هشام محمد / Sep 28, 2007

في إحدى نهارات رمضان، وبينما كنت عاكفاً على أداء بعض الأعمال الروتينية، جاءني أحد الأصدقاء وزملاء العمل، وقد ارتسمت على محياه ابتسامة خبيثة لم أفهم مغزاها إلا فيما بعد. قال لي بعد أن ألقى ببعض الأوراق على مكتبي وبصوت لا يكاد يسمع: هل رأيت فلاناً وهو يتناول بكل وقاحة شطيرته ضارباً بعرض الحائط أننا في نهار رمضان؟

قلت: وماذا في ذلك؟... ربما كان مرخصاً له شرعاً لدواعي مرض أو ما شابه ذلك... ثم، هل تتوقع أن يجاهر أي إنسان رشيد بالأكل أو الشرب في مجتمع كمجتمعنا يتحين أي زلة ليوقع بفاعلها أشد العقاب؟

قال بكثير من التأفف: يا أخي!.. لا تبدو عليه أي علامات مرض، بل أني أجزم أن صحته أحسن مني ومنك.  وحتى لو كان مريضاً، فمن الأولى ألا يجاهر بالأكل أمامنا، ففي هذا استفزاز لمشاعرنا نحن الصائمين.

قلت فيما يدي تعبث "بالماوس" وعيناي ملتصقتان بشاشة "المونيتور": لا تهول الأمر!  أي استفزاز يا صديقي لمشاعركم الهشة؟ ثم، لماذا لا تستفز مشاعرك عندما يتخلف هذا الرجل عن الصلاة التي هي عمود الدين والركن الأول من أركان الإسلام والمقدمة على الصوم؟  أم ترى أن صوت الجوع أقوى من أي شيء؟ 

لم يغالب صاحبي ضحكته وهو يقول: ما الذي يمكن لي أن أتخيل سماعه من "محامي الشيطان" سوى اجتراح الحلول والمبررات للخارجين عن الإسلام! أنت مفتي من نوع آخر... مفتي العصاة والمارقين من الإسلام

قلت: لماذا تعتبر إفطار شخص واحد تحدي صارخ لمشاعركم، فيما انتم تفرضون على غير المسلمين وبقوة القانون والدين والعرف أن يموتوا جوعاً وعطشاً حتى لا تخدش مشاعركم القابلة للكسر؟  ماذا لو كنت في بلاد أجنبية تفرض عليك الامتثال لطقوس لا تؤمن بها؟  أم ترى أنتم تحللون لأنفسكم كل شيء وتحرمون على غيركم كل شيء؟

ضرب صاحبي بيديه على المكتب، ثم نهض وقال بعد تنهيدة طويلة: لا فائدة من الكلام مع أمثالك فقد نسيت أني أتحدث إلى متطرف من نوع آخر.  قالها بشيء من التودد والرفق، فنحن كلانا نلتقي عند أمور الدنيا ونفترق عند أمور الدين.

 

رفض صديقي قيام المسلم أو غير المسلم بالأكل أو الشرب نهار رمضان يشف عن خصلتين رديئتين تطبع – وللأسف – سلوك وفكر كل مسلم: أولهما تجاهل حقوق الغير، وثانيهما انتفاء البعد الروحاني في عباداته الدينية. 

عملياً، لا يقيم المسلم، المنتفخ بنرجسيته الدينية والمنتشي بحظوته الإلهية، وزناً لحقوق الغير وحرياتهم.  لقد أعزهم الله بالإسلام، وجعل فيهم خير الأديان وأعظمها، وجعل منهم خاتم النبيين والمرسلين، وأذل الكفار بكفرهم، وأخزاهم بصنعهم.  في بلاد الإسلام، يدوس المسلم بقدمه على حريات الآخر متذرعاً بخصوصية المكان ومشاعر الأكثرية.  يصادرون المسيح وبوذا وبراهما حتى لا " ينجسوا" البقاع المقدسة وتنكسر مشاعر الأكثرية "المرهفة".  أما في بلاد الغرب، فيمتطي المسلم صهوة حقوق الإنسان ويتملق علمانية المجتمعات ليمارس طقوسه الدينية بلا خوف ولا وجل.  يلعن المسلم ازدواجية معايير السياسة الأمريكية ونفاق المنظمات الدولية، ولا يعي هذا المسكين أنه من يمارس الازدواجية بكل امتياز وفي كل مسارات حياته اليومية. 

انظر كيف كاد المسلمون أن يشعلوا في كل الدنيا حرائق لا تنطفئ بعدما عبث كاريكاتير في جريدة محدودة الانتشار وفي بلاد نائية بذات النبي محمد المطهرة.  ملأوا الأرض صراخاً ولعناً وعويلاً.  طالبوا الدنماركيين بتقبيل أيديهم وأرجلهم حتى يتوبوا عليهم ويصفحوا عن جريمتهم الكبرى.  لا أظنهم غضبوا حقاً من رسم كاريكاتيري، بل وجدوا فيه ضالتهم المفقودة للتعبير عن ما تكنه صدورهم ن كره للغرب الكافر، ودليلاً ناصعاً على كراهية وحقد وتآمر الغرب على الإسلام وأهله.  هل سمع أحدكم بصوت مبحوح ومرتعش يتساءل بخوف وحيرة: من هم الأحق بالاعتذار: نحن أم هم؟  ألسنا نحن من نستمطر لعنات السماء عليهم منذ بواكير الإسلام الأولى؟  ألسنا نحن من نحقرهم ونستهزئ بهم ونصفهم بالقردة والخنازير والحمير؟  هكذا هو حال "ابن الإله المدلل" يريد أن يملك كل شيء، وأن يسير على أجساد البقية، والويل كل الويل لم صرخ من الألم وقال: آه.

 

أما الخصلة الأخرى، فهي خواء العبادات الدينية من بعدها الروحاني.  إن الصوم الذي يتأذى ويئن لرؤية شربة ماء أو قهوة ساخنة أو شطيرة لحم يشي بأن الصوم لم يحلق بعد فوق حاجة الجسد،  تماماً كما تخور دفاعات المؤمن أمام صورة فاتنة عارية.  الصائم الذي يجبر غيره على احترام مشاعره لم يتخلص بعد من صراعاته المادية مع الجسد ليدلف من بوابة الروح في صعوده مدارج السماء.  كـأني بهذا الصائم – الذي يقال أنه يصوم ليخبر طعم الجوع المر مع الفقير المحتاج –  يعاقب غيره من غير المسلمين بالحرمان من الأكل والشرب حتى يشاركونه هو بالذات لدغات الجوع.

لكي تتأكد أن الصوم لدى المسلم هو جسد قبل أن يكون روح، فعليك أن تستمع وتقرأ وتشاهد برامج الإفتاء طيلة شهر رمضان.  لا تبرح الأسئلة عاماً بعد عام الجماع والاستمناء والدورة الدموية والغرغرة وبلع الريق، وكلها من وإلى الجسد.  ولو لم يكن الصوم عذاباً ماديّاً للمسلم، لَما أصدر قبيل رمضان خطابات التحذير والتهديد لغير المسلمين.  الأكل والشراب هما من يستفزان إيمان المسلم أما ترك الصلاة فلا تستفزه بشيء لإنها شيء معنوي، لا تمس حاجاته المادية.                 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط