مالك مسلماني / Jun 06, 2005

في منتصف شهر حزيران (يونيو) كشفت مصادر دولية لصحيفة «الحياة» (14/06/2005) أن الحكومة السورية وقعت اتفاقاً مع «البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة» يهدف إلى تحويل دور «رجال الدين والمؤسسات الدينية إلى اتجاه تنموي يحد من التعصب، بالاعتماد على وسائل إعلام حديثة والمناهج المدرسية وتوفير كتب ومنشورات وعقد ندوات». ويبدو ـ حسب الصحيفة ـ إن البرنامج ليس ناضجاً بعد، إذ أضافت قائلةً إن مسودة البرنامج تخضع لمراجعة من جانب خبراء الأمم المتحدة. ورغم أنه تمّ نفي الخبر في مواقع إخبارية سورية على الإنترنت، إلاّ أنه يبدو أن خبر «الحياة» يحوز على مصداقية، ذلك أن مصادر شبه رسمية سوغت لموقع «islam-online.net» أن الاتفاق يعبر عن قلق النظام «من أجواء التزمت والانغلاق، وتوسع الحركة السلفية ـ الجهادية في أنحاء سوريا؛ حيث شاع الانحراف والتعصب الديني والتكفير في المجتمع السوري». (15/06/2005).

 

إن المشروع الذي يريد «البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة» القيام به يدلّ بالمقام الأول على قصور الرؤية لدى الجانب الأممي، كما لدى جانب السلطة السورية؛ ذلك أن التعويل على المؤسسة الدينية الإسلامية لمواجهة التعصب، يكشف سذاجة الجانبيْن: إذْ إنه، ومهما كانت المؤسسة الدينية الإسلامية منفتحة، فإنها تبقى حاضنة الفكر المتطرف الذي سرعان ما يتحول إلى حركات "عنفية ـ جهادية" نتيجة لطبيعة هذا الفكر نفسه، ونتيجةً للظروف الاجتماعية. فعندما يجري الحديث عن التعصب أو التطرف الديني، أو الإرهاب الإسلامي. فإننا يجب أن نقر بجملة أسباب له:

 

الأولى: إن البنية الفكرية للإسلام هي بنية منغلقة وتدعي الرؤية الإسلامية ـ بناءً على نصوصها المقدسة ـ حيازة الحقيقة المطلقة، كما أنها تتبنى العنف كوسيلة لتحقيق الهدف الإسلامي العام. وبالتالي فعندما نجد فكراً إسلامياً «معتدلاً» فنحن نجد في أساس هذا الفكر «المعتدل» نظاماً تكفيرياً، وتشف لغته «المعتدلة» عن أن ثمة نظرةً ثنائية للعالم: الإيمان/ الكفر؛ حزب اللّه/ حزب الشيطان؛..، وهنا نجد أن توسل المؤسسة الدينية لمحاربة التعصب، كتوسل الوقود لإطفاء الحرائق. إن المعالجة الفعلية للتعصب الإسلامي تقتضي إحداث ثورة داخلية في الإسلام، وهذه قضية ليست ممكنة نظراً لطبيعة الإسلام نفسه، ونظراً للمستوى الحضاري الذي يعيشه العرب والمسلمون. وهذا ما يحيلنا إلى السبب الثاني للتعصب.

 

الثاني: وهو السبب الثقافي. إن الفكر العقلاني (وهو فكر ينطلق من خارج المؤسسة الدينية) هو الأساس الفعلي الذي يمكنه تنوير الوعي الاجتماعي العام، إذ أن الرؤية المتنورة للعالم تنطلق من الفلسفة، كأساس نظري للتنوير؛ ومن العلم والتجربة كممارسة عملية للعقل الحر. فالعقل الحر نقيض للفكر الديني، أو على الأقل هو بعيد عن الفكر الديني، لأن العلم لا يقر بحقائق سرمدية. وإذ وجدنا إن الحالة الثقافية في العالم العربي ما زالت دون المستوى الذي وصلت إليه أوربا القرن السابع عشر، والتي مهدت للنهوض الرأسمالي في الغرب، فإننا لنرى بكل وضوح أن هناك أربعة قرون ـ على الأقل ـ تفصلنا اليوم عن الغرب. إذن، من هو الحامل الثقافي لتنوير المجتمع؟ وحتى لو افترضنا بأن ثمة حاملاً ثقافياً ما، فمن المؤكد أنه ليس رجال الدين الذين يعيشون في إطر حددتها كتبهم والتي تدور ضمن دائرة مغلقة، وليست الكتب اللاحقة منها إلاّ اجتراراً وتكراراً للأولى منها.

 

السبب الثالث: إن قمع الحريات في سوريا، من جهة، والمعاناة الاقتصادية الكبيرة التي يختبرها السوريون (المصادر الرسمية تعترف بأن 11 بالمئة من السوريين يرزحون تحت خط الفقر)، هو ما يكّون مستنبتات شديدة الخصوبة للتعصب وتفشي الكراهية، والتطرف. وبالتالي تتحمل السلطة هنا مسئولية كبيرة في مقاومة التطرف. ولا يقتصر الأمر على القمع السياسي، والإجحاف الاقتصادي، بل يتعداه إلى أن السلطة ورغم وجهها العلماني كون «البعث» هو الحزب الحاكم، لم تخفق بعلمنة المجتمع فحسب، بل إنها وفرت دعماً هائلاً للتعصب. فهذه السلطة، ـ واعتقاداً منها بأنها تسرق الساحة الدينية من «حركة الإخوان» ـ قامت بتوسيع الهيئات الدينية (بدلاً من المراكز الثقافية، والمكتبات العامة، وتوفير الكتاب بسعر زهيد، وتحرير المجتمع من الخرافة). هذه السياسة برأينا هي سياسة غبية محفوفة بمخاطر تفجير الفتنة، والتي ما زالت مستمرةً إلى اليوم. والأرقام التالية لعدد المراكز الدينية في سوريا، تدل على المداهنة التي قامت بها السلطة:

·        8000  مسجد.

·        120  معهد لتحفيظ القرآن. (حسب islam-online.net : 125 معهد).

·        600  معهد لتحفيظ القرآن بشكل مستقل أو ملحقة بمساجد.

·        22  معهد لتدريس علوم الدين ودراسات عليا في الشريعة الإسلامية. (حسب islam-online.net : 25 معهد).

·        80  مدرسة تنتشر في دمشق، منها: 40 مدرسة لمنيرة القبيسي.

·        290  جمعية خيرية إسلامية من أصل 584 جمعية.

(الحياة 14 و 18 حزيران 2005)

 

إن الأرقام أعلاه لهي أرقام تثير أعلى درجات القلق على مستقبل سوريا، نظراً لقوة المركز الديني (مساجد.. معاهد..) لأن هذه المراكز تلقن يومياً السوريين العقيدة بصيغتها الأولى، والصيغة الأولى تحمل مفاهيم (الجهاد، الكفار، أهل الكتاب، الجنة، النار..). وهي تدل على الحجم الكبير لفشل النظام في علمنة المجتمع خصوصاً عندما نقابلها بالأرقام الخاصة بالمكتبات العامة.. عدد الكتب المباعة في سوريا.. أو عدد المنتديات السياسية التي لا تدور في فلك الدين (طبعاً صفر بصدد المنتديات).

 

يبقى أخيراً أن نسجل لهذا الاتفاق الأولي «مأثرة كبرى» (!) هو أنه بحد ذاته يعزز المؤسسة الدينية في سوريا، أكثر فأكثر، ذلك أن هؤلاء «الخبراء» قد لاحظوا وحسب الحياة (14/06): «ضرورة القيام بأمرين لتحسين أداء رجال الدين في عملية التطوير والتنمية الاجتماعية: الأوّل، تطوير برامج المؤسسة الدينية. الثاني، تحسين أساليب وسائل الاتصال المعاصرة والتقليدية بين رجال الدين وجماهير المجتمع». أي وكأن هذا البرنامج لم يجد أن آلاف المساجد، ومئات المعاهد كافية لتحقيق التواصل بين رجال الدين والمجتمع، بل يسعى أيضاً إلى: «تحسين أساليب وسائل الاتصال المعاصرة والتقليدية بين رجال الدين وجماهير المجتمع».

فهل نسأل بعد عن سبب «توسع الحركة السلفية الجهادية في أنحاء سوريا؛ حيث شاع الانحراف والتعصب الديني والتكفير في المجتمع السوري»؟

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط