مالك مسلماني / Oct 09, 2005

تكشف أعمال التخريب التي تجري في فرنسا جملة حقائق تتعلق بالشعوب العربية والإسلامية؛ ذلك أن التفسيرات الأولى لما يجري تركزت على البعد الاجتماعي، وبالتحديد الجانب الاقتصادي، أي قضايا البطالة ونقص فرص العمل لدى الجيل الثالث من المهاجرين، وغيرها من المسائل الاقتصادية. وقد أشار معلقون عرب في فضائيات عربية إلى هذه القضايا وقدموا تبريراً ضمنياً لهذه الجرائم التي اقترفها مهاجرون، مستندين في ذلك أيضاً إلى دعوى تقول بأن هذه الأحداث عاقبة فشل سياسة الدمج الفرنسية.

 

نحن إذْ لا نريد نفي البعد الاقتصادي في هذه الأزمة، بيد أننا لا نجد فيه مسوغاً يدفع إلى ارتكاب هذه الجرائم؛ لأن هذا التفسير صالحٌ على مستوى فرد أو مجموعة مؤلفة من أفراد معدودين، لكنه ليس تعليلاً علمياً لأعمال شغب تقوم بها مجموعات كبيرة وعلى نطاق جغرافي يمتد تقريباً على كامل الأراضي الفرنسية.

 

إنّ هذه الأعمال، تشير إلى أن المهاجرين بأجيالهم الثلاث هم من فشلوا في التكيف والاندماج؛ وبالتالي من الواضح أن ما أعاق فعلياً الاندماج في المجتمع الفرنسي ـ وتالياً والأوروبي ـ هو انعدام قابلية هؤلاء المهاجرين النفسية والثقافية للاندماج، وهذا يدلل على انغلاق أنساق هذه المجموعات السكانية اجتماعياً، وهو لا يعود لأوضاع اقتصادية بل لطرائق حياة أسرية محددة، وطبيعة النظرة الشاملة للعالم، كما للثقافة الجمعية للمهاجرين المسلمين.

 

قد يسعنا أن نفهم أن الجيل الأول والثاني من المهاجرين عجز عن الاندماج في المحيط الفرنسي، ذلك أن البيئات المتخلفة التي جاء منها المهاجرون جعلت صعباً عليهم التبيؤ مع محيط متطور وحضاري. أما أن يبقى هذا الفشل قائماً لدى الجيل الثالث منهم، فإنه لأمر يبين تحجّراً في البنية المعرفية والنفسية لدى المهاجرين، وهذا الانغلاق يفسر عجز هؤلاء عن التعبير عن ذواتهم بوسائل حضارية (مثل: الانتخابات البلدية والرئاسية، وغيرها من وسائل التعبير المتاحة في هذه المجتمعات الحرة)، وهي وسائل كفيلة بصيانة حرية الفرد وتوفير مستوى معقول من المعيشة، كما الضمان الاجتماعي.

 

وإذا ما كان الحديث يدور حول أزمات اجتماعية بين الأوساط المهاجرة، فهذا يعني أن المعاناة المفترضة تشمل جميع الجاليات المهاجرة (من جنوب آسيا، ومن شبه القارة الهندية، وأمريكا اللاتينية،..). فلماذا إذاً، اختيار العنف وسيلة للتعبير من قبل الجالية العربية، والجاليات الإفريقية؟

 

الجواب على ذلك نجده في القاسم المشترك لمرتكبي هذه الأعمال الهمجية، ألاّ وهو الإسلام. وهذا المشترك يشير إلى أبعاد غير اقتصادية، ويدحض كل مبرر يعتمد على تفسير اقتصادي فحسب. وربما أدرك معلق في التايمز البريطانية ذلك، فأشار أن الحظر على الحجاب رفع من حدة الاستياء والشعور بالإقصاء لدى هذه الجاليات.

 

ومن جانب أخر، تحدث بعض هؤلاء الشبان لصحفيين عن أنهم يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية وليس القانون الفرنسي. ووصف شاب مغربي ما يجري بأنه شبيه بما يجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ألاّ تؤكد هذه الاسقاطات والتفسيرات الشبابية وجود أبعاد أكثر من أبعاد اقتصادية؟ [هل سيأتي زمان، يطالب فيه المهاجرون برحيل الفرنسيين عن فرنسا وفق هذه القراءة الاسقاطية؟]. أليس هذا القول يجلي رأياً عاماً سائداً بين المهاجرين المسلمين.

 

إنّ عجز هؤلاء عن التأقلم مع المجتمعات الغربية، ورفضهم الوسائل السلمية في التعبير الاجتماعي يشير إلى رفض أوسع للقيم الحضارية بالعموم، والقوانين الأوروبية بالخصوص، وحتى بعد ثلاث أجيال من العيش. إضافةً لذلك، تظهر هذه الأعمال أن الجاليات المهاجرة ما زلت ترفض العيش ضمن شروط الحضارة الأوروبية. ولو أجرينا قراءة دقيقة لأقوال مشعلي النيران، فإننا سنجد فيها رؤية، تنظر إلى فعل التخريب من زاوية عقائدية ـ دينية، يضع الآخر في حالة حرب لا هدنة فيها؛ ولهذا من المشروع أن تشعر المجتمعات الغربية بالقلق من هذه الزلزال.

 

إن الخارطة البشرية في أوروبا ستتعرض لهزة خطيرة إن لم تدرك الحكومات الغربية الدرس جيداً، فالباعث الذي دفع فرداً مغربياً لاغتيال المخرج الهولندي تيو فان كوخ [Theo Van Gogh] هو ما يحرك اليوم شباب الجاليات الإسلامية للقيام بهذا التخريب في فرنسا. ولو أُجري استبيان بين أفراد الجاليات المسلمة في فرنسا ـ وغيرها من الدول الأوروبية ـ عن المرجعية الحقوقية، فإن الجواب، الذي لا تقية فيه، سيكون الإسلامَ، وسيقول أفراد هذه الجاليات بأنه هويتهم الثقافية وانتماؤهم السياسي. وسيعلنون رفضهم القاطع لأي قوانين أوروبية. ونستذكر هنا أن قاتل المخرج الهولندي أعلن للمحكمة بأنه لا يعترف بسلطة المحكمة الهولندية، بل بالشريعة الإسلامية فحسب.

 

إن المسلمين يعتبرون دينهم خطاً فاصلاً بينهم وبين الآخر الأوروبي.

إن العالم الغربي يواجه مشكلة كبيرة وخطيرة، وهي لا تنحصر في فرنسا فحسب، فقد امتدت الأعمال إلى الدنمارك التي جرت فيها أول أعمال التخريب خارج فرنسا. وليس ثمة أدنى شك في أن هذه الجاليات هي جيوب داخل عالم الغرب تريد الانفصال بشكل ما. ومحاولات بعض « المعتدلين » التبرؤ مما يجري، نتيجةً للإحراج السياسي، لا يجب أن تصرف الانتباه عن حقيقة أن الزعماء الروحيين للجاليات الإسلامية يشاركون بنصيب وافر من المسئولية، ذلك أن هذه الأعمال التخريبية تعود إلى نتاج ثقافي وأسري ـ تربوي، والذين يعلنون اليوم رفضهم الخجول لما يجري، عليهم أولاً أن يعيدوا النظر، وقبل كل شيء، بهذه النظرات التي حافظوا عليها عبر أجيالٍ ثلاثة. وبكل الأحوال أمام هذه المد المريع فإن الأطراف الإسلامية «المعتدلة» لن تنجح بالسيطرة على الوضع، ذلك أن حملات التحريض والكراهية التي قام «المعتدلون» بنشرها وعلى مدى عقود لا يمكن أن تُمحى بسويعات. وتعرض سيارة الزعيم الإسلامي دليل بو بكر (إمام مسجد باريس) للرشق بالحجارة عندما حاول تهدئة مثيري الشغب مثالاً عن عجز الاعتدال المزعوم في تحجيم ما خلقه عبر عقود. وعلينا أن ننظر أيضاً إلى نداء البعض للتهدئة على أنه يصدر عن دافع سياسي، فلقد نقلت وكالة رويتر (8/11) عن أن القرضاوي، دعا للتهدئة في فرنسا وطالب الزعماء المسلمين الدينيين والسياسيين تكثيف جهودهم وخطبهم للتهدئة. ولكن كيف نصدق القرضاوي الذي يتحدث بلغتين، لغة الاعتدال الشكلية، والخطاب المضمر المشحون بالكراهية والإرهاب. [هل يمكن أن نصدق بأن النظام السعودي، الذي أنتج القاعدة إيديولوجياً، ووفر لها كل الشروط المادية في العالم الإسلامي راغباً فعلاً في القضاء على الإيديولوجية القاعدية، وهو نفسه مشحون بفكر القاعدة؟ إذا أمكن ذلك، أمكن للجمعيات الإسلامية في أوروبا أن توقف هذا المد]

 

إننا إذ نقدر أهمية الجدل الذي شُرع به في الأوساط الأكاديمية حول فشل النموذج الفرنسي للتعامل مع الجاليات، والمقارنات التي تجري بينه وبين النموذج الإنجلو ـ أمريكي. وإمكانية فرنسا الاستفادة من النموذج الكندي؛ لكننا نحذر من نسيان حقيقة أن الإسلام هو المرجعية النهائية، والحكم النهائي بالنسبة للجاليات المسلمة، وبالتالي لا يجب أن يتم إغفال أن العلاج الجذري للعنف يعتمد على فهم الطبيعة النفسية والجذور العقائدية قبل كل شيء، وإن أي علاج آخر هو مجرد تخفيف من الأعراض السريرية.

 

صور

·        عدد المسلمين في فرنسا حوالي خمسة ملايين.

·        27/10 ضاحية كليشي سو بوا (Clichy-sous-Bois) الفقيرة. تعرض شابين للصعق الكهربائي بينما كانا يفران من الشرطة، الأول له من العمر 15 سنة، والثاني 17. الأسباب لم تتضح بعد. ولكن لماذا الهرب؟

·        انطلاق أعمال التخريب من ضاحية كليشي سو بوا، والتي صارت تُسمى رام اللّه سو بوا (Ramallah-sous-Bois)، وكذلك غابة سو بوا (Clichy-sous-Jungle).

·        وصف أفراد من الجاليات الإسلامية إشعال الحرائق بأنها انتفاضة رمضان الأوروبية.

·        5/11. مراسل وكالة الأنباء الألمانية (dpa)، نقل عن شابٍ مقنّع، مشارك في أعمال التخريب: «كل ليلة نجعل من هذا المكان بغداد».

·        8/11 الرئيس الفرنسي جاك شيراك يعلن حالة الطوارئ، من أجل تمهيد السبيل لفرض حظر التجول في 25 منطقة تدب فيها أعمال التخريب والسلب. ورئيس الوزراء دومينك دو فيلبان يقول أن من يخرق حظر التجول يتعرض للسجن قد يصل إلى شهرين. [تعليق: إن هذا التهديد الخطير للأمن في فرنسا، والذي وُصف بأنه نوع من الحرب الأهلية لم يجعل الحكومة الفرنسية تهرع لاستدعاء الجيش. وعقوبة الشهرين كحد أقصي لمن يخرق حظر التجول، يمكن أن تكون مجرد ضيافة فنجان قهوة لدى أي فرع أمني عربي فحسب. ونقطة أخرى أن المؤسسة الفرنسية الحاكمة تدير الأزمة بحكمة، فهي لم تخندق الشارع الفرنسي للرد على الشارع المهاجري]

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط