محمود كرم / Nov 26, 2007

أعتقد أن مَن يملك القدرة على اجتراح نوع من الصياغات الفكرية أو الفلسفية اعتماداً على تفكيره العقلي واختياره الحر، هو ذلك الذي يحاول دائماً أن يواجه الحياة حيث وجد نفسه وسط مجاهلها ودروبها وتعرجاتها وتشعباتها ومتاهاتها ومساراتها، انطلاقاً من إرادته الذاتية وفعله التفكيري لِمنحها أي الحياة معانٍ تتماهى مع وجوده واختياره وطريقته ورؤيته وحراكه فيها، وبالتأكيد ليسَ أمراً يسيراً على الإنسان أن يجترح حياته متحرراً من الأرصدة المفاهيمية المسبقة، ومتحرراً أيضاً من أية هوية دينية أو قومية ترهنه سجيناً في مرجعياتها وتعاليمها وأدبياتها وفروضاتها الثقافية والتراثية، ومتحرراً كذلك من كل ما يجعله أسيراً في قوالبَ معرفية ذات طبيعة يقينية ونهائية وثابتة، أقول ليسَ يسيراً كل ذلك على أيِّ إنسان بطبيعة الحال، لأن الإنسان عموماً يجيء إلى الحياة وتسبقه عادةً تعاليم بيئته الإجتماعية والثقافية وتترصده بالتلقين وبالفرض مفاهيمها وفروضاتها وتعاليمها وأحكامها، ولأنه يجيء أيضاً مصحوباً بتاريخه وبموروثاته وبأربابه وبنصوصه وبمقدساته وحتى بأمواته الموغلين في القِدم..

 

وربما عليَّ أن أطرح هنا تساؤلاً قبل أن يأخذني المقال إلى تفريعات أخرى : كيف يمكن للإنسان أن يعرف إنه قد اختار أن ينحاز لعقله وتفكيره.؟ فهل سيعرف ذلك بناءً على جملة من استنتاجاته الذاتية الخاصة حول كل ما يحيط به ويتداخل معه، أم سيعرف ذلك بناءً على النتائج أو الاحتمالات التي توصل إليها ذاتياً بشأن كل ذلك.؟ وهل هي استنتاجات ونتائج نهائية أم تبقى بالنسبة له أفكاراً قابلة للتغير أو التبدل أو التطور، والأهم ربما هذا الاشتغال التفكيري يجعلهُ يعرفُ إنه قد اختار العناء بدلاً من الراحة، اختار عناء التواصل المضني مع عالم الأفكار المتغيرة والمتطورة والخارجة على مفاهيم التعليب الفكري الجاهزة ومفاهيم التلقين اليقيني، إنه قد اختار ذلك بدلاً من الاستكانة للراحة العقلية في اشتهائها الدائم للجاهز والمعلب والسائد واليقيني والثابت، فالإنسان عموماً لا يرى أن عليه أن يعرف تماماً كيف عليه أن يصل إلى الحقيقة أو اللاحقيقة بقدر رغبته الأكيدة في معرفته إنه قد اختار العناء ولم يختر الراحة، أو إنه قد اختار الراحة ولم يختر العناء في مسار البحث عن أية حقيقة وعن ما يمنح حياته شكلها أو لونها المناسبان له، ومَن اختار من دون أن يدري أو يشعر إنه قد قام عملياً وفعلياً بتغييب عقله وطمس تفكيره يعرف إنه قد فضّل هذا الاختيار على ذاك، أم وجد نفسه واقع فيه من دون أن يمنح الحق لنفسه في اختيار ما يريد، فهنا ربما علينا أن نعرف، هل الإنسان حينما يريد أن يجترح منطقاً مناسباً لحياته ولتفكيره سيجد نفسه واقعاً حقاً أمام اختيارات عدة وعليهِ أن يعرف كيف يفضّل هذه على هذه أو هذه على تلك أو تلك على هذه أو هذه على تلك، أم أن عليه أن يعرف إنه قد أحسنَ الاختيار من بين كل تلك الاختيارات بحيث أصبح يعرف تماماً إنه في النهاية قد انحاز إلى الراحة ولم يفضّل العناء أو إنه قد فضّل العناء ولم يستكين للراحة، وبالطبع فإن الإنسان في رحلة اجتراحه لنمط حياته يجد نفسه واقع أمام اختيارات عدة، ولكن المسألة الشائكة هنا، كيف يجب عليه أن يعرف إنه بالفعل أمام اختيارات عدة وليس أمام اختيار وحيد وعليه بالتالي أن يحسم أمره..

 

ففي المجتمعات ذات الأطر الثقافية المنغلقة والانغلاقية عادةً ما يجد الإنسان نفسه محكوماً باختيار واحد وأوحد ويراه في المقابل نموذجاً كاملاً ومثالياً لأنه يأتي متسقاً مع بيئته وتاريخه ونصوصه وموروثاته وأنماطه الثقافية والمجتمعية، وفي هذه الحالة تنعدم أمامه أية اختيارات أخرى، لأن بيئته الإجتماعية منغلقة ومحكومة بنمط ولون واتجاه واحد ووحيد، وقد يجد الإنسان نفسه في مثل هذه البيئة قد انحاز للراحة العقلية التامة، ليس اختياراً ذاتياً مستقلاً لهذا الانحياز، بل لأن هذا الاختيار هو الوحيد والمتاح والموجود والسائد والمعمول والمقبول به في النهاية، ولذلك هل يعرف الإنسان الذي ينشأ في مثل هذه البيئة إنه قد اختار لنفسه الأسلوب المناسب لحياته، وإذا ما توصل بطريقة وبأخرى فيما بعد إلى أنه ليس الأسلوب المناسب له، فهل أمامه أن يعرف أن هناك اختيارات أخرى يستطيع أن يجترح من خلالها أسلوباً مناسباً لحياته، ولكن كيف يجب عليه أن يعرف أن هناكَ ألواناً وأساليبَ واتجاهات ومستويات أخرى ربما قد يحقق من خلالها ذاته ووجوده وخاصةً إنه في بيئة انغلاقية ومنغلقة، ولذلك ليس مستغرباً أن يتبلور ويتخلق الإنسان في هذه البيئة وفقاً لهذا النمط الحياتي، النمط الذي ينشأ تابعاً ومنساقاً لاختيار واحد وأوحد في الحياة، وفي الوقت نفسه ليس بمقدوره أن يعرف أن هناك أمامه اختيارات أخرى غير الذي تبرمج عليه، ولا يريد في المقابل أن يعرف كيف عليه أن يعرف أن هناك اختيارات أخرى قد تضعه أمام حقيقة أو صورة أخرى أو قد تنقله إلى ضفةٍ أو جهةٍ أخرى، وربما أيضاً لا يريد في مرحلة متقدمة من ارتياده لهذا النمط أن يشكك أبداً ولو للحظة في الاختيار الذي وجد نفسه فيه بيئياً ومجتمعياً وكبر عليه سنوات طويلة من عمره..

 

بالطبع ليسَ مستغرباً أن يوجدَ إنسان قد تشكّلَ طويلاً في هذا النمط، لأنه من البديهي القول أن وجود التفكير بكل مستوياته وأساليبه وطرائقه وتنوعاته يعني أن هناك في مقابله وجود أيضاً للنقيض منه تماماً في الواقع، وهو اللاتفكير أو بمعنى آخر عدم استخدام خاصية الاشتغال التفكيري، وإلا ما هو الفرق بين تلك المجتمعات التي تدفع بأفرادها منذ الصغر إلى انتهاج التفكير الحر طريقةً وأسلوباً ومنطقاً في حياتهم وما يستتبع ذلك من مميزات الخلق والإبداع والتغيير والتطور والتألق، وبين تلك المجتمعات التي تقتل في أفرادها أية محاولة للتفكير وتحيلهم إلى مجسمات صماء يندرجون تلقائياً في برمجيات ثقافية معدة سلفاً، طبعاً فالفرق هنا شاسع وكبير بين تلك المجتمعات وهذه، وهو كالفرق بين التفكير واللاتفكير وهو كالفرق بين التفكير وما ينشأ عنه وما يستتبعه وبين اللاتفكير الذي يتكوّم دائماً في العدم واللاشيء وفي الجمود والتكلس، فالتفكير الخلاق والشجاع والمتوثب محض انعكاس لمجتمعات حية وانفتاحية ومتحررة وخلاقة، واللاتفكير محض انعكاس لمجتمعات ميتة ومنغلقة وانغلاقية ومتخشبة، وعليهِ ليس مستغرباً أن نجد ذلك الإنسان الذي اندرج طويلاً في نمط معين وتشكل فيه ولا يريد الخروج عليه أو لا يعرف كيفية الخروج منه، لأن ليس من حقه في بيئةٍ اجتماعية تطمس التفكير ولا تمنحه أن يعرف أن هناك أمامه اختيارات أخرى ومن حقه الإنساني أن يختار من بينها ما يشاء، وفي مقابل ذلك نجد أن البيئة الاجتماعية التي تهب التفكير مساحات حرة وخلاقة وشجاعة ومتقدة تتيح أمام أفرادها اختيارات عدة، ويرى الفرد فيها نفسه إنه أمام اختيارات حرة ومن خلال حقه الإنساني في التفكير الخلاق والحر يعرف كيف يختار بحرية ما يناسبه منها..

 

وما أعرفه من خلال تجارب البشر في ميادين الفكر والثقافة والأدب والمعرفيات التطبيقية الخلاقة والمنتجة وفي مجالات الفنون والإبداعات ومن خلال تجاربهم في صناعة واجتراح وانتاج الحياة الحرة المنطلقة، ما أعرفه من هؤلاء إن تفكيرهم لا يقف عند حد معين، فهو التفكير الذي يعشق التحدي ويهوى الصراع مع المفاهيم والأفكار ولا يهاب المغامرة ويتقد بدهشة التساؤلات والابتكارات والخلق والفتوحات المعرفية التي تضيف له جديداً دائماً أو يضيفُ هو إليها ألواناً أخرى، إن هذا النوع من التفكير في أساليبه ومستوياته ربما هو التفكير الذي يساوي مقدار ما أمام الإنسان وما في داخله من حرية في الاختيار، ويساوي ما في داخله من احتياجات فكرية ونفسية وشعورية وحياتية دافعة ومُلهمة وناهضة، أليسَ احتياجه إلى تفعيل وجوده وحضوره وممارستهما واقعياً ووضعهما قيد الفاعلية والتوهج والإثارة يدفعهُ كل ذلك إلى بناء علاقة حيوية ومتوثبة ومثمرة مع المتغير والجديد ومع مساحات مفعمة بالأفكار والتصورات، وأليسَ احتياجه دائماً إلى أن ينتقد ذاته ويواجهها وربما جلدها في بعض الأحيان يجعله كل ذلك متأكداً من أن ذاته لا تسير به إلى ترسبات الجمود والتكلس ولا تقوده إلى هاوية الفناء والموت، وهذا النوع من التفكير ألا يساوي أيضاً مقدار ما في داخل الإنسان من انفعالات فكرية ضاجة ومتأججة بالتوقد والحركة والتساؤلات دافعةً به نحو التأكد من قدرته على التمتع بروح المغامرة والتحدي، وأيضاً ألا يساوي هذا النوع من التفكير مقدار ما في داخله من شجاعة الرفض لكل ما يسلب حريته وقراره واختياره ورفض كل ما يهين إنسانيته وعقله، ويساوي تماماً ربما مقدار الألم الذي يشعر به ويتحسسه، ألم الواقع المر وألم المواجهة المستمرة مع حقيقة الواقع وألم الثبات في معركة الصراع مع الاستبداد والجهالة والغباء والتخلف والقبح والكراهيات..

 

وكل ما سبق ربما يفضي بنا إلى فكرةٍ تتلخص في إنه كلما كانت احتياجات الإنسان واجتراحاته وصياغاته وممارساته وانفعالاته وأساليبه في اشعال حواسه وتحسس اختياراته وتفعيل حضوره الذاتي كبيرة وعميقة وعظيمة وحرة كان تفكيره في مقابل ذلك حيوياً ومتقداً ومتوهجاً ومبدعاً وخلاقاً ومستقلاً ومتدفقاً ومنتجاً..

 

محمود كرم، كاتب كويتي

tloo1@hotmail.com      

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط