ن. إيليا / Aug 22, 2006

ازدادت مخاوف المسيحيين في بلاد الشام عامة، في سوريا خاصة من حملات انتقامية متوقعة كتلك التي يقوم بها فئة من غلاة المسلمين في مصر والعراق رداً على الانتقادات الحادة التي يشنها مثقفون من المسيحيين في بلاد الاغتراب على الاسلام، أذكتها وسائل الاعلام العربية وبخاصة المرئية منها حين أقدمت على التشهير بهذه الحملات في برامج خاصة ألهبت نفوس المسلمين بغيرة قاتلة على دينهم وشحنت مشاعرهم بمزيد من الكراهية. نذكر من هذه البرامج برنامج الشريعة والحياة للشيخ القرضاوي وبرنامجا صباحيا في قناة "أبو ظبي" كانت تقدمه مذيعة أمريكية من أصل عراقي وبرنامج الإتجاه المعاكس.

وقد لمع اسم بسام درويش ـ السوري الأصل ـ كناقد شديد الوطأة على الاسلام في المهجر وفي سوريا ومصر والعراق ولبنان وفلسطين والأردن واسرائيل وشمال أفريقيا بين قراء الانترنت، كان من نتائجه أنْ تعرَّض الكاتبُ لهجمات تتسم بالعنف والهمجية من جانب المسلمين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية. وهو متهمٌ بمعارضته للقرآن وبدعوته الصريحة إلى نقضه ـ بدل الأخذ في إصلاحه الذي ثبت بالتجربة الطويلة عدمُ جدواه   ـ وبرفضه لتعاليمه التي تدعو الى التطرف والعنف والتمييز والسلوك الخشن المنافي للمبادئ الانسانية الجديدة ولروح العصر، وكان أشدَّ ما أثار حفيظة هؤلاء ولاسيما العلمانيين منهم كونُ الدرويش "مسيحياً" وهو أمرٌ صرّح به الكاتبُ المعروف  نبيل فياض في إحدى رسائله.

 ولم تكنْ "مسيحية الدرويش" مثارَ البلاء عليه من المسلمين فحسب بل من المسيحيين أيضاً، أولئك الذين لم يعرفوا من قبلُ رجلاً منهم يتهجم على نبي المسلمين ودينه بمثل هذه الجرأة أو "الوقاحة" فأصبحت مقالاته بينهم كما بين المسلمين عرضة للذم والتنديد، وأصبح ذكرُ اسمه مقروناً باللعنات يصبُّها الغاضبون منهم عليه.. حتى إنَّ "قومَه" في حوران السورية ليتبرأون منه معتبرين نشاطه ضرباً من الحرب الامريكية ـ الاسرائيلية على وحدة الشعب السوري في وثيقة مشهورة جاء فيها:

"نحن أبناء بلدة خبب، البلدة الآمنة الوادعة والتي تعيش بمحبة وألفة مع محيطها الإسلامي، وبالأخص بلدة الصنمين المجاورة. نعلن للجميع بعد مراجعة المطرانية، وكبار الأهالي في البلدة. تبرؤنا من الشرطي السابق بسام درويش، صاحب موقع الناقد الذي يموله الإسرائيلي دانييل بابز. لما بدر منه من شتم نبي الإسلام في اجتماع المعارضة الأخير الذي أقيم في واشنطن. وكما إننا لا نقبل بأي كلام يوجه لربنا وإلهنا يسوع المسيح كذلك نرفض رفضا باتا قاطعا، أي شتم لنبي الإسلام، الذي نحترمه ونجله ونحن بما نمثل من فعاليات روحية وسياسية واقتصادية نعلن نبذنا لكل ما كتبه الشرطي بسام بحق الديانة الإسلامية الكريمة.. ..إلخ"

نشرها الدرويش في الناقد مع ردِّ ساخر شديد اللهجة اتهم فيه أصحاب الوثيقة بالنفاق والمداهنة قال فيه:

 (.. كتبة هذه الرسالة من – زعران البعث – الذين لاأتوقع منهم غير ما كتبوه. لقد بلغ النفاق بهؤلاء حدّ مقارنة محمد بمسيحهم ربهم وإلههم، وأنا أتمنى أن يذكروا عبارة "المسيح ربنا وإلهنا" أمام مسلم وليخبروني بعد ذلك عن مشاعر "الألفة والمحبة".. تلك التي سينطق بها لسانه بعد أن يديروا له ظهورهم... تبرؤكم مني أيها السادة يضحكني وليس إلا تشريفاً لي.. إذ لاتشرفني صلة بأناس مثلكم..).

ولاأخفي هنا أنَّ هذه الوثيقة العجيبة أيقظت فضولي الغافي منذ ستة أشهر وزيّنت لي أنْ أطير لأجلها من برلين إلى دمشق في رحلة قصيرة ـ أو مخاطرة جديدة على الأصح ـ أزورُ الامكنة التي ورد ذكرها في الوثيقة وألتقي أصحابَها المدرجة أسماؤهم تحتها وهم: معن فلوح، ناظم فلوح، بطرس درويش،  فايز القائد، وسيم أبوسيف ـ مع حفظ الألقاب ـ،  بأمل إجراء حوار معهم الغرضُ منه معرفة الدوافع الحقيقية وراء نبذِ رجل هو في الأصل منهم يقول رأيه الخاص في الاسلام: هل هي الغيرة على الوحدة الوطنية كما يصرون؟ هل هي النفاق كما يعتقد الدرويش؟ أم هو الخوف يدفعهم إليه؟.

مكثت في دمشق ليلتين في انتظار الأحد ظناً مني بأنَّ السادةَ المشارَ إليهم لابدَّ أن يلزموا دورهم للراحة في هذا اليوم فيكون نصيبي من لقائهم راجحاً فلايضيع بين انشغال هذا ولا غياب ذاك.  وقد أتاح لي المكثُ في دمشق مراجعة الاسئلة والتحضير النفسي وإعداد الخطة وأجهزة التصوير والصوت بعناية حتى جاء كلُّ شيء وفق ما تشتهيه النفس. ولكنني مع ذلك لم أكن مطمئناً كلّ الاطمئنان الى نجاح مهمتي، لعلمي بأن التحقيقات الصحفية من هذا النوع تثيرُ الشبهة والريبة في بلدٍ الناسُ فيه مسكونون بهواجس العمالة والتجسس لصالح عدوّ من الوهم.

سألني السائقُ حين أصبحنا خارج دمشق من جهة الجنوب على الطريق الذاهبة الى مدينة درعا فعمان:

ـ هل تعرف أحداً من أبناء خبب فأقودك إليه؟ فأجبته: ـ  أنا لاأعرف أحداً.

ـ وكيف تذهب الى مكان لاتعرف فيه أحداً؟.

فوجئت بسؤاله فاحترْتُ كيف أجيبُ، ولكنَّ حيرتي لحسن الحظ لم تطلْ، هداني ذهني المتوقدُ في تلك اللحظة إلى جواب ماكر توسّمتُ فيه الخلاصَ من انشغاله بما لا يعنيه فقلت:

ـ أنا أبحث عن زوجة شريكة لحياتي بعد أنْ ثقلتِ الوحدةُ عليّ، وقد أُخبرتُ أنَّ نساء خببَ يتمتعن بجمال فريد  وأدب حميد ومعشر لطيف.

فرأيتُ وجهَ الرجل المتعب تضيئهُ بشاشة، فأيقنتُ أني أصبتُ موضوعاً محبباً إلى نفسه.

ـ صدقَ من قال لك هذا! والله ياأخي أنا رجلٌ من بلدة الصنمين ومسلمٌ ولي معارفُ من أهل خببَ لم أجد فيهم إلا الخيرَ والمروءة وهم قوم في غاية التهذيب والرقي والثقافة، ولاتظننْ أني أقول هذا ترغيباً لك فيهم.. لا يا أخي هذه هي الحقيقة. وثقْ بأنني سأكون سعيداً جداً لو وُفقتَ في ماتروم، خذ! هذه نمرة تلفوني.. أنت تبدو لي محترماً  وأنا مستعدٌّ لخدمتك متى احتجتني، ولاتنسَ أن تدعوني لحضور الزفاف، وضحك كطفل ضحكة عذبة.

ـ ولكنني سمعتُ أنَّ أهلها متعصبون ولايرحبون بالمسلمين من جيرانهم إلا في مناسبات تقتضيها الحاجة.

ـ لا يا أخي هذا غير صحيح.. اسمح لي أن أقول لك إنَّ من قال لك هذا هو مخطئ فنحن هنا كما ترى مثل الاخوة ليس بيننا غيرُ الودّ والمعروف وحسن الجوار.

أردتُ بل حاولت أن أقرأ في وجهه المضاء بأنوار شمس الضحى شيئاً ممّا يخالفُ قوله فلم أقعْ من ذلك على شئ.. كان وجهُه في تلك اللحظة بريئاً لاأثرَ يُلمحُ فيه من  آثار الكذب أو المخاتلة، فعاجلته بسؤال مباغت لاصلة له بالحديث الدائر:

ـ هل تعرفُ رجلاً يدعى (بسام درويش)؟

قطّب السائق هنيهة ثم قال: ـ  لا.. هل هذا سائق جديدٌ على طريق الشام = درعات؟  

بلغنا ساحة القرية.. رأيت آخر دفعة من المصلين تغادر الكنيسة الرومانية القديمة المزروعة مثل شجرة سنديان فوق ربوة يُصعدُ إليها بدرجات من الحجر الأسود.

 قال السائق: ـ هل تحبُّ أنْ أرافقك؟ قلت هامساً وأنا أستطلع المكان:

ـ لا..  سأمضي إلى غايتي وحدي، ثم شكرته ووعدته أن أتصل به على هاتفه النقال.. 

اتجهت نحو رجل حسن الهيئة يقف عند جدار من الحجر الأسود  حِذوَ الكنيسة وسألته: هل أجدُ في هذه القرية السيد معن فلوح أو..؟

لم يمهلني الرجلُ حتى أتمَّ قراءةَ بقية الاسماء، تناول الورقة من يدي ألقى عليها نظرة سريعة ثم قال وهو يبتسم إلي بلطف بدّدَ من نفسي الشعور الثقيلَ الذي اعتراها فجأة:

ـ هؤلاء السادة أيها الأخ أكثرُهم من خبب ولكنهم يقيمون في دمشق، لذا فلن تجد منهم أحداً هنا.

كنتُ أعددْتُ لكلِّ شئ عدَّته وأنا بعدُ في برلين، وكنت وَّطنتُ النفسَ على احتمال المكروه من جفوة أوطرد أو إهانة أو ضرب أو وشاية بي إلى أجهزة الأمن حتى ظننتُ أنني استكملت هذا ال "كلَّ شيء"  واحتطت له فأصبحت في منجى بعيد عن المفاجآت.. ولكنَّ عبارة الرجل (.. فلن تجدَ أحداً منهم هنا) خيَّبتْ ظني، فانحنيت على حقيبتي فأخرجت نسخة من وثيقة التبرؤ وقلت وأنا أشير الى الكلمات الاولى منها: نحنُ أبناءَ خببَ نعلنُ للجميع.. 

ـ أليس في العبارة مايدل بوضوح على انتسابهم الى هذه الضيعة؟

ـ نعم! ولعل أحدهم أو اثنين منهم يقيم في قرية بصير وعلى كل حال فلن تجد منهم أحداً هنا كما قلت لك فمصالحهم ومهنهم تحتم عليهم الإقامة في دمشق.. 

فانكفأت على نفسي ألومها بقسوة: ـ أما كان جديراً بي مع ذلك أنْ أحسبَ لهذا الإحتمال حساباً؟

ثم رأيتني أبتسم في مرارة وأنا أتذكر قول صديقتي يوليا: أنتَ ستظلُّ شرقياً حتى لو مُنحتَ "جنسية" خمس دول غربية. ولم أملك نفسي في اللحظة عينها من التحسر على الرحلة التي فاتتني الى كلكوتا والتي كنت عزمت عليها قبل اطلاعي على وثيقة التبرؤ.

وكأني بالرجل يعلم مايدور في خلدي من الصراع  ويقرأ ما انطبع على وجهي من علامات الخيبة وضعف الحيلة فيقول لي بنبرة شعرت بها مؤاسية: ـ تمهل يااستاذ، ربما كان السيد بطرس درويش حاضراً في منزله..

ثم أقبل على غلام مستطلع النظرات الى جانبه وأمره أن يتحرَّى الأمر، فعاد الغلامُ الغضُّ بعد  دقيقة لاهثاً وهو يقول:

ـ ليس موجوداً، والدارُ مقفلة. 

لملمتُ خيبتي وهممت بالسير عائداً إلى دمشق، ولكنّ الرجل المضيافَ رئيف الخليل استوقفني ودعاني بلطف الى الدخول لشرب القهوة، كانت الحجرة واسعة نظيفة حسنة الترتيب يفوح من جدرانها عبقُ القهوة العربية وفي منتصفها طاولة مستطيلة ترقد فوق نسيجها الابيض الهفّاف سكاكرُ العيد وبيضُ الفصح الملون.

وإنْ هي إلادقائقُ تمرُّ سريعأ حتى رأيتُ المرحبين من أهل الدار والجيران ومن فتية ورجال ونساء وأطفال يشغلون بكياسة مجالسَ الحجرة وأرائكها في شبه دائرة، وفي وجوههم الطلقة مودّة وفضول، تتساقط من ألسنتهم  العذبة عبارات ندية.

انبرى الأستاذ عيسى شحادة وهو موظف كبير خبير في دائرة البريد والهاتف.. في عينيه ذكاءٌ حاد، وهو لايزال إلى الآن يتذكرُ كلماتٍ وجملاً من الألمانية التي تعلمها أثناء قيامه بدورات تخصص  في مدينة هايدلبيرغ  فقال بصوت قويّ حماسيّ واضح النبر:

ـ اسمع يااستاذ! نحن نعرفُ الحكاية، وكلُّ الناس يعرفها، وإني  لأرجو  أنْ تكتبَ ماتسمع ـ أولاً ـ من  دون تحريف أو تغيير فبعضُ الصحفيين يفعلون هذا، وثانيا:  هذا المدعو بسام درويش المعروف بتعاطفه مع اليهود الاسرائيليين أعداء وطنه وأمته لاأحدَ يعرفه، قد يكون أصلُه هنا في هذه القرية الصغيرة، أما هو فالمرجَّحُ أنه نشأ في دمشق أو في مكان آخر، نحن لا نعلم شيئاً عنه، واعلمْ يا أخي  أنّ هذا الرجلَ أساءَ الى بلدنا إساءة بالغة حين قذف أهله بالطائفية البغيضة التي لاوجودَ لها عندنا والحمد لله. كما لاوجودَ عندنا للتعصب الديني الذي جاء اتهامُه لنا به من قبيل الافتراء والكذب، نحن نعلم أنه واحدٌ من المعارضين في الخارج من الذين يتربّصون بوطننا العزيز الدوائرَ والدواهي، ومن الذين ينتظرون به شراً يحلُّ به، ليمزقوا نسيج وحدته، فيصبح غنيمة سهلة لأعدائنا وللمغامرين السياسيين الخونة أمثاله في الخارج مثل الغادري والبيانوني ومن لايحضرني ذكرُه الآن. واللهِ والله إننا لأصدقُ عروبة.. ولو خُيِّرنا  بين العروبة والمسيحية لاخترنا العروبة، أنا لاأنافق يا سيدي وأنت تعلمُ ذلك وكذا الحاضرون يشهدون على قولي.

لم يكن السيد شحادة ينافقُ أو يظهر ما لا يبطنُ، كان صادقاً في كلّ كلمة يفوه بها، وما كنتُ أنا في حاجة إلى أنْ أمعنَ في تعابيروجهه وفي حركاته لأتأكّد من صدقه كما فعلت هذا مع السائق، لا ! كنت أعرفُ صدقه من تجربتي الخاصة مع بعض المسيحيين في بلاد الشام وقد كنت أعرفُ صدقه من معرفتي أفراداً منهم دخلوا الاسلامَ، لا إيماناً وحباً به ولكنْ حباً بالعروبة، حين شقّ عليهم التفريقُ بين مفهومي العروبة والاسلام.  ولكنني لم أكنْ أعرف شيئاً واحداً وهو:  لماذا يضطرُ المسيحيون ومعهم الدروز أنَ يؤكدوا في كلّ مناسبة عروبتهم ويعلنوا عن هويتهم القوميه، ـ وعروبتهم بلا ريب مسألة بدهية طبعية ـ؟  ولايضطرُ إليها مواطنوهم من المسلمين؟       

المهندسُ الشاب باسل  الجالس إلى جانبي على الصوفا المستريحة في صدر الحجرة قال وقد غطَّت وجهَه النضرَ  رصانة ليست مألوفة فيمن كان في مثل سنِّه:  ماالذي يحملُ ابنَ الدرويش على تلفيق الاكاذيب عن بلدنا؟ هل هو قلمُه المأجور؟ لماذا يشجبُ التطرفَ الديني وينتقدُ الاسلامَ؟ أليسَ هو والدولة التي تحميه وراء هذا التطرف؟.. انظر! ما الذي يحدث الآن في العراق؟، هل كان التطرف الديني كما هو عليه اليوم  في زمن الرئيس صدام حسين؟ من يغذي الارهاب ورموزه؟ أليست الدول الاوروبية ومعها الولايات المتحدة الأمريكية التي تمنحُ حقَّ اللجوء للإرهابيين هي المسؤولة عن تصاعد موجات الارهاب حقيقة؟

 أليس من المضحك المبكي.. أليس مما يغيظُ أنْ ترى الحكومة المصرية والسورية مثلا تسعيان  في مطاردة الإرهابيين ثم تأتي دولة مثلُ بريطانيا لتقدِّمَ لهمُ المأوى والمالَ والتكنولوجيا الحديثة؟؟.

قال السيد رئيف الخليل معقباً: وأنا أيضاً  أرى أنَّ الذنبَ يقعُ على  الولايات المتحدة  ـ التي لا تقسط في الكيل للفلسطينيين مثلما تقسط فيه مع اليهود، تعطي اليهود بسخاء وتبخس في حقّ الفلسطينيين ـ إنَّ ما يجري الآن، وإنَّ كلّ ما تشهدُه المنطقة من اضطرابات ناتجٌ عن سياستها الرعناء التي تفتقر إلى العدل، فتدفع الناسَ دفعاً إلى  التطرف والسلوك الوعر. 

كنت سعيداً بما يدور من النقاش الهادئ، لا لأنه يوافقُ هواي بل لاني وجدت فيه تعويضاً عن فشلي في لقاء  أصحاب الوثيقة صكِّ البراءة، وظللت أصغي في انتباه الى كل ما يقالُ من حولي وأنا أردّد في سري: ترى هل كنت سأحظى بحديث أوفى من هذا الحديث لو كنت وفقت في مقابلة السادة  أصحاب الوثيقة؟.

نهضت بعد زهاء الساعة ونصف الساعة حين لم يعد ثمة ما يقالُ.. عند عتبة الحجرة كانت الجدةُ "كبيرة الدار" تجلس بوقار عليها زيُّ أهل حوران التقليدي الجميل الذي يعودُ ـ ربما ـ إلى أيام  الغساسنة، فوق رأسها غطاءٌ لهُ وشي سألت عنه فيما بعد فقيل لي: إنه العرجة.     

قادني مضيفي وهو يستمهلني الى وقت الغداء نحو بيتهم العتيق وأراني هندسته المعمارية الرومانية القديمة والقوسَ الحجريَّ المجزّعَ المعقود في أعلى السقف منتصفِه قائلا: تركناه للذكرى أثراً شاهداً على الماضي البعيد، هنا في هذه الغرفة التي تراها كان آباؤنا وأجدادُنا يسكنون وفي هذه الزريبة التي تلتصق بها تماماً كانت الماشية تؤوب فترقد، كنا نعيش معاً جنباً إلى جنب، وما تسنَّى لنا العيشُ منفصلين عنها في أبنية حديثة كالتي شاهدتهَا إلاّ بعد "ثورة البعث المجيدة".

يخترقُ القرية من الغرب الى الشرق طريقٌ معبدٌ على جانبيه دورٌ حديثة العمارة وأخرى سوداء قديمة أمسى بعضُها خرائبَ وأطلالا.

توقفت أمام بوابة دارة جميلة أمامها حديقة مسوَّرة أنتظرُ سيارة عابرة باتجاه الصنمين، فإذا بالبوابة تفتح ويطل منها رجل في مقتبل العمر بلباس الراحة، ألحَّ عليّ بالدخول فدخلت شاكرا ً. وتذكرت وأنا أرشف القهوة المرة المنعشة شيئاً فاتني طرحُه على القوم فانتهزت الفرصة قائلاً:

ـ لديّ معلومات جمعتُها في دمشق تؤكّدُ اعتداء بدو اللجاة على ملكية لاهل القرية تقدر بحوالي 2300 دونماً، هل تجدُ لهذا الاعتداء أبعاداً دينية؟. فقال الرجل:

ـ لا يا أخي هذه قضية لاشأنَ لها بالدين وهي معروضة الآن أمام المحاكم العقارية، ومحاكمُ الدولة كما تعلم لاتفرِّقُ بين مسيحي ومسلم.. 

هنا قفزت إلى ذهني فكرة مضحكة قلت:

ـ والله صحيح! فكيف للبدو الأعراب وقد لعنهم القرآنُ أنْ تحرّكَهم النوازعُ الدينية؟

لم ترُقٍ الفكرةُ لصاحبي الكريم  فاكتفى بهز الرأس دون الابتسام أو الضحك في حركة نثرتْ من حولها معانيَ غامضة فأسرعت أسأله:

ـ هل تعرف (بسام درويش)؟ فأجاب:

ـ لم أكن أعرفه فأنا لست من رواد مواقع الانترنت، ولكنَّ الضجة التي أحدثها عرّفتني عليه..

ـ كيف تقرأ مايقولُه؟

ـ ليس قولُهُ حسناً، إنه يستعدي علينا إخوتنا المسلمين بلا مبرر.. وعلى كل حال فأنا لست خبيراً بمثل هذه المسائل، فإذا أردت أن تتزوّد بشيء منها أو بشيء من تاريخ المنطقة فإني أنصحك بزيارة الاستاذ منير الذيب.

 

رحّبَ بي الاستاذ منير الذيب ـ رجلٌ في سمرة بداة العرب وملامح المفكرين اليونان ـ ترحيباً جميلا بأريحية الصديق المُقرَّب، وسرعان ما عرفت فيه مؤرخاً غزيرَ العلم واسعَ الاطلاع والحكمة، قرأ عليَّ من تاريخه ـ قيد الطباعة ـ وذاكرته القوية أحداثَ الايام من العصر الأرامي واليوناني والى العصر الحديث، وعدّدَ مناقبَ أهل خبب ومستوياتِ العلم والابداع التي رقي إليها أبناؤها فسألته:

ـ هل يمكننا أن نعدَّ الدرويشَ واحداً من مبدعيها أو أعلامها؟

زوى الاستاذُ مابين حاجبيه متفكراً ثم أجاب بعد هنيهة:

ـ لاأستطيعُ أنْ أنكر أنّ لهُ قلماً رشيقاً سيّالاً ولكنه للأسف يغمسُه في دواة حبرُها أحمرُ، لقد أخطأ في توجيهه نحو أهدافه خطأ جسيماً..

فما شأنُه بالاسلام وهو ليس بمسلم؟؟  وما شأنُه بالمعارضة السياسية المشبوهة وهو اليومَ أمريكيٌّ؟؟.

اعترض إياسٌُ  ابنُه وهو مهندسٌ متخرج من جامعة دمشق، شابٌ حسن التكوين والمظهر، ظلَّ طيلة الوقت متجهماً منقبض الأسارير لأنه ـ كما أُخبرتُ ـ كان يحسبني من شيعة الدرويش وواحدا من المعارضين الفاسدين.

ـ أنا لاأجدُ في أسلوبه التعبيري أية رشاقة.. ثمّ لماذا لايدعُ  للمسلمين أمرَ دينهم و يمضي الى أمره؟؟ هل ترى في أسلوبه مايمتع؟؟

أجبت: ـ اعذرني، أنا هنا للاستماع لا لاصدار الاحكام، وأنا لست طرفاً في معادلة النزاع على كل حال..

دخلت السيدة أمُّ إياس وهي تحمل آنية الطعام ففاح منها في فضاء الغرفة نكهة طيبة. قالت:

ـ إذا كان هذا الرجلُ يرى عيوب الاسلام حقاً..  فهل مِنَ الحكمة أن ينشرَها في الملأ؟ أليس من الحمق أن نقول "للأعور" في وجهه إنه أعور؟؟.

غرفت لنفسي ملءَ الطبق،  كانت الوجبة شهية وكنت جائعاً وبعد الفاكهة والشاي استودعت أهل الدار، وخرجت الى الطريق..

كانت شمس المغيب تستلقي عارية فوق رمال الافق الداني، ونسيمٌ في الجوِّ يرفُّ بلطف فينعش الصدر. وكان سائقُ "الميني باص" ينتظر ركابه، سألني: ـ هل ننتظر؟ قلت:

ـ لا.. امضِ الى الشام.. فأقلعَ راضياً.

في الطريق سألته: ـ هل تعرف (بسام درويش)؟ فهرش ذقنه النابت بيسراه:

ـ بسام درويش.. بسام درويش!! من هذا؟؟ هل هو مغنٍ جديد؟ فأجبته:

ـ لا.. "هذا كبشٌ أسودُ" من بدو اللجاة له قرنان مدببان يخترقان الصخور والحيطان.. فرأيته يبصق عقبَ سيكارته من خلل النافذة المفتوحة ويقول: يا ستار! ثم يعقبُ القولَ بالسؤال:

ـ هل تحبُّ الغناء؟ فأجبت:

ـ إلاّ.. بلهجة حورانية وتعني وكيف لا.

فنظفَ السائقُ حنجرته ثم أنشأ يغني من أوتار ممزقة:

بينَ  خَبَبْ والبصيرْ

أصبحَ الأعمى بصيرْ

****************

*********

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط