هشام محمد / May 12, 2006

ـ 1 ـ

يستغرب الكاتب اللبناني كرم الحلو في مقالة بعنوان "البعد المغيب في القراءات الثقافوية للتخلف العربي" خص بها جريدة الحياة بتاريخ (5 مايو، 2006) وقوع عدد من كبار المثقفين العرب في شراك الرؤية العنصرية للفكر الاستشراقي والتي تختزل الثقافة العربية كما لو كانت صنواً للجمود، وحضناً طبيعياً لإنتاج الاستبداد وتكريسه.  ففي دراسة سيكولوجية قدمها أندريه سرفيه ـ حسب ما جاء في المقالة ـ ذهب الباحث إلى أن العرب عاجزون عن امتلاك ثقافة مستقلة، وأن العرب عندما تأتّى لهم الحصول على المنتجات الفكرية للشعوب الأخرى فإنهم قد أفسدوها لافتقاد العقل العربي القدرة على الرؤية البانورامية الشاملة.

 هذه الرؤية رغم ما تنطوي عليه من تعاطي فوقي وموقف انحيازي ـ كما يرى الأستاذ كرم ـ تسربت بعمق إلى الكتابات العربية، وتحديداً إلى أولئك المثقفين ممن يمارسون نوعاً من جلد الذات.  فمن أمثلة ذلك، ما قاله الدكتور سعد الدين إبراهيم "هناك شيئاً في الثقافة العربية، إما أنه يعادي الديموقراطية صراحة أو لا يعطيها أهمية مركزية في منظومة القيم والمعايير السائدة في مجتمعاتنا".  وفي السياق نفسه، كتب خلدون النقيب في كتابه الموسوم ب "فقه التخلف" (دار الساقي، 2003) ما يلي "الذل والإذلال سمة عامة في الثقافة العربية، وإعلان العبودية أمر مقبول في تراثنا".

لم يطرح الأستاذ كرم في الجزء المتبقي من مقالته ما يشفع لدحض وتفنيد تلك التوصيفات، والتي تبدو أنها نتاج رصد دقيق ومتأنٍّ للمشهد الثقافي العربي، ليس عبر عقود قصيرة من الزمن، بل عبر مئات من السنين وإلى ما قبل الإسلام.  يتأسس احتجاج الأستاذ كرم على تلك التوصيفات بناءً على محورين أساسيين:

إن وصم الثقافة العربية بأنها رهن للتخلف والعجز عن مواكبة التطور، ومنبت لصنوف الاستبداد والقمع يتجاهل قانوناً أزلياً يحكم تطور الأمم والمجتمعات، ألا وهو قابليتها للتحول والتغيير.  الثقافة بمكوناتها من آداب وفنون وعادات وتقاليد ومعتقدات ليست عصية على التغيير أبداً.  التغيير قد ينبع من الداخل، وقد يسفر نتيجة التفاعل والتماس مع ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتها.  اليوم وفي ظل زمن العولمة، سيصبح الحديث عن ثقافة جامدة غير قابلة للاختراق أمراً غير مقبول بعد أن تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة.

إن البرهنة على الوجه المتحول للثقافة العربية سيطيح بآراء أنصار القراءة الثقافوية للتخلف العربي التي ساهمت في سد أبواب المستقبل والأمل، وفي تعزيز اليأس من الواقع العربي، وإمكانية التحاقه بقطار الحداثة السياسية والاجتماعية والفكرية.  إن إثبات أن الثقافة العربية قابلة كغيرها على التفاعل الإيجابي سيمهد السبيل للتخلص من ربقة التخلف والعبودية والتواصل الحي مع ثقافات الشعوب الأخرى.  

 

ـ 2 ـ

من وجهة نظر شخصية، فقد أصاب الأستاذ كرم شطراً من الحقيقة عندما نظر إلى الثقافة كنظام مفتوح، قادر إما على التوليد الذاتي لمنظوماته القيمية والمعرفية أو على اكتسابها نتيجة الاحتكاك والتفاعل مع نظم ثقافية خارجية.  ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن مدى صمود هذه الفرضية أمام وجود تكوينات بشرية متناثرة في استراليا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مازالت حتى هذه اللحظة منكفئة على نفسها ومنقطعة عن التواصل مع العالم الخارجي؟

 ولننظر إلى الجماعات البدوية التي تعيش على حواف المدن أو في أعماق الصحارى.  لطالما تساءلت عن تلاشي الفوارق النوعية بين بدوي اليوم وبدوي الأمس على مستوى السكن والطعام والعادات والسلوكيات وطرق الإنتاج.  الكثير من البدو الذين نزحوا إلى المدن ـ كما هو الحال في السعودية ـ حملوا خيامهم وعاداتهم وسلوكياتهم إلى الداخل.  لقد صار من المألوف أن تقف على قصر واسع بابه يحمل ملامح تراثية تتنافر بشكل واضح مع البناء العام، وعندما تدلف للداخل تستقبلك خيمة مكيفة تنتصب في فناء القصر.  لا اعتراض لدي على التعلق ببقايا الماضي، لكن القضية تبدو لي وكأنها نوع من الشد والجذب بين الأمس واليوم.  وهذا ما يعكس بشكل أو بآخر نوعاً من التشظي، أو الوقوف الحائر في منتصف الطريق بين مفاهيم الحداثة والتحديث.

 

عندما تسير بمركبتك مثلاً داخل كبريات المدن السعودية ستبهرك الأبراج الزجاجية، والعلامات التجارية العالمية، ومستويات الرفاهية الاقتصادية، ولكن هل سرعة نمو غابات الإسمنت تسير بالتوازن مع بناء الإنسان السعودي أو العربي وتأهيله بما يكفي للدخول إلى الألفية الثالثة؟  الإنسان هنا لا يجد غضاضة من الانتفاع بمنتجات الغرب من سلع معمرة واستهلاكية من طعام وأزياء ومواد ترفيهية وتعليمية، ولكنه سرعان ما يستدعي مخزونه التراثي وأوهام الخصوصية وثراءه التاريخي عندما يتصل الأمر باستعارة القيم الفكرية والفلسفية الغربية والتي ساهمت في بناء حضارة الغرب ومده بوسائل التفوق.  لكم أهدر العرب منذ القرن التاسع عشر أطناناً من الورق والحبر في مبارزات كلامية حول الديموقراطية والشورى، الحداثة والأصالة، حقوق المرأة، حقوق الأقليات، الدولة المدنية والدولة الدينية، وحقوق الإنسان والشريعة الإسلامية.  ولا أعرف كم سيحتاجون من قرون أخرى لحسم تلك القضايا المعلقة والمعطلة.  أعرف أناساً بسطاء ومتعلمين يتذمرون بسبب أن صوتهم لا يسمع، ورأيهم لا يثمن.  فإذا قلت له أن الديموقراطية ستوفر لك ما تريد، لوى وجهه، وقال: لدينا الشورى في الإسلام ولسنا بحاجة لديموقراطية الغرب.  المشكلة لا تنحصر في النخب السياسية والسلطات القمعية بل تشمل حتى باقي شرائح المجتمع وأطيافه.  وكما قال الدكتور سعد الدين إبراهيم فإن هناك شيئاً ما داخل البنية الفكرية للمجتمعات العربية يرفض الديموقراطية.  والرفض هنا لا يقف عند الديموقراطية بل ينزاح إلى نتاجات العقل الغربي الفلسفية والفكرية وتحت مسميات ومبررات واهية كمحاربة الغزو الفكري أو الاحتماء بالخصوصية.

 

ـ 3 ـ

وصف الدكتور أحمد عكاشة الشخصية العربية بالكلمات التالية: "يتميز قطاع كبير من المصريين والعرب بسمات الشخصية الاعتمادية، والسلبية العدوانية، والاستهوائية.  وتتميز الشخصية الاعتمادية (الاتكالية) باعتماد شامل على الآخرين، أو السماح لهم بتولي مسئولية جوانب مهمة في حياة الشخص، وتسخير الاحتياجات الذاتية للآخرين الذين يعتمد عليهم الشخص، ورضوخ غير مبرر لرغباتهم وعدم الاستعداد لمطالبة هؤلاء الآخرين الذين يعتمد عليهم الشخص بأي مطالب حتى ولو منطقية".  وكم كان الفيلسوف اليوناني أرسطو مصيباً عندما بعث برسالة إلى القائد المقدوني الأسكندر الأكبر ينصحه فيها بمعاملة اليونانيين كقادة أنداد، وأن يتعامل مع الشرقيين معاملة السيد للعبيد.  أضاف أرسطو في رسالته أن الرجل الشرقي يجد الخضوع لمن هو أقوى منه أمراً مقبولاً، فهو في بيته يتصرف كطاغية مع زوجته وأبنائه، ولهذا لن يتمرد على حاكمه لو عامله بالمثل. 

يخطئ من يظن أن الاستبداد نتاج طارئ أفرزه صعود النظم العسكرية المتسلطة إلى سدة الحكم.  إن جذور الاستبداد تمتد إلى أعماق الإنسان العربي لدرجة أن الاستبداد صار مأثرة اجتماعية يقاس بها منزلة الفرد أو القبيلة وسط الآخرين، وهذا ما حدا بالخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك بأن يختال شعراً لما أتاه مقتل أحد معارضي الدولة السياسيين:

          فنحن المالكون للنـاس قسراً               نسومهم المذلة والنكالا

          ونوردهم حياض الخسف ذلاً               وما نألوهـم إلا خبالاً   

في ظل نظم الاستبداد، يتحول أفراد الشعب إلى قطعان من الأغنام، يسمون تهذباً بالرعية. في ظل هذه النظم يغدو التفكير محرماً، والتطلع للحريات مفسدة.  عندما تعتقل الأفكار، وتصادر الحريات، ويخشى التفاعل والتداخل مع الغير، تتحول تلك المجتمعات إلى مستنقعات راكدة يلفها ضباب التخلف والسكون.  وحتى يحكم المستبد حلقات القمع فهو يلجأ إلى طبقة من رجال الدين لتخدير الناس، وصرفهم عن التفكير، مرة بالترغيب في جزرة الجنة، ومرة بالتلويح بعصا النار.  لقد كان معاوية بن أبي سفيان عالماً ببواطن الناس، عندما أوحى إلى طبقة المنتفعين من رجال الدين كي يبثوا بين الخلق أن القبول بخلافة بني أمية يعادل الرضا بالقدر وتقبله، والتمرد والانتفاض على خلافتهم يعادل السخط من قدر الله وعصيانه. 

من يقلب في صفحات تاريخ الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية في الإسلام سيلمس توق تلك الجماهير إلى إحلال قيم العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتوسيع دوائر المشاركة.  في المقابل، كانت الحكومات المركزية المستبدة تتبع سياسة الحديد والنار لإخماد تلك الثورات، ومن ورائها كان رجال الدين والمؤرخون لا يكفون بإيحاء من السلطات السياسية عن تشويه مبادئ تلك الحركات ورميها بأقذع التهم والأكاذيب لتأليب العامة عليها والتنفير منها.  قليلون اليوم الذين يعرفون عن كثب تلك المبادئ الإنسانية الراقية لحركات القرامطة والبابكية المثقلة بأهداف عظيمة كالمساواة العامة، والتوزيع  المشاعي للأراضي التي سلبتها الطبقة الأرستقراطية على مجموعات الفلاحين، وحرية المعتقدات الدينية، وتحرير المرأة من قيود العبودية ومنحها ما للرجل من حقوق وواجبات.  تاريخياً، وقفت السلطة السياسية والدينية في وجه التغيير.  هذا التواطؤ غير المعلن مازال قائماً حتى يومنا هذا، فالسياسي والديني رغم أنهما لا يكنان لبعضهما الود إلا أنهما سرعان ما يتحدان ضد ما قد يزعزع الاستقرار والركود. 

 

ـ 4 ـ

لا يحمل المستقبل ـ من وجهة نظر شخصية ـ تباشير تدعو لشيء من التفاؤل.  ولو افترضنا جدلاً زوال الأنظمة السياسية القائمة فإن يد التيارات الأصولية هي الأقرب لقطف ثمرة الحكم والاستبداد به دون الغير.  الدين، وهو احد المكونات الثقافية، وبنزعته التسليمية والغيبية سيظل يعمل كجهاز مناعة يحول دون التفاعل مع الأفكار والقيم الوافدة من الغير.  لقد كان ومازال رجال الدين هم الأكثر نشاطاً دون سواهم في محاربة الديموقراطية والعلمانية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان لتعارض تلك القيم مع قناعاتهم الدينية القرووسطية.  إذاً، كيف سيكون الحال فيما لو أمسكت تلك التيارات الدينية بزمام الحكم؟  أي نوع من الاندماج سيكون مع المجتمع الدولي، وأي تفاعل إيجابي مع ثقافات الشعوب الأخرى، وهي التي تريد العودة بعقارب الزمن إلى الصفر، إلى بدايات العهد النبوي والخلافة الراشدة؟         

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط