأناسٍ لا أمل لهم وذوي آفاق اقتصادية مسدودة. والعراق اليوم يعاني ويلات الذين غدوا بلا أمل في عهد الحروب.

 

لكنّ الأمر لم يكن مقتصراً على ذلك، إذ كان ثمة عوائق ثقافية حالت دون تشكل قيم وتقاليد ديمقراطية لدى العراقيين: تأثير القبيلة، الطائفة (الملة/ الدين). وكون الفرد هو عنصر من كيان دون الأمة؛ فالفرد عنصر من جماعة دينية، لا بل من جماعة مذهبية من دين: فهو إما سني أو شيعي، أو من قبيلةٍ وأخرى، وإلى آخر هذه التقسيمات التي هي كلها دون مستوى الأمة.

 

علاوة على ذلك، فإن القيم التي تبناها النظام المنهار عن الخصوصية الثقافية العروبية، كانت تقوم على رفض القيم البرجوازية بوصفها قيماً غربية. ولهذا بقيت الدولة تكرّس الحالة القائمة، وصارت ـ إذا جاز التعبير ـ إقطاعي الإقطاعيين الذي يناوئ كل ما قد يقوّض سلطته. فكانت ثقافة هذه الدولة هي «ثقافة» الإقطاعي الخائف من البرجوازي؛ «ثقافة» دون الأمة المرعوبة من فكرة الأمة؛ «ثقافة» الاستبداد المنقضة على الثقافة الديمقراطية. كانت الدولة العراقية «التقدمية» (نظير كل دولة في العالم العربي: ملكية/ جمهورية/ جماهيرية/...) كياناً متعالياً تسلطياً، مناوئاً للتقدم والعلم، ظلامية المضمون.

 

إلى كل ما سلف، خلقت الممارسات الطغيانية التي قام بها النظام المنهار ذهنية خانعة؛ هذه الذهنية لم تؤدِّ إلى الخضوع للسلطة فحسب، بل أدت إلى تعطيل نظرة الفرد النقدية، والآن، بعد أنْ تم الإطاحة بالنظام، فإن الأفراد وإذْ لم يكن لديهم من ميراث غير الاستبداد، صاروا يخضعون بشكل أشدّ للمرجعيات العشائرية والدينية. ونشهد حالياً مآلات النظام التسلطي بسيادة روح الخضوع لمرجعيات ما قبل الأمة من جهة، وتجذر روح الثأر في النفوس، وهذا الوضع لا يهدد كيان العراق السياسي، بل يهدد بتحويل البلد إلى مقبرة كبرى.

 

لقد رُبي العراقي على مدى سنوات الاستبداد، على انتظار ما يأتي من الأعلى في المؤسسات المدنية والعسكرية وغير ذلك؛ وعندما انهار النظام، فإنّ هذا الانهيار خلق فراغاً كبيراً لأن العراقي وجد نفسه فجأة بدون هذه السلطة العليا التي «تتنزل» منها الأوامر، فشعر بالضياع. وهذا الانهيار والضياع بغياب السلطة جعل الفرد أسير اليأس والتشاؤم، فأدى لبروز ظاهرتين متوازيتيْن: العنف السني الذي تقوم به القاعدة، وظاهرة فرق الموت الشيعية.

 

لقد غاب أمان السجن، وغابت حماية الأسوار، فتفجرت المجزرة الدموية بين أطراف الصراع.

 

والذي يدفع الأمور باتجاهات أكثر دموية، إن الفرد العراقي (مثل العربي في كل مكان) هو جزء من جماعة دون الأمة، وهو اليوم في انغماسه الدموي في الصراع يتحرك بدون إرادة كونه ذائباً في جماعة/ قبيلة/ ملة.

 

إن عودة الأشكال القديمة للعمل السياسي، وما يرافقه من عنف، يكشف عن عمق الفراغ في المجتمع العراقي. وشدة العنف ترجمة لمقدار الخوف الذي يعتمل في كل مكون اجتماعي عراقي من الآخر.

 

من جهة أخرى، لم تكن الدولة في العالم العربي مؤسسة تحظى باتفاق الشعب (دولة تعاقدية). كانت الدولة، وما زالت، كياناً غريباً، منفصلاً، وبالتالي فإن الصراع في العراق هو للاستيلاء على الدولة، لأنها السلطة والقوة والمال والنفوذ والهيمنة على الأطراف الأخرى؛ فالدولة بحد ذاتها غنيمة يستأثر به الطرف القوي.

إن ما يجري في العراق ليس مخاض ولادة لعراق جديد، بل معاناة الفوضى، التي سببها سعي أطراف لتغيير الخريطة السياسية على أساس تبادل الأدوار، لا إصلاح المعادلة السابقة. إنه الحوار الذي كان يجب أن يجري منذ زمن طويل، ولكن بأدوات ديمقراطية، فلمّا لم يتم الحوار سلمياً، صار الحوار المتأخر حواراً مسلحاً.

 

إن مأساة العراق، ومأساة كل العالم العربي، أنهما يعيشان في عالم القبيلة والملة، في عالم ما قبل الأمة، وليس العراق والعالم العربي بعيدين عن الحداثة فحسب، بل بعيدين حتى عن أوروبا القرن السابع عشر.

 

العراق في حالة حرب داخلية بين مكوناته الاجتماعية، لأن بنيته الاجتماعية الحالية دون مرحلة الأمة. العراق اليوم هو عراق الأمس، ويبقى على العراقيين أن يقرروا: هل يريدون عراق الغد مثل عراق الأمس واليوم؟

=============

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط