سيمون جرجي / Apr 30, 2008

خيانة يهوذا الإسخريوطيّ تهمة أم واقع؟!

المقالة التالية  بقلم مروان قرضاب عن جريدة "النهار"، الجمعة 25 نيسان 2008 - السنة 74 - العدد 23332 ، صفحة "منبر". يليها الرد بقلم سيمون جرجي.

 

هل يهوذا خائن؟

اضافة الى الثالوث المقدس "الآب والابن والروح القدس"، هناك اعمدة اساسية ثلاث تقوم عليها المسيحية.
- اول هذه الاسس هو الايمان بتجلي الله على الارض.
- ثانيها طريق الجلجلة التي انتهت بالصليب الذي رفع خطية العالم.
ثالثها قيامة المسيح في اليوم الثالث!
اذا زالت هذه الاسس تزول معها رسالة المحبة والفداء والقيامة.
كيف استطاعت الكنيسة المسيحية ان تقبل بهذه المعتقدات ومثيلاتها، فيما تتهم يهوذا بالخيانة وتلعنه، لأنه كان ذا دور اساسي في كل هذه الاحداث المقدر لها إلهياً باعتقادي.
الم يقل السيد المسيح لتلاميذه: "انا ذاهب ثم آتي اليكم. لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت امضي الى الآب. لأن ابي اعظم مني. وقلت لكم الان قبل ان يكون حتى متى كان تؤمنون".
السؤال الاول الذي راودني هو:
- لماذا يحقد من يحقد ويتهم من يتهم يهوذا الاسخريوطي ويتناسى دوره في اتمام سر الفداء الذي تجسد من اجله السيد المسيح؟ للذين يتهمونه ايضا اوجه الاسئلة الآتية:
- الا تعتقدون انكم تظلمون يهوذا باتهامكم له بالخيانة؟
- الا يعتقد الذين ما زالوا الى يومنا هذا يرددون اتهام يهوذا بالخيانة بأنهم يرتكبون ظلما بجعلهم هذه التهمة تتردد على لسان كل مسيحي في العالم؟
- هل كلف احدكم نفسه البحث عن حقيقة هذه التهمة؟
افهم ان رجال الدين لا يجرؤون على مخالفة الكنيسة الام وقراراتها حتى لو آمن احدهم ببراءة يهوذا.
لهذا وجدت نفسي كانسان يتمتع بقليل من حرية الفكر والمعتقد، معنيا بهذا الموضوع، ورأيت انه من واجبي الدفاع عن هذا الانسان الذي يشبه العلماء الذين اعدمتهم الكنيسة بالامس القريب لأنهم تجرأوا على القول بأن الشمس هي المحور الذي تدور حوله الارض والكواكب. العلم اعاد الاعتبار الى هؤلاء العلماء واثبت بطلان التهمة عنهم، بينما لم يتجرأ احد على الدفاع عن يهوذا المسكين الذي لم يقبل ان يغفر لنفسه.
اليوم اردت ان اكون الصوت الصارخ في البرية كما قال يوحنا المعمدان يوما، وان ادافع عن يهوذا الاسخريوطي متمنيا ان تتفهم الكنيسة كلماتي بقلب مسيحي تغمره المحبة.
هناك اسئلة كثيرة ايضا طرحتها على نفسي قبل ان أتجرأ على طرحها على الاخرين.
السؤال الاول: اليس فعل يهوذا كان سببا من الاسباب التي ادت الى قيامة المسيحية واستمرارها؟
السؤال الثاني: الا يعتقد الذين ما زالوا يتهمون يهوذا الى يومنا هذا بأنهم يشككون بقدرات السيد المسيح ومعجزاته؟
تعالوا ننظر الى هذا الموضوع بتجرد، ومحبة، ونطرح على انفسنا مجموعة اخرى من الاسئلة:
- هل يستطيع تلميذ من تلامذة الرب المتجلي القادر على معرفة ما تكنه النفوس ان يقوم بأي عمل بعيدا عن اوامر معلمه او ايحاءاته؟
- الجواب المنطقي بالتأكيد لا يستطيع.
- هل تستطيع مجموعة من العسكر القاء القبض على معلم جعل الاعمى يبصر والكسيح يقوم ويمشي والمرأة العاقر تنجب طفلا، الى ما هنالك من معجزات؟
- الجواب ايضا لا يستطيعون لأنه لو اراد لجعلهم عميانا مكرسحين.
- هل تستطيع مجموعة من الكهنة الفريسيين الفاسدين ان تتهم السيد المسيح بالتجديف وان يوصوا بصلبه؟
- ايضا الجواب لا يستطيعون، لأنه لو اراد النفي لاستطاع بكل سهولة واجاب بالنفي عن سؤالهم له اذا كان هو المسيح.
- حتى قرار بيلاطس وصراخ الجمهور، وطلبهم منه ان يصلب المسيح ويعفو عن براباس، برأي كان قرارا مكملا للرسالة التي تجسد من اجلها.
ببساطة اقول: السيد المسيح صنع طريق المحبة التي هي ارقى الطرق للوصول الى الله، صنعها بآلامه، وبعذاب الجلد واكليل الشوك وبآلام طريق الجلجلة والصليب.
جميعكم تؤمنون بقرارة انفسكم بأن السيد المسيح اراد بشكل او بآخر ان يحدث ما حدث، اذا آمنتم حقيقة بذلك سوف تدركون ان يهوذا الاسخريوطي فعل ما فعل دون ان يعترضه السيد المسيح، ودفع الثمن غاليا بحياته ومماته، وبتاريخه.
اتهمتم يهوذا لكنكم لم تتهموا بطرس الذي انكر السيد المسيح ثلاث مرات في ليلة واحدة وقبل صياح الديك ولم تتهموا بولس الذي اضطهد تلامذة المسيح ونكل بهم قبل ان يأتيه الوحي ويؤمن!
ايضا الم تخالفوا تعاليم السيد المسيح باتهامكم هذا لأنكم تناسيتم قوله: "من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر"، ما اكثر الحجارة التي ما زلتم ترجمون بها تلميذ السيد المسيح يهوذا الاسخريوطي.
كلما صلّب مؤمن على صدره او علق الصليب في عنقه او على جدار غرفته يجب ان يتذكر فضل يهوذا عليه.
- كلما تذكرتم آلام السيد المسيح التي عاشها من اجلنا ومن اجل ترسيخ ايماننا بالله، عليكم ايضا ان تتذكروا يهوذا.
كلما نطقتم بعبارة المسيح قام، حقا قام، عليكم ان تعتذروا من يهوذا. هناك مئات الملايين من المسيحيين الذين لم يقرأوا الانجيل المقدس، لكن لا يوجد مؤمن مسيحي واحد على وجه الارض، لا يعرف طريق الجلجلة والصليب والقيامة. اين يهوذا من كل ذلك؟
التاريخ ظلم يهوذا والشعوب المسيّرة بالدعاية مشت بهذه التهمة على "العمياني".
بختام هذه المرافعة اقول: دائما اشعر بالسعادة كلما دافعت عن مظلوم، اما اليوم فأستطيع القول ان السعادة غمرتني وانا اكتب هذه الكلمات التي اتمنى ان تترجم الى كل لغات العالم.
غمرتني السعادة لأنني تجرأت على مخالفة رأي عام عالمي يتهم يهوذا بالخيانة، ورجال دين يذكرونه بأكثر القداديس والمناسبات الدينية ويلعنونه، بينما هو من اوائل الناس الذين آمنوا بالسيد المسيح وبرسالته. بارك يا رب جميع المؤمنين والقديسين وبارك يهوذا الذي ساهم بقيامة الديانة المسيحية.
اتمنى على الفاتيكان ان يعيد الى يهوذا اعتباره، كما اعترف بأن الشمس هي المحور وليس الارض.
لو عاد السيد المسيح اليوم، لقال: سامحهم يا ابتاه لأنهم لا يدرون لماذا يتهمون يهوذا.
ايماني برسالة الفداء والمحبة التي طبقها السيد المسيح على نفسه قبل ان يطلب منا تطبيقها، جعلني اؤمن بأن يهوذا كان رسولا مشاركا باتمام رسالة الفداء وليس خائنا لها.

==============

الردّ:

قضيّة يهوذا الإسخريوطي وخيانته حملت من الجدل ما لم تحمله قضيّة أخرى من الأحداث التي رافقت اعتقال يسوع ثمّ صلبه وموته فقيامته في اليوم الثالث من بين الأموات. لا أعني أنّها نالت مركزيّة في حياة الكنيسة كما نالت أحداث الفداء الأخرى، لكنّها أخذت في الآونة الأخيرة حيّزاً واسعاً من تفكير المسيحيّين وغير المسيحيّين مقارنةً بمبدأ الرّحمة الإلهيّة، واستناداً على مقولة المسيح الشّهيرة: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بأوّل حجر" أثناء حادثة الزّانية.

 

ما حملني على كتابة هذه السّطور هو مقال كتبه السيّد الباحث مروان قرضاب في صفحة "منبر" من جريدة النهار اللبنانيّة معنوناً بـ "هل يهوذا خائن؟" ونُشر في جمعة الآلام بحسب التقويم اليولياني المعتمد لدى الكنائس الشرقيّة في 25 نيسان من العام الجاري. خلاصة المقال هي مطالبة الكنيسة في شخص "الفاتيكان" بإعادة الاعتبار إلى يهوذا كونه كان عاملاً رئيسيّاً في حدث الفداء وإسقاط تهمة الخيانة عنه، واتّهام الذين يتّهمونه بالظّلم ومخالفة تعاليم الربّ وأقواله!!!

يفتتح الكاتب مقاله بذكر أوّل الأعمدة الأساسيّة التي تُبنى عليها المسيحيّة ألا وهو "الإيمان بتجلّي الله على الأرض". هذه العبارة تبقى عبارةً عامّة ما لم تُقرن بـ"الله" كلمة "الابن". فالمسيحيّة لا تؤمن بتجسّد الله وتجليه هكذا، بل تعتقد بتجسّد الله الابن، ومن الضروريّ جداً التمييز بين الأقانيم الثّلاثة في حدث الفداء، فالابن فقط هو من تأنّس وولد من العذراء مريم وبشّر وصلب وتألم ومات وقام متغلّباً على الموت والخطيئة ومانحاً الحياة للجنس البشريّ السّاقط.

 

يُشير السيّد مروان إلى أنّ الكنيسة اتّهمت يهوذا بالخيانة ولعنته وهذا ظلمٌ باعتقاده، ونسي أن يقرأ ما جاء في نصوص الأناجيل المقدّسة: "إنَّ ابنَ الإنسان ماضٍ، كما كُتب في شأنه، ولكن الويل لذلك الإنسان الذي يُسلم ابنُ الإنسانِ عن يده. فلو لم يولدْ ذلك الإنسانُ لكان خيراً له" (مت 26/24. راجع أيضاً مر 14/21؛ لو 22/22). لا بل إنّ لوقا يمنح مشهد الخيانة بشاعةً عندما يقول: "فدخلَ الشّيطانُ في يهوذا المعروف بالإسخريوطيّ" (22/3).

فيهوذا هو من دان نفسَه بنفسِه ولم يدنه أحد، وكلام الربّ يسوع واضح بيّن في هذا الشّأن، وخاصّة عند عبارته "إنَّ ابنَ الإنسانِ ماضٍ كما كُتب في شأنه...". ولم تكن الكنيسة من حكم عليه بالخيانة أو دانته أو شابه بل كان الربُّ هو الديّان الأوّل الذي قال: "الويلُ لذلك الإنسان" وتكفي هذه العبارة لتسقط تهم الكاتب الموجّهة إلى المؤمنين والكنيسة.

وإمعاناً في التأكيد على أنّ الإنسان هو الذي يجازي نفسَه بنفسِه أخيراً فعل أم شراً نقرأ أيضاً في خطبة بطرس الواردة في سفر أعمال الرّسل: "... ليقوم بخدمة الرّسالة مقام يهوذا الذي تولّى عنها ليذهب إلى موضعه" (أع 1/25).

إذا قبلنا فرضاً بمقولة كاتب المقال بأنّ كلَّ من كان له دور في إتمام سرّ الفداء يخلص، فإنّ الشّيطان الذي جرّب الربّ على الجبل له دور أساسيّ إذن، وبالتالي فهو أيضاً لم يفعل إلا ما كان عليه أن يفعل، وهذا ينسف هذه المقولة بأكملها! ألم يكن لهيرودس الكبير أيضاً دور في ذهاب يوسف ومريم ويسوع إلى مصر ثمّ عودتهم وسكنهم في الناصرة، وبالتالي تحقّق النبوءة "إنّه يُدعى ناصرياً"؟!

 

يضع الباحث مروان مجموعة من الأسئلة تتعلّق بالتدبير الخلاصي وبالحكمة الإلهيّة مواجهةً لمسألة الشرّ الموجود في العالم. يقول بأنّ اتّهام يهوذا هو تشكيك في قدرات الربّ ومعجزاته، لأنّ الربّ أراد كلّ شيء فكان ذلك، ونسي باحثنا أنّ الربّ لا يُمكنه أن يريد الشرّ ولا سلطانه على الأرض. وإذا قبلنا مجدّداً بمعادلته هذه التي تقول بأنّ كلّ شيء أراده الربّ: أعمال التلاميذ موحاة من الربّ، قرار القبض عليه من تدبيره، اتّهامه من قبل عظماء الكهنة وشيوخ الشّعب، قرار بيلاطوس بصلبه... إلخ. أين حريّة الإنسان وإرادته في كلّ هذا؟! لو كان ذلك صحيحاً فالإنسان غير مسؤول عن أيّة خطيئة يقترفها، لأنّ الربّ يريد ذلك، وهذا ضمن تدبيره!!! إذن لماذا وُجدت الدينونة؟! وبأيّ حقّ سيدين الله العالم وهو يحضّر للإنسان ما يفعله وما لا يفعله؟!

 

الإنسان هو المسؤول الأوّل والأخير عما يفعله من الشرّ، حتى لو كان ضمن الأحداث التي قادت إلى فداء البشر. وخيانة يهوذا لمعلّمه جاءت إتماماً لما كان يسرقه من صندوق المال الذي كان يحمله. وحرية الإنسان وإرادته الحرة هي على صورة الله ومثاله، ولا يُمكن لله أن يناقض نفسَه بنفسِه في سحب هذه الإرادة الحرّة من الإنسان وقتما يريد!

 

يقول السيّد قرضاب بأنّ اتّهام يهوذا يقتضي اتّهام بطرس الذي أنكر معلّمه ثلاث مرّات، ولكنّ الفرق بين الاثنين، هو أنّ الأوّل ندم على ما اقترفه لكنّه يأس من رحمة الله وغفرانه وفي يأسه هذا قتل نفسَه فأخطأ مرّةً ثانية. أخطأ في خيانته، ثمّ في يأسه من رحمة الله وأخيراً في قتلِ نفسِه دون أن يكون له الحقّ في ذلك. بينما بطرس أخطأ في نكرانه لكنّه ندم وتاب وهذا دليل على رجائه وإيمانه بمحبّة الله وعدله، وما قام به لاحقاً يؤكّد على إيمانه هذا.

 

المسيحيّة لم تدَّعي خيانة يهوذا لمعلّمه يسوع، ولم تنشر عنه دعايةً كاذبة كما يدّعي السيّد مروان، والمؤمنون بتعاليم الكتاب المقدّس وتفاسير الكنيسة يعرفون حقّ المعرفة مكانة كلّ رجل من رجالات الكتب المقدّسة ومكانة الأحداث التي تمّت منذ الخلق وحتى القيامة (الخلق الجديد). وكلمة "على العمياني" ثقيلة قليلاً على من يؤمن ويرجو ناهيك عن أنّها خاطئة كما أثبتنا سلفاً.

لو آمن يهوذا برسالة يسوع لبقي حياً ولذهب يبشّر في أصقاع الأرض كما فعل بقيّة الرّسل والتلاميذ...

يهوذا خانَ نفسَه قبل خيانةِ معلّمه!

في ختام عجالتي هذه أودّ أن أشكر الباحث مروان قرضاب لمرافعته عن يهوذا الإسخريوطي الذي خان معلّمه فحكم على نفسِه، كما أشكره لرغبته في الدفاع عن الظلم والمظلومين، ولو كانت نتيجة المحكمة اليوم في غير صالحه، كما سبق وبيّنت بحسب اعتقادي المبنيّ على نصوص إنجيليّة صريحة وتعاليم كنسيّة معروفة.

أخيراً لابُدَّ لي من التذكير بأني لا أنا ولا غيري يُمكنه أن يحكم على شخصٍ آخر ويدينه، وليس من حقي تصنيف البشر وتقييمهم فهذا من فعل الديّان وحده، وما قمت به أعلاه لم يكن إلا تبيان النّصوص كما جاءت في محلّها ونقد لمسألة طال وسيطول فيها الجدل.

==============

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط