قبحُ الرواية وتشويهُ التاريخ
سيمون جرجي / Oct 14, 2009

كنتُ أتصفّحُ النّهارَ يومَ الثّالث من تشرين الأوّل 2009 فلفتَ انتباهي مقالٌ للأستاذ جهاد الزّين يتحدّث فيه عن "عزازيل" رواية الكاتبِ المصريّ يوسف زيدان، وعن فنّ الرّواية التّاريخيّة، ويلمح إلى خمول أدباء الشّام - لبنان في مواجهة المصريّين الذين ما زالوا يحتفظون "بحسٍّ إبداعيٍّ تاريخيّ" على حدّ قولِه. وأعادتني قراءته إلى الرّواية نفسِها وما انتابني من مشاعرَ وأفكارٍ بعدَ الانتهاء منها قبلَ حوالي أسبوعين.


عرفتُ الرّواية وسمعتُ عنها في غمرة الضجّة التي أثارتها ضدّها الكنيسة القبطيّة في مصر، وبدلَ أن تنجح الكنيسة في ما أرادتْ، ساهمتْ بشكلٍ كبير في نشرِ الرّواية وإطلاق اسمها في الآفاق، ولا أظنّني أبالغ إذا ما قلتُ إنّ بلوغ الرواية طبعاتها المتلاحقة (4 طبعات في سنة 2008) يعودُ قطعاً إلى الهجوم القبطيّ العنيف الذي بلغ، ويا للأسف، القضاء المصريّ! ولستُ أرى الآنَ في ردّة الفعل هذه سوى ضعفٍ وشبهٍ بالأزهر وبكلّ مؤسّسة تخشى من الكلمة على أتباعِها، وأقولُ الأزهر متذكّراً تحريم "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوريّ حيدر حيدر. فالمشهدُ هو ذاتُه مع اختلاف الأطراف: رواية الوليمة كُتبت ونُشرت في نهاية الـسبعينات، ثمَّ طُبعتْ من جديد فحرّمها الأزهر لعبارات وردتْ فيها. وكانَت هذه الحرم مادّةً للصّحف والمجلات، وبدلَ أن يخــضعَ القارئُ العربيّ (وخاصّة المصريّ)  لقضاء الأزهر، نراه يفعل المستحيل ليحصلَ على الرّواية بأيّ ثمن، وليقرأ تلك العبارات التي أغاظت اللهَ والأزهر من بعدِه. وكانَ هذا حالَ "عزازيل".



يقولُ الأستاذ جهاد إنّ زيدانَ (وهو مسلم) هو الرّوائيّ الأوّل الذي يلجُ عالمَ القرن الرّابع المسيحيّ، ولا أعلمُ ما الذي أعادَ على ذاكرتي بقولِه هذا رواية "حدائق النّور" (بالفرنسيّة) للروائيّ اللبنانيّ أمين معلوف. وبينما راحَ زيدان يقصّ علينا وقائعَ الصّراع العقائديّ في القرن الرّابع، وعنف انتشار المسيحيّة في الدّيار المصريّة، على فمِ طبيبٍ راهبٍ مصريّ؛ حملَ إلينا معلوف قصّةَ أشهر معلّمي القرن الثّالث "ماني" (وهو أيضاً طبيبٌ وراهب) وتبشيره المسالم بعقيدته الجديدة في أنحاء الإمبراطوريّة الفارسيّة!


للرّواية التاريخيّة متعةٌ خاصّة، تعودُ بكَ إلى أزمنةٍ ولّتْ، وتُدخلكَ عالماً انقضى على أحداث ووقائع نقرأها اليومَ بعيونٍ جديدة. وعيونُ الأدبِ هذه تعيدُ رسمَ الأحداثِ، وتفسّرها في نورِ عالمِ اليوم، وترى وتلمس فيها أشياءَ لا يُمكن إنسان ذاك الزّمان أن يراها أو يلمسها. ولهذا تُسمّى "روايةً"، وإذ تعتمدُ هذه لغةً على النّثر، فلا بُدَّ لها من أن تتمثّلَ لغةً فنيّةً راقيةً، وإذ تكون اللغةُ عنصراً مشتركاً بين سائر الأجناس الأدبيّة، فالرّوايةُ تنهلُ أيضاً من الخيال رافداً تستقي منهُ لغتُها، ويجمعُ بين اللغةِ والخيال عنصرٌ ثالث يركّبُ هذا في ذاك، أعني السّرد!


تنازعت الرّواية في نشأتها بين الأدبِ والتاريخ، فراحَ الذين كتبوا في هذا الفنّ يغدقونَ عليها أوصافاً من شأنها أن تجعلها أختاً أو حليفةً للتاريخ، وهذا عيبٌ يغفلُ عنه القرّاء، فمهما حاولَ الرّوائيّ أن يبلغَ لما استطاعَ أن يكتبَ التّاريخَ ولا أن يلجَ عالمَه الواسع. والخلطُ بين "الرّواية" و"التّاريخ" يقعُ حينَ ينصبُ الرّوائيُّ للقارئ فخّاً يُدخله شيئاً فشيئاً في أسرِه.

يُذكّرنا هذا بما فعلَه الرّوائيّ الأميركيّ دان براون في روايتِه "شيفرة دافينتشي" (The Da Vinci Code) التي نُشرتْ في عام 2003، وفيها يتحدّث عن زواج المسيح والحفاظ على نسلِه عبر جمعيّة سريّة ذات طقوس خاصّة. ويذكر في روايته أسماء وأحداثاً وأماكنَ تاريخيّة ساهمتْ في إيهام القارئ بأنّه يقرأ كتـاباً تـاريـخيّاً. وهذا ما دفعَ الكنيسة الكاثوليكيّة إلى تحذير المؤمنين من قراءتها، لا بل قامَ عددٌ غيرُ قليل من رجال الكنيسة والمفكّرين المؤمنين بكتابة العشرات من المقالات وبضع كتبٍ تنفي علميّاً وتاريخيّاً ما جاءَ في الرّواية. يتكرّر هذا الصّراع على نطاقٍ أضيق في رواية المصريّ زيدان "عزازيل". فالمقالات والرّدود التي كُتبتْ في شــأنها لهي أصدق دليل على أنَّ القارئ لا يُمكنه التمييز بـيـن "الـرّوايـة التّاريخيّة" وهي فـنّ أدبـيّ، و"التـاريـخ" وهو أحد العـلوم.


في هذا الصّدد يرفضُ زيدان المقارنة بين روايته ورواية دان براون معتبراً أنَّ الأخيرة منشأة على أوهامٍ غير ثابتة ولكتابتها أهدافٌ مختلفة حقّق منها الكاتب ما أراد! ويرفض أيضاً اتّهاماً وُجّه إليه يطعن في حياديّته ويصرّ على أنَّ جميع وقائع وأحداث روايته حقيقيّة ما خلا "الرّاهب الطبيب هيبا"! ولا يسعني هُنا إلا الإشارة إلى أنَّ زيدان يحاولُ مرّةً أن يعتبرَ عملَه فنّاً أدبياً، ومرّةً أخرى عملاً تاريخيّاً باعتبار الوقائع والشخصيّات حقيقة تاريخيّة! وهو بهذا لا يعلمُ على أيّ الجنبين يستوي! فهو وإن كانَ قد استلَّ من التّاريخ شخصيّات وُجِدَتْ ووقائعَ حدثت بالفعل، إلا أنّه بسردِه وخيالِه جعلَ منها شخصيّات جديدة لا تمتّ بصلة إلى تلك التاريخيّة، وخاصّة عند ذكر الأحاديث والنّصوص التي نسبها إليها! وهذا في الحقيقة هو شأن الفنّ الأدبيّ لا شأن علم التاريخ.


وبينما حاولَ اللبنانيّ معلوف جهدَه الحفاظ على وقائع التاريخ والأعوام وسيرِ أحداث ذاك الزّمان وفكرِ بطلِه ماني وفلسفته من خلالِ خطبه وأحاديثه العديدة، نرى زيدان في "عزازيل" يبتكرُ لنسطورَ (إحدى شخصيّات العمل) ولغيرِه من شخصيّات الرّواية، فكراً جديداً ليسَ له أيّ مصدر أو مستند في التّاريخ، كما يجعل من نظرة النسطوريّة إلى ابنِ الله مختلفة تماماً عمّا كانته وعمّا تكونه اليوم.


لن أسهبَ في الحديثِ عمّا اقتبسه الكاتب من التّاريخ وعمّا كتبه من وحي خيالِه الرّوائيّ بل أقولُ كلمةً أخيرة في لغة الرّواية التي يُلاحظ القارئ أنَّها أقربُ إلى لغةِ العامّة منها إلى الأدب، فالكلمات العاميّة والغريبة التي استخدمَها، وتعدية الأفعال بحروفٍ ليست لها (غالباً بحسب أسلوب العامّة)، وطرقُ الإضافة الرّكيكة، هذا بالإضافة إلى بعض التناقضات التي يقعُ فيها الكاتب فيُربكَ بها القارئ كأن يجعلَ الرّاهبَ هيبا بعيداً عن السّكينة في الدّير الذي يسكن فيه (الصّفحة 15 من الطّبعة الخامسة كانون الثاني 2009)، ثمَّ نراهُ ينعمُ بها -في الصّفحة 18- ؛ كلّ هذا من شأنِه أن يُحدثَ خللاً في ذهنِ قارئ الأدبِ، ووهناً في لغةِ الرّواية التي تُعتبر من أهمَّ العناصرِ شكلاً، فبها تحسنُ الأخيرةُ في العيون وتستطيبها الأذواق وبها أيضاً تقبح وتُمَجُّ!

 

يربطُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ سارتر الرّواية بالتاريخ وهذا بالوجود، فإذا كانت عناصرُ الرّواية التاريخيّة مأخوذة (قليلاً أو كثيراً) من التاريخ لكن بشكلٍ جديد، فما معناها إن جاءتْ أقبحَ شكلاً ممّا سبق أو أكذبَ روايةً ممّا كان؟!


* نُشِرَتْ في جريدة "النهار" اللبنانيّة، الأربعاء 14 تشرين الأوّل 2009، السنة 77، العدد 23844.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط