بندلي زيادة / Feb 28, 2004

عندما تشب على هذا الحلم منذ طفولتك، وتتخذ الفكرة احترافاً، ويطلّ عليك السراب،  تصدمك الخيبة. أدهشتني هذه الكلمات التي افتتح بها خطيب أنطاكيا، سيدنا جاورجيوس خضر مقاله "على رجاء الوحدة المسيحية" في جريدة النهار في عددها الصادر بتاريخ 26/1/2002 الحلم الذي تكلم عنه هو وحدة المسيحيين في الشرق والغرب، وهو لعمري حلم كلّ مسيحي مؤمن صادق. فما هي العقبات التي تحوّل هذا الحلم الجميل إلى (سراب!) و(خيبة!..)

 

لن أتكلم هنا عن العقبات اللاهوتية لأن لها اختصاصييها، ولكنّي سأتكلم عن العقبات النفسيّة التي صدمتني بالخيبة أنا الآخر، وأدركت أن هذا الحلم بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً.

 

الوحدة المسيحيّة كما أحلم بها هي وحدة الألفيّة الأولى، قبل الانقسام، عندما كانت كنيسةً واحدةً لراع ٍ واحد. هو ربّ المجد، يسوع المسيح. وحدة لا تسيطر فيها كنيسة محليّة على شقيقاتها، وحدة يتساوى فيها أساقفة المسكونة في الكرامة، ولا تمتهن هذه الكرامة حتّى ولو ترأس أحدهم بالمحبة.. وهنا تعود ذاكرتي إلى حادثةٍ قرأتها فصدمتني الخيبة. حدثت عام 1870  المجمع الفاتيكاني الأول، عندما رفض بطريرك الروم الكاثوليك (وهو بطريرك أنطاكية والإسكندرية وأورشليم!!) غريغوريوس يوسف لأول وهلة توقيع عقيدة عصمة البابا!!، وعندما أجبر أخيراً على التوقيع مع أساقفته السبعة، أضاف عبارة {مع الحفاظ على الحقوق البطريركية الشرقية} وقد قال في مذكّرته التي قدمها للمجمع:(أناشدكم بالله أيها الآباء الكليّو الاحترام، بأي نوع نستطيع نحن أن نشهر ونضع بالعمل هكذا مرسوم، منصوص على هذه الصفة؟ بأيّ كلام نستطيع أن نجادل المنشقين (أي الأرثوذكس) ونتعاطى مع الكاثوليك؟ فكيف يمكن للكاثوليك أن يثبتوا في هذا الإيمان، وللمنشقين أن يرجعوا للاتحاد، إذ يشاهدون في هذا انهدام حصن استقلالهم، وخسران كراسيهم البطريركية من الشرف والحقوق؟

 

أليس بالحقيقة أن كل هؤلاء ينعتوننا بمحتقري القدميّة المقدسة، ويشجبوننا بمخالفين المجامع المقدسة والقوانين الرسولية؟  وأقول نعم بالحقيقة أيها الشيخ الجليل، فما هذه العقيدة التي تصرّ عليها روما حتى الآن إلا مخالفةً للمجامع المسكونية المقدسة، ولقوانين الرسل الأمجاد، واحتقارا للقدمية المقدسة. ولكي لا أنعت أنا أو ينعت ذلك البطريرك المسكين بعدم فهم حقيقة هذه العقيدة العجيبة!!  {عصمة البابا} إليكم كيف تفهم روما هذه العقيدة! فعندما تقدم في ختام  المجمع هذا البطريرك الجليل الوقار والكليّ الاحترام لكي يودّع  البابا بيوس التاسع، وكان البابا محاطاً بحرسه البابوي، أرغمه هؤلاء على أن ينحني إلى الأرض. فوضع البابا حذاءه على رأس هذا الشيخ الجليل المريض القادم من الشرق وقال له بالإيطالية  testa dura  testa dura   ما معناه: رأس يابس! رأس يابس!.. أيها الرب الإله!! وإذا قال قائل أن هذا الفهم لعقيدة العصمة البابوية هو فهم قاصر، ويعود إلى عام 1870  الأمور لم تعد هكذا في عصرنا نحيله إلى صكوك البراءات البابوية التي تصدر العشرات منها كل عام، وتذيّل بنص هو بعيد وغريب عن روح الإنجيل وروح الكنيسة وهو: (بعونه تعالى، الذي لسنا نحن، خليفة الرسول بطرس، سوى الناطق بلسان إرادته) أيها الرب الإله!! كيف ينطق خليفة الرسول بطرس بلسان الإرادة الإلهية، ضارباً بعرض الحائط كل عقيدتنا المسيحية والتي نرى فيها ومن خلال الإنجيل بأن الرسول العظيم بطرس نفسه لم يكن معصوماً في أمور العقيدة ولم يكن ينطق بلسان الإرادة الإلهية، ليس فقط قبل العنصرة وحلول الروح القدس على الرسل، بل بعد حادثة العنصرة بأكثر من عشرين سنة، كما نرى في نص الرسالة إلى أهل غلاطية التي تقول بأن الرسول بطرس لم يكن معصوماً في أمور العقيدة، بل (كان يستحق اللوم) و (لم يكن يسير سيرةً قويمةً كما تقتضي حقيقة الإنجيل) (غلاطية 2 : 11 ـ 14) ثم عاد إلى الحقيقة والتعليم المستقيم بعد أن جابهه الرسول العظيم بولس. فإذا كان هذا شأن الرسول بطرس، فكيف يكون شأن خليفته؟ وإذا كان أسقف روما خليفة الرسول بطرس، فمن يكون أسقف أنطاكية؟ أليس خليفة الرسولين بطرس وبولس معاً؟ ولنرَ كيف تتعامل روما مع إخوتنا الروم الكاثوليك المتحدين معها، ولنستمع إلى أنينهم المكتوم الذي يزفره أحد أساقفتهم وهو سيادة المطران يوسف ريّا أسقف كندا للروم الكاثوليك، في مقال له نشر في مجلة المسرّة، العدد 855 الصادر في شباط سنة 2000 يقول سيادته: (لقد صدقنا الوعود التي كرروها مراراً، بأن روما لن تفعل شيئاً لتغيير ذهنيتا وقوانيننا، وإنقاص حقوقنا أو مكانتنا في الكنيسة الجامعة.. ولكن على مر الزمن، ومع تطور الأحداث تبين لنا أننا أرغمنا على تغيير محيطنا الطبيعي، لنصير أكثر فأكثر لاتينيين وغربيين. وبسبب هذه الحالة الغامضة امتلك أخوتنا الأرثوذكس الشعور بأن روما والغرب استعملا طرقاً ميكيافيلية للإمساك بنا وحجز حريتنا. فعلى مدى القرن التاسع عشر، جاء معظم المرسلين الغربيين إلى الشرق، إلى مناطق ولاية كنيستنا من دون استئذان أساقفتنا المحليين..) ويتابع سيادته: (لم ينفك الباباوات يرددون أن الكنيسة الرومانية، ستحترم على الدوام كل الحقوق القديمة للكنائس الشرقية. وعندما أصدرت روما حديثاً مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، وبالرغم من كل الوعود السابقة التي تكررت حتى اللحظة الأخيرة قبل إعلان هذه القوانين، فإن بطريرك أنطاكية، الذي هو الخليفة الشرعي لبطرس الرسول على كرسي أنطاكية، قد نزعت منه معظم حقوقه وامتيازاته ودوره في الكنيسة، ولم يترك له إلا  لقبه، والقليل القليل مما كان يتمتع به من مكانة في كنيسته، واعترض أساقفة الروم الكاثوليك، ولكن بغير جدوى. وما دامت ذهنية سيادة الكنيسة الغربية على الكنيسة الشرقية مسيطرة في الدوائر اللاتينية فلا أمل أن تحظى تقاليدنا بالاحترام الواجب. لنتذكر هنا خطاب صاحب الغبطة  البطريرك غريغوريوس الثالث في لقاء الشبيبة الذي ألقاه أمام شاشات التلفزيون العالمية في يوم 7/5/2001 عند استقبال البابا يوحنا بولس الثاني في سوريا، في كاتدرائية الروم الملكيين الكاثوليك في دمشق، حيث أعلن غبطته قائلاً: (أعد أمام الله في هذه اللحظة التاريخية وأقول: نحن الروم الكاثوليك نقول لاخوتنا الأرثوذكس، نريد أن نعيّد الفصح معاً وإلى الأبد!) وأعلن بعد هذا الخطاب المفرح أن كنيسة الروم الكاثوليك في دمشق (وهي تابعة لإدارة غبطته!!) سوف تحتفل بعيد الفصح عام  2002 مع الأرثوذكس وإلى الأبد.. وعندها علت هتافات التأييد من آلاف المؤمنين المحتشدين داخل وخارج الكاتدرائية وأمام شاشات التلفزيون.. وكم شعرت أنا شخصياً بفرحةٍ عامرة، أخمدها التعليق الذي لم أفهمه في ذلك الوقت، والذي علّقه إمام الأحبار غبطة أبينا البطريرك أغناطيوس الرابع متوجهاً إلى أخيه البطريرك الكاثوليكي قائلاً: (لقد تسرعتم في الهرولة، وتأخرتم في العودة.) ولكن فيما بعد فهمت عمق بصيرة غبطة البطريرك أغناطيوس، عندما لم تسمح روما للروم الكاثوليك في دمشق أن ينفذوا قرار بطريركهم!! ولم يستطع غبطته أن يبرّ بوعده الذي قطعه أمام الله والعالم أجمع.. وأدركت أن إخوتنا الروم الكاثوليك قد تسرّعوا فعلاً في الهرولة نحو روما، وأنهم تأخروا في العودة! بعد أن فقدوا حريتهم، ومكانة بطريركهم، وحقوق كنيستهم التي يقول عنها صاحب السيادة المطران الكاثوليكي يوسف ريّا في نفس المقال المذكور سابقاً :(ثمة في الكنيسة الجامعة الرسولية حقوق وامتيازات، لا يحق لأية إرادة بشرية أو لأية ثقافة قومية أن تدوسها بأرجلها!! ثم كيف نستطيع أن نطلب من اخوتنا الأرثوذكس أن يزيلوا الحواجز عن طريق الوحدة مع روما، في الوقت الذي نرى فيه اخوتنا الكاثوليك الغربيين يقيمون حواجز جديدة على طريقنا نحن! لقد أعلن يوماً السعيد الذكر البطريرك الكاثوليكي مكسيموس الرابع للسيد جورجيو لابيرا ـ الذي كان مختار فلورنسة ـ ومن خلاله لكل الصحافة الإيطالية: (ما بحاجةٍ إليه في هذه الأيام، هو أن نهدي الغرب اللاتيني إلى الكثلكة، عليه أن يرتد إلى مفهوم رسالة المسيح. من الضروري أن نقنع الغرب ونحمله على التخلي عن الرغبة في إدارة كل شيء، ومراقبة كل شيء، وإخضاع كل شيء لذهنيته وفكره وعمله) وأقول لا فضّ فوك يا سيدي البطريرك، فعلى الغرب أن يعرف أن السيد له المجد، لا يغذّي خرافه في ظل ثقافة أمّةٍ واحدة، مهما عظم شأنها واتسع نفوذها. ولكن الكبرياء يا سيدي البطريرك، تتدخل في كل شيء، حتى في الدفاع عن الله، وهي تنوء بثقلها علينا من جيل إلى جيل. وتجعل أصحابها وحتى في أحسن النوايا، يعارضون الحقائق الأصيلة ويناقضونها، وفيما بعد يتصلبون في موقفهم، مساوين بين نظرتهم الخاصة بشأنها  بين حقيقة الله والإنجيل. رغم كل ذلك، وكل غير ذلك، لا أريد أن أصحو من هذا الحلم الخالد، حلم الوحدة المسيحية.

===================

الدكتور بندلي زيادة ـ حمص، سوريا  pndelaim@scs-net.org

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط