محمود كرم / Apr 12, 2007

مَن يتعمّد إفساد وتهديم كل ما له علاقة بالمنجز الإنساني الجمالي المتعدد والمتنوع بأية ذريعة كانت، هل يستحق الحياة؟ وبمعنى آخر هل يُجيد في مقابل ذلك صناعة الحياة والجمال والفن والفرح والألق والبهجة؟ بالطبع لا، لأنه لا يُحسن سوى أن يجلب له وللآخرين من حوله، النكد والكآبة والقلق والتعاسة والبؤس وثقافة الموت، ومجرجراً خلفه قائمة طويلة من التحذيرات والتعقيدات والعقد والفروضات الأخلاقية..

 

حتى أولئك الذين يجدون في مجرد الضحك، هاجساً يجعلهم يتمتمون بالاستغفار فوراً بعد وجبة ضحكٍ بريئة، وترديد: اللهم إجعله خيراً!! وكأن اقتراف الضحك جناية كبرى، سيجلب عليهم وبالاً عاصفاً وغضباً ماحقاً..!!

 

وكيف يحدث أن يسعى الواحد منهم مع سبق الجهالة والتجهيل والتزمت إلى هدم الحياة الجميلة من حوله، مستحضراً لائحةً لا تنتهي من الممنوعات والمحرمات والتحذيرات، خارجاً بها إلى الناس من أوهام الماضي السحيق أو من النصوص التراثية التي قيلت في زمن لا يمت إلى ثقافة العصر بأية صلة أو بأية علاقة موضوعية أو بأية مقاربة صياغية جمالية، وكأن الحياة بالنسبة له أو حتى بالنسبة لغيره انطلاقاً من التزامه بقدسية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تستقيم إلا باجترارها وتناولها ومعايشتها وفقاً لتعاليم السلف الصالح أو وفقاً لأنماطه الثقافية المتجسدة في إرثه الماضوي، وكأن الحياة لا تستمر إلا من خلال تأويلاته وتفسيراته ويقينياته وغيبياته وأدبياته ومنقولاته التراثية والدينية وذاته المدججة بشهوة القداسات المتألهة، وكأن الحياة أيضاً لا يمكن صناعتها إلا من خلال الاقتداء بدينه وبمقدساته وبأوليائه الصالحين، فالعميان لا يرون غير ذواتهم، كما يقول الفيلسوف كانط..

 

ولماذا يغفل أولئك المستميتون في هدم الجمال والفن والأناقة والفرح، عن فهم أن الجمال الإنساني في مستوياته وتشكلاته ووجوهه الكثيرة والمختلفة يجب ألا يخضع لمقاساتهم النمطية المعتادة ولقوالبهم الثقافية ولتحذيراتهم النصائحية ولفروضاتهم الأخلاقية، لأنه لا يستطيع أن يأتي إلى الحياة والواقع والإنسان عموماً، مطبقاً ومترجماً لأفكارهم أو لتصوراتهم أو ليقينياتهم أو لتاريخهم الديني والتراثي [u1]، فالجمال الذي يجترحه المقبلون على صناعة الحياة الأنيقة الرحبة، أسلوباً ابتكارياً يعكس مستويات ذواتهم الجمالية ومستويات نظرتهم الحرة للجمال والحياة، والجمال الإنساني عبر منجزاته الذوقية والبصرية والسمعية والكتابية والفنية بشكل عام، مجموعة من الأساليب المتنوعة مفتوحة الآفاق ومتنوعة الطرائق في فهم الحياة ومعايشتها وابتكارها وصناعتها والانطلاق بها ربما إلى ما بعد الحد الذي يستفز فيهم دائماً التجديد والتغيير واستيلاد المعاني الجمالية المتجددة..

 

ومتى يفهم ويعي أولئك الذين يتعمدون دائماً إفساد الذائقة الإنسانية وتلويث الحياة النقية وتخريب الجمال وسرقة الفرح وتهديم الفنون، أن الحياة تصنعها دائماً الرغبات الإنسانية المفعمة بالحب والجمال والمفعمة أيضاً بزخم الأفكار التحررية الدافعة والمؤسِسة لثقافة الانتاج الحياتي المتنوع والرحب عبر التحاور عميقاً والتفاعل المثمر مع الطبيعة والبيئة وتبدلات الأزمنة وتحولات العصر لتلبية شروط الحياة المختلفة، وتصنعها كذلك الرغبات الإنسانية المشحونة بتموجات الفعل المدني الحر المتحرك والمتغير والمنفتح، وليس بدوافع الفعل الديني الجامد والثابت والمقدس، العاجز عن انتاج الحياة المتنوعة والحرة، لأنه يعجز في المقابل عن انتاج الحياة وفقاً لعقلية المتغير والمتحرك والمتحرر واللايقين التي يفتقدها ولا يملك أدواتها، علاوةً على أنه لا يتخذها بالأساس مرجعيةً حياتية، ولذلك عبر كل الأزمنة والعصور الإنسانية المتعاقبة نجد أن الديني عادةً ما يفشل في انتاج الحياة التعددية والفاتنة والمبهجة والمتطورة، ويفشل في صناعة أساليبها وطرائقها المتنوعة والمفتوحة ويفشل أيضاً في إقصاء الفكر والفعل المدني من الحياة عموماً، فيسعى جاهداً، أي الديني، بكل مخزوناته التراثية وتفسيراته التأويلية ومنقولاته النصية ومجاميعه الإفتائية وأيضاً بكل شبقه الصوتي المنبري المعتاد، إلى أسلمة وتديين الجوانب والأنماط الحياتية في محاولة منه للالتفاف حولها أو محاولة التحايل والاستحواذ عليها، وفي محاولة منه أيضاً لايهام الآخرين بأنه يُمسك بكل جوانب الحياة الكثيرة وأنه يملك القدرة الذاتية على اجتراحها وانتاج شروطها ومتطلباتها بعيداً عن المجهودات الإنسانية ذات المنطلقات والرغبات والإرادات والدوافع المدنية الحرة..

 

وأليس الجيد والرائع من الفعل الإنساني الرفيع والراقي بالضرورة يكون جيداً ورائعاً للحياة الإنسانية وصانعاً لها ودافعاً بها نحو التألق والبهاء والفتنة، فحينما لا يستطيع الهدامون والظلاميون والمفسدون والتافهون أن يرتفعوا بمستوياتهم الثقافية وبذائقتهم الحياتية لعجزٍ ينخر فيهم، إلى مستوى ذلك الجيد والرائع، فإنه من البديهي ألا يعجبهم ذلك الجيد وليس باستطاعتهم في المقابل استساغته وليس بمقدورهم أيضاً استيعاب جماليته، فضلاً عن استيعاب رمزيته الفنية أو القيميّة، وكما يقول الفيلسوف نيشته: لا يعجبنا الجيد حينما لا نكون في مستواه..

 

وهل كان فولتير ذلك الفيلسوف الممسوس بعبق الأنوار التنويرية، محقاً حينما قال ذات مرة: احذروه فهو يكره الموسيقى..!! هل كان محقاً في ذلك؟ بكل تأكيد نعم، لأن مَن يكره الموسيقى، يسعى لهدم الجمال، فالكراهية تستفرغ حمولاتها القميئة في الفعل السلوكي البشري، ليتحول هذا السلوك إلى أداةٍ هدامة وتخريبية وعدوانية يستبدل الجمال بالقبح، ويستعيض عن الجمال بالبشاعة، ويلطخ الحياة البهية بلون قاتم معتم، ويستبشع في الآخرين جمالهم وألقهم وفنهم، وينتزع من الوجود الإنساني روحه الخلاقة، ويحيل الحياة إلى عدم، فارضاً على الآخرين ثقافته المتخمة بالكراهية والبشاعة والكآبة، وهل ثمة خطأ في أن يحدث كل ذلك؟ بالتأكيد نعم، فهناك ألف خطأ وخطأ، فالحياة العابقة بألق الألوان اللامتناهية لا تستقيم مع البشاعة، والجمال لا يرتهن للقبح، وومضة الفن الدافقة بالضوء لا تنبت في العتمة، ونبضة الروح العاشقة للانطلاق ترفض القيود..

 

 وهل تخيّل أحدكم كيف ستكون عليها الحياة الإنسانية حينما تخلو من الفن والألق والبهجة والإبداع والفرح والجمال، بالطبع ستصبح حينها حطاماً يتكوم في هاوية العدم والموت والفناء ويصبح مجرد وجودها على قيد الممارسة الإنسانية خطأ شنيعاً، وكما يقول (نيتشه) في واحدةٍ من أبهى تجلياته الفلسفية: لولا الموسيقى لكانت الحياة ضرباً من الخطأ..

 

وفي كل مراحل الإنسان التاريخية، لماذا لم تستطع البشاعة أن تنتصر على الجمال؟ ولماذا لم يستطع القبح أن يهدم محطماً كما يريد وإلى الأبد جمالية الإبداع الإنساني المولدة للفرح والبهجة والفنون المدهشة؟ هل لأن البشاعة والقبح لا يملكان أسلحةً فتاكة؟ وهل لأنهما لا يقدران على مجابهة الجمال؟ حتماً ليس السبب في كل ذلك، فالبشاعة والقباحة والدمامة ليست ضميراً مسكوناً بالنبل والنقاء والحياء يفضّل الموت خياراً شجاعاً بدلاً من أن يبقى في مواجهة الجمال أو أنه يفضّل أن يتوارى عن رؤوس الأشهاد خجلاً من بشاعته ودمامته وقباحته ورداءته، بل السبب في أن البشاعة والقبح يسقطان مهزوميْن مندحريْن في معركة الحياة، لأنهما يحملان في داخلهما من الضعف والهشاشة والتفاهة والوهن الشيء الكثير والقدر الذي يكفل بتقويضهما من الأساس، ويسقطان أيضاً لأنهما لا يستطيعان الانتصار في معركة التنافس مع الجمال والضوء والألق..

 

وحينما يستبشع الهدامون والمفسدون، الجمالَ الذي يتمثل في القيم الإنسانية الرفيعة أو في أي منجز إنساني بديع، ويحاربونه ويترصدونه بالفتاوى والتشنيع والقمع والملاحقة، هل يفعلون كل ذلك لأنهم يدافعون عن الأخلاق والفضيلة؟ أم لأنهم يدافعون عن الجمال نفسه ويبتعدون به عن التشويه والإساءة؟ بالطبع ليسَ هذا ولا ذاك، يحاربون الجمال لأنهم يخشونه ولأنه يعرّيهم على حقيقتهم الخاوية والفارغة والتافهة والقبيحة، ولأنهم أيضاً لا يقدرون على منافسته والانتصار عليه، فالجمال في حسابهم العملي وفي تقديراتهم الأدبية وفي ميزانهم الثقافي يجب أن يأتي متوافقاً مع القبح في أعماقهم ومتوافقاً مع القبح في ممارساتهم السلوكية، ويجب أن يأتي أيضاً متماهياً مع ميراثهم الثقافي المقدس، ويكون عاكساً فعلياً عن حالتهم الثقافية والنفسية والمسلكية التي تتغذى على البشاعة والقبح والرداءة، أنهم في النهاية يحاربون الجمال الإنساني، لأنهم بتلك الحرب إنما يدافعون عن أنفسهم وعن وجودهم وعن قبحهم المتمثل في صورتهم التي يخرجون بها إلى الناس والواقع، ولذلك لا يسمحون للجمال الذي يأتي على عكس حالتهم الثقافية والتراثية والنفسية والمسلكية بأن يمر ويبقى، ولا يسمحون له بأن يشيع البهاء والفتنة والألق والفرح، ولكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون منعه أوالقضاء عليه، لأنه يمرُّ دائماً مستوطناً القلوبَ والعقول والأنفسَ والمساحات والزوايا وكل أشكال التعبير الإنساني الحر، ولأنه يأتي استجابةً لبحث الإنسان الدائم عن الصيغ الجمالية التي يجترح بها شروط حياته المتغيرة والمستمرة والجميلة، ولا يمكن منعه أي الجمال، لأنه معنيٌ بشكل أساس بتطور الحياة والخروج بها إلى الأفق الأرحب، والإنسان بطبعه عاشق حقيقي للخروج إلى الجديد والمبتكر والجميل والمبدع، ولا يمكن منعه أيضاً لأنه يتخلق في أتون الرغبة التي تعكس فعل الإنسان الإرادي الحر، وعليهِ فهل يعتبر الهدامون الظلاميون بالقول المعروف (ما لا يمكن منعه يجب السماح به) مع التشديد طبعاً على أن الجمال الإنساني ليس مطلوباً منه أبداً بأن يأخذ الإذن منهم للمرور والبقاء، لأنه يمر ويبقى رغماً عنهم كما أسلفت، ولكن من باب أن ما تستطيع أن تمنعه اليوم، لن تقدر على منعه غداً أو إلى الأبد..

 

ومتى سيفهم الهدامون المفسدون، أن الجمال المتوثب بالروح الخلاقة وبالمعاني الإنسانية الرائعة والمفعم بالألوان الزاهية المضيئة، إنما في أساسه يسعى إلى البناء وليس الهدم أو التخريب، أنه بناء للحياة الجميلة وبناء للفكر وبناء للذوق وبناء للمتعة الحسية، لأنه يجد وجوده في الفعل والإرادة والرغبة والإبداع والتغيير وشجاعة الابتكار، بينما القبح والبشاعة والرداءة في أساسها تقوم على الهدم والإفساد والتخريب، لأنها هادمة للجمال والحياة وهادمة للرغبة الإنسانية في الإبداع والتغيير والممارسة الجمالية..

محمود كرم، كاتب كويتي   tloo1@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط