بسام درويش / May 18, 2002

وقعت بين يدي صفحة من جريدة عربية مهجرية تُدعى "الانتشار العربي" وعليها تتمةٌ لمقال نُشر الجزءُ الأول منه في عدد سابق منها. تزيّن أعلى المقال صورة لكاتبته "فاطمة عطيّة". أما عنوانه فكان: "التراث والمستقبل.. هل انتشر الإسلام بالإكراه؟"

تقول السيدة عطيّة:

"قلنا في مقالنا العدد الماضي: هل كان الإكراه سبب انتشار الإسلام؟؟.. إن البعض يجيب على هذا السؤال بالإيجاب متخذاً من ظلم بعض الحكام والسلاطين لرعاياهم، ومنهم المسيحيون، دليلاً على هذا الإكراه الذي يقولون أنه دفع الكثير من هؤلاء الرعايا إلى اعتناق الإسلام!.. والبعض يتحدّث عن الجزية باعتبارها وسيلة إكراه دفعت المسيحيين الفقراء الذين عجزوا عن دفعها إلى اعتناق الإسلام، على حين احتفظ الأغنياء بعقيدتهم المسيحية لقدرتهم على افتدائها بالمال الجزية - ! (راجع مقالنا العدد السابق)"  {الحديث لا زال للسيدة عطيّة بما فيه العبارة السابقة بين قوسين}   

"وتتمة لمقالنا السابق: في اعتقادنا أن لذلك أوثق الارتباط بالحال الذي وصلت إليه المسيحية في ذلك التاريخ والوضع الذي آلت إليه كنيستها.. لقد بدأت المسيحية ديانة توحيدية تتسم عقائدها بالبساطة والوضوح اللذين يلبيان احتياجات الإنسان الشرقي ويعبران عن قسمة أصيلة في حضارته المتميزة.. حضارة التوحيد.. فلما امتزجت هذه المسيحية الموحدة البسيطة الواضحة بالفكر الهليني البيزنطي، فسدت عقائدها، وتغيّرت طبيعتها، وغدت غريبة عن روح الشرق الحضارية التي تميّز أهله حضارياً وعند ذلك فشلت في تلبية حاجات أهله الاعتقادية والروحية.. وفي ذلك التاريخ، وعند هذا المنعطف كان الإسلام حاضراً، تتألق البساطة والوضوح في نقاء عقيدة التوحيد فيه، فوجد فيه الإنسان الشرقي ضالته المنشودة، وبغيته التي فقدها في المسيحية التي أفسدها البيزنطيون بفكرهم الهليني، فاندفع الناس إلى التديّن بالدين التوحيدي لأنه هو المنسّق مع حضارة التوحيد التي ميزتهم عبر تاريخهم الديني والحضاري الطويل.. ويومئذ اجتذب المسجد جمهور الكنيسة فتحوّلت الكنائس إلى مساجد، وتم التحوّل العظيم لأغلب شعوب الشرق الأوسط عندما تديّنت بالإسلام!.."

 

تتابع السيدة عطيّة، "وإذا كان لا بدّ من شهادة مفكّرين مسيحيين، بل وغربيين، على هذه الحقيقة، فهذا هو المستشرق الإنكليزي أرنولد، يورد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) قول تايلور Canon Taylor   الذي يعلل فيه السر في سرعة انتشار الإسلام في آسيا وأفريقيا باستبدال أئمة اللاهوت في أفريقيا والشام بديانة المسيح عقائد ميتافيزيقية عويصة .. .. حتى لقد أصبح الناس، في الواقع، مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة. كما كانت الطبقات العليا مخنثة يشيع فيها الفساد، والطبقات الوسطى مرهقة بالضرائب، ولم يكن للعبيد أمل في حاضرهم ولا مستقبلهم، فأزال الإسلام بعون الله هذه المجموعة من الفساد والخرافات.. وبين أصول الدين التي تقول بوحدانية الله وعظمته.. ونبذ سفسطة المتنازعين في الدين.. ووهب الناس إدراكاً للحقائق الأساسية التي تقوم عليها الطبيعة البشرية.. الخ.. الخ.."

 

تتابع السيدة عطية: "كما يورد أرنولد رأي المفكر المسيحي كيتاني Caetani   الذي يعلل انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية بانتشار شعور الاستياء من السفسطة المذهبية التي جلبتها الروح الهلينية إلى اللاهوت المسيحي فلقد كانت الثقافة الهلينية من الناحية الدينية، وبالاً على الشرق الذي عرف بحبه للأفكار الواضحة البسيطة، لأنها أحالت تعاليم المسيح البسيطة إلى عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات.. فلما جاءت أنباء الوحي الجديد من الصحراء.. ترك الشرق المسيحية وارتمى في أحضان نبي العرب!.. وهكذا انتشر الإسلام دون إكراه.. بهذا شهد التاريخ وأقرّ المنصفون."   

 

وتختتم السيدة عطيّة أطروحتها بقولها: "تراثنا: ليس تاريخاً مضى.. ولا أكفان موتى!.. ولا قيوداً تشد الحاضر إلى ماضي سحيق.. وإنما هو لهب حي، وطاقة خلاقة، وروح سارية في عقل الأمة ووجدانها!.."

(نهاية الأطروحة)

******

قبل أن أبدأ بالتعليق على أطروحتك يا سيدة فاطمة، أحب أن أؤكّد لك بأنني سأتعامل معك كإنسانة صاحبة عقل كامل رغم عدم معرفتي الشخصية بك، وليس كإنسانة ناقصة عقل ودين كما ينظر إليك الدين الذي تدافعين عنه. سأتعامل معك كإنسانة وليس كلعبة كما جاء عنك في حديث "شريف". أما وإذا صدف وأن تشرّفت بمقابلتك ذات يوم، فإني لسوف أصافحك واثقاً كل الثقة بأن مصافحتي ليديك لن تفسد صلاتي أو طهارتي.

أما الآن فتعالي نتحدّث عما حشوا في ذهنك من أفكار منذ حداثتك اعتقاداً منهم أن عقلك لن يتّسع ذات يوم لأكثر مما حشوه به. ربما يصفق هؤلاء لك الآن، وهم يقرأون نتاج ما زرعوه في مخيلتك، ولكني أجزم بأن أحداً منهم ما كان ليصفّق لك لو كتبت كلمة واحدة مخالفة لذلك الزرع المبارك. إن أول كلمة كانوا سيقولونها عنك: "انظروا إلى ناقصة العقل والدين هذه التي تتحدث عن الإسلام وتفتي في شؤونه!.."

نساء كثيرات يا فاطمة تجرأن على إبداء آرائهنّ وأخريات لا زلن يفعلن، فلم يكن نصيبهنّ إلا النهش في لحومهنّ والتعريض بقدراتهنّ العقلية وبحياتهنّ الشخصية. 

أفهم من مقالتك أنك مقتنعة بما يلي: 

        ·          الإسلام دين سلام، لم يجبر أحداً على اعتناقه!

        ·          العقيدة المسيحية فسدت وتغيّرت طبيعتها مما دفع المسيحيين إلى اعتناق الإسلام!

        ·          الجزية لم تكن وسيلة إكراه دفعت المسيحيين الفقراء الذين عجزوا عن دفعها إلى اعتناق الإسلام!

        ·          الديانة المسيحية أصبحت معقدة غير توحيدية كما بدأت، فهرب منها أتباعها لأنهم وجدوا في الإسلام ديناً تتألق البساطة والوضوح في عقيدته التوحيدية..

        ·          عقائد المسيحية ميتافيزيقية عويصة أما عقائد الإسلام فبسيطة سهلة.

        ·          الجماهير المسيحية ركضت تعتنق الإسلام ثم أخذت تحوّل طوعاً كنائسها إلى مساجد

        ·          الطبقات العليا المسيحية مخنثة يشيع فيها الفساد مما جعل الطبقات الوسطى تكره المسيحية وتتحول إلى الإسلام.

        ·          حتى "العبيد لم يكن له أمل في حاضرهم ولا مستقبلهم في ظل المسيحية فأزال الإسلام هذه المجموعة من الفساد والخرافات!.."    

******

نكتة "لا إكراه في دين الإسلام":

بقولك يا سيدة فاطمة أن الإسلام لم يكره أحداً على اعتناقه، فإنك تنكرين مراحلَ مهمة من صلب التاريخ الإسلامي. 

هل تقولين لنا أن حروب الردة من ابتكار مخيلة أعداء الإسلام؟.. ألم تقم تلك الحروب لإجبار الذين نبذوا الإسلام بعد موت محمد، أم أنها كانت حروب لإقناعهم بالحسنى بأن يعودوا إلى الدين الحنيف عن طيب خاطر؟.. ألم تقم تلك الحروب تنفيذاً لأوامر "الله" في القرآن: "فإن تولَّوا (أي أعرَضوا وابتعدوا عن الإسلام) فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً." (سورة النساء 4 : 89)

 

أن تقولي يا سيدة فاطمة بأن الإسلام لم يجبر أحداً على اعتناقه، فكأنك تنكرين كل آيات القرآن التي تدعو إلى قتال الذين لا يؤمنون بمحمد ومنها على سبيل المثال: 

"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله: كالخمر ـ ولا يدينون دين الحق: أي الثــابت الناســخ لغيره من الأديان وهو دين الإســلام ـ من الذين أوتوا الكتــاب: أي المسيحيين واليهود ـ حتى يعطوا الجزيـــة عن يدٍ وهم صاغرون: أي أذلاء منقادون لحكم الإســلام." التوبة 9 : 29 

 

أم لعلّك تفسرين هذه الآية بأنها تطلب من المسلمين أن يفتحوا أذرعهم كلما قابلوا مسيحياً أو يهودياً ليضموه إلى صدورهم ويقبّلوه على خديه ويهمسوا في إذنيه قائلين له: "تعال يا حبيبي ويا قرة عيني إلى دين الإسلام دين التسامح والمحبة؟.. تعال يا أخي تعال!.. وإذا لم ترضَ أن تدخل بدين الإسلام فهذا  شأنك وعليك السلام!.." إذا كان هذا هو ما تفهمينه من هذه الآية، فآنذاك ليس أمامنا إلا نعيد الرأي، ولا مؤاخذة، في موضوع كمال عقلك.. على الأقل من الناحية الدينية.

   

يا سيدة فاطمة، أتحدى أن يُسْـقِط الإسلامُ حكم الردّة ويسمح بحرية التبشير كما يسمح الغرب بهذه الحرية للمسلمين. لا بل أجزم بأن لو كان لك الحرية وأنت صغيرة، لما كنتِ اليوم على دين الإسلام. كذلك، لو كانت لأمك الحرية أيضاً حين كانت صغيرة، لما كنتِ قد ولدتِ منها على دين الإسلام.

 

فساد العقيدة المسيحية وميتافيزقيتها العويصة:

تقولين بأن العقيدة المسيحية فسدت وتغيّرت طبيعتها مما أدّى إلى دفع المسيحيين إلى اعتناق الإسلام؟..

يا عزيزتي فاطمة، العقائد لا يطرأ عليها فساد أو تحسّن. عقول الناس هي التي يطرأ عليها الفساد أو التحسّن. حبذا لو أعطيتِني مرجعاً واحداً فقط في الإنجيل يمكن أن تصفيه بالفساد. هل الفساد في تعليم المسيح للناس بأن يحبوا أعداءهم، ويباركوا مضطهديهم، ويصلوا لأجل مبغضيهم؟..

"بذمّتــك".. ألا تعتقدين أنك تكررين كالببغاء ما تعلمتِه عن المسيحية من الصغر؟.. هل حقاً قرأتِ الإنجيل قبل أن تصفيه بالفساد.   

أما إذا كنت تقصدين بالفساد الجانب اللاهوتي من المبادئ المسيحية المخالفة لنظريات الإسلام التي أخذ محمد بعضها عن اليهودية والمسيحية بشكل مشوّش، فإنك قد وفّرت علي عناء البحث وراء اعتقادك بفسادها حين وصفتِ هذه المبادئ بقولك أنها عويصة. إني أعجَبُ لوصفك لمبدأً من المبادئ بأنه فاسد لا لشيء إلا لأنه عويص عليك. ألم تكن عملية واحد زائد واحد عويصة عليك ايضاً قبل أن تشرحها لك معلمة المدرسة حين كنت صغيرةً؟ ألم يتبخّر عَوَصُها بعد أن بذلتِ بعض الجهد في تعلّم الحساب؟.. لا أخفي عليك يا عزيزتي أنني أنا أيضاً وجدت في بعض المسائل الدينية الإسلامية عَوَصاً  شديداً، ولكنني حاولت أن أنظر إليها بعقل منفتح كل الانفتاح لأن غايتي من دراسة الإسلام حين بدأت دراسته، لم تكن لتفنيده ومعاداته. لقد بدأت بدراسة الإسلام خلال مرحلة من حياتي كنت متعطشاً فيها إلى المعرفة والمقارنة. درسته وكان أهلي ينظرون بعين القلق إلى دراستي وإلى مداومتي على الاستماع إلى تلاوة القرآن صباحاً ومساء وخلال النهار. لا بل اخترت أن أدرس الدين الإسلامي مع رفاقي في المرحلة الثانوية عوضاً عن دراسة الدين المسيحي وكنت متفوقاً على الجميع ليس في الفقه فقط بل في التجويد. كنت أيضاً أتردد على المسجد الأموي لأستمع وبعض الشبان المسلمين إلى دروس في الفقه يلقيها أحد الشيوخ. فتحت دماغي ودرست بموضوعية حتى لا أقول في المستقبل أن الإسلام دين فاسد لا لشيء إلا لأنه عويص. أما الآن، فإذا قلتُ عن بعض تعاليمه بأنها فاسدة فإنني أستطيع أن أقول ذلك وأنا على ثقة مما أقول بعد أربعين سنة من دراسة مستمرة.

        

البساطة والوضوح في العقيدة الإسلامية:

ما يحويه الإسلام يا سيدة فاطمة من متناقضات وخرافات وناسخ ومنسوخ وأحاديث لا أول لها ولا آخر، تجعله متاهة لطالب المعرفة لا يعرف منها أولاً من آخر. كل آية من آيات القرآن وراءها مئة قصة يرويها أبو هريرة بشكل يختلف عن مسلم أو أنس أو عبد الله أو مسعود أو غيرهم، لينتهي الشارح المعلق عليها أخيراً بقوله "والله أعلم"!..

أي وضوح تتحدثين عنه وأنت تقرأين القرآن وتحاولين أن تفهمي الآيات العويصة التي تبدأ بها بعض سوره، وإذا ذهبت إلى شيخك تستنجدين به ليحل لك طلاسمها فلا تسمعين منه جواباً إلاّ قوله: "الله أعلم بمراده بذلك!.." 

أين هو الوضوح في القرآن في وصفه للأرض بأنها مسطحة وفي تأكيد الإمامين "الجلالين" لكونها مسطحة بقولهما: "وقوله سُطحت، ظاهرٌ بأن الأرض سطح، وعليه علماء الشرع، لا كرة، كما قال أهل الهيئة!.." هل تقولين لنا أن تعاليم القرآن بهذا الخصوص لم تصبح واضحة لمفسّري اليوم إلا بعد أن ثبتت كروية الأرض؟.. 

حتى صورتك التي تزيّن مقالتك يا فاطمة لا زالت غير واضحة وموضع خلاف بين أئمة الفقه الإسلامي. بعضهم يراها عورة لا يجوز أن يراها أحد على هذا الشكل الذي تظهرين به. وبعضهم الآخر يفتي بالاكتفاء بتغطية شعرك. ولكن، ولأنك أنت نفسك لست متأكدة من وضوح هذه التعاليم، فيبدو أنك قد قررت عصيان كلا الطرفين بالظهور سافرة إلى أن يخلق الله للإسلام فقيهاً يوضح ما غمض من تعاليمه بخصوص عورتك.

 

الجماهير المسيحية هي التي حوّلت كنائسها إلى مساجد!:

لا أعرف يا فاطمة إذا كنت تضحكين على نفسك أو على قرائك. أنصحك بقراءة مقالتي "تزوير التاريخ".

أنت لا تكذبين على القارئ مسلماً كان أو مسيحياً. أنت تكذبين على نفسك والكذب على النفس مرض نفسي يعاني منه المظلوم والمحروم والضعيف.

لقد جرت عادة الصينيين على وضع أقدام الفتيات الصغيرات في قوالب خاصة لإبقائها صغيرة إرضاء للرجل الصيني الذي لا يرى جمالاً في الأقدام الكبيرة. تصوّري مبلغ الألم الذي كانت تعاني منه تلك الفتيات وهن صغيرات؟.. رغم ذلك فقد كبرن ليصبحن قانعات كل القناعة بجمال أقدامهنّ الصغيرة وكمالها. لا بل كبرن لتتباهى الواحدة منهنّ على الأخرى مشيدة بذويها الذين عملوا كل ما استطاعوا لإبقاء قدميها أصغر من أقدام الأخريات. هنا يحضرني قولٌ لطاغور جاء فيه: " يقولون أن أفكار المرأة صغيرة متعوجة، ولكن ذلك ليس ذنبها. ألا ترى أقدام الصينيات صغيرة؟.. فمــا الذي صغَّرها غير الضغط عليها منذ الصغر؟.." وفي قول هذا الفيلسوف، وما شرحته لك عن عملية تحجيم أقدام تلك الفتيات، أفضل جواب على وضعك النفسي يا فاطمة!.. لقد سجن الإسلام عقلك في زنزانة صغيرة ضيقة كبُرتِ في حدودها، وحين كَبُرتِ اصبح مستحيلاً عليك تخطّي تلك الحدود التي نشأتِ وراءها. لقد كبرت لتدافعي عن تلك الحدود وعن ظالمك وقاتلك. هذا هو بالضبط ما تفعلينه الآن بكذبك على نفسك قبل الآخرين.

 

فساد الطبقات العليا دفع المسيحيين إلى الإسلام:

حتى في هذه الأيام يعاني المسيحيون من فساد الطبقات العليا. المجتمعات الغربية التي يُطلق عليها مجازاً اسم المجتمعات المسيحية تعاني من فساد ما بعده فساد. ولكن، عجباً، لماذا لا نرى أيضاً تهافتاً من المسيحيين على اعتناق دين الإسلام. ألعلّك تقولين لنا أن الطبقات العليا، سواء في تاريخ الإسلام أو في حاضره، نزيهة عن الفساد والتخنث؟.. الفساد لم يخلُ في الماضي منه ولا يخلو منه اليوم مجتمعٌ من المجتمعات. اقرأي التاريخ يا فاطمة وتعلمي وتنوّري كي لا تستمري على ظلم نفسك. اقرأي عن الفساد والتخنث والجرائم في قصور الخلفاء. عمن أحدّثك يا عزيزتي؟.. هل أحدثك عن المتوكل الذي كان مؤنثاُ وَضِعاُ أم عن المعتز الذي كان مخنثاً أم عن المأمون الذي قتل أخاه أو المنتصر الذي قتل أباه أو موسى بن المهدي الذي سمّ أمّه أم المعتضد الذي سمّ عمّه أم عن الخليفة يزيد المدمن على اللهو والخمرة مربي الفهود وهادم الكعبة وناهب المدينة وصاحب يوم الحرة، أم عن أبيه معاوية قاتل الصحابة والتابعين، أم عن جدته التي عُرفت بأنها آكلة أكباد الشهداء الطاهرين ؟.. هل أحدثك عن الخلفاء الذين كانوا يبذرون أموال الشعب على حفلات المجون وعلى العاهرات والشعراء الذين كانوا يضحكون على ذقونهم بقصائد المدح. على الأقل يا فاطمة، الفساد في المجتمع المسيحي لا يعكس تعاليم المسيحية، وفهمك كفاية!!..

 

الجزية لم تكن وسيلة إكراه:

معك الحق يا سيدة. الغاية من الجزية لم تكن إكراه المسيحيين على اعتناق الإسلام فقد كان المسلمون الغزاة يفضلون أموال الجزية على نشر الدين. ولكنها بالتأكيد كانت عبئاً على الفقراء من المسيحيين دفعت الكثيرين منهم إلى اعتناق الإسلام للخلاص منها. الجزية لم تكن وحدها العبء الذي كان يرزح تحته المسيحيون بل كان هناك عوامل كثيرة أخرى دفعت فقراءهم وأغنياءهم على السواء إما لدخول الإسلام كارهين أو للهرب والاعتصام في الجبال بعيداً عن الاحتكاك المباشر بالمسلمين. لا أعرف ماذا كان دفاعك عن الجزية في الجزء الأول من مقالتك ولكن لا شكّ بأنك كررت كالببغاء القول بأنها كانت مبلغاً من المال يدفعونه لقاء حمايتهم وتوفير الأمن لهم. ماذا تقولين لو اقترحنا على الحكومة الأمريكية أن تجبي الجزية من المسلمين هنا في أمريكا بحجة توفير الحماية لهم؟.. الحق أقول لك أن المسلمين ينعمون بالحماية والراحة والحرية في هذا البلد أكثر مما يحلمون بالحصول عليه في أي بلد إسلامي.

   

أمل العبيد بالإسلام هو كالمستجير من الرمضاء بالنار:

استعباد الإنسان لأخيه الإنسان أمرٌ مؤسفٌ مرّت به كل المجتمعات الإنسانية في تاريخها القديم والحديث وبأشكال عديدة لا زال بعضها موجوداً حتى اليوم. لكن أن تقولي يا سيدة فاطمة بأن العبيد لم  يكن لهم أمل في حاضرهم ولا في مستقبلهم في ظل المسيحية، فاسمحي لي أن أقول بأنك الآن قد غرقت في السخف حتى أذنيك.

صحيح أن المسيحيين استعبدوا وتاجروا بالعبيد ولكن من السخف أن تتهمي المسيحية بأية علاقة قريبة أو بعيدة بالعبودية. لو فعلتِ ذلك فكأنما تتهمين المسيحية بالتشجيع على العهر كل مرة تشاهدين فيها عاهرة على الطريق تزيّن صدرها بصليب. أما ما هو اسخف من ذلك فهو أن تجعلي الإسلام أملاً للعبيد للخلاص من عبوديتهم. محمد نفسه، كان يبيع ويشتري العبيد كما كان لكل من أزواجه العشرات منهم. لا بل كان لهذا "الفحل الذي لا يُقدع أنفه" حسب وصف معاوية بن سفيان له، العديد من الإماء والسراري اللواتي كن تحت إمرته جاهزات لتلبية رغباته الجنسية ساعة يشاء، رغم العدد الكبير من الزوجات اللواتي كنّ في بيته.

 

قلتِ يا سيدة فاطمة عن المسيحيين بأنهم أصبحوا "في الواقع، مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة.." ولا يسعني هنا إلا أن أؤيّدك فيما قلت رغم أنك لم تكوني أمينة في عبارتك. المسيحيون لا يعبدون الشهداء والقديسين والملائكة بل يكرمونهم. قد يبلغ التكريم ببعض البسطاء إلى مرحلة قريبة من العبادة قولاً وفعلاً ولكن هذا، وأعود فأقول، لا يعكس تعاليم المسيحية الواضحة كل الوضوح في هذا الشأن. وفي هذا، قال المسيح: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (متى 4 : 10). ليس كل ما يقوم به المسيحيون يعكس تعاليم المسيح التي لا زالت نقية بسيطة وواضحة لا حاجة لها إلى آلاف المفسّرين يبحثون في أسباب "نزول" كل كلمة من كلماتها. هنا أودّ أن أسألك، ماذا تقولين عن توقير المسلمين لقطعة حجر سوداء لا حول لها ولا قوة بلغ توقيرهم لها حدّ عبادتها؟.. ماذا تقولين لي عن آلاف المزارات وقبور الأولياء التي يجتمع حولها المسلمون والمسلمات بنذورهم يقبلون جدرانها ويطلبون من أصحابها عونهم على الشفاء أو الإنجاب أو كشف السر والحجاب؟.. ألا زلت مصممة على القول بأن تاريخك يا سيدة، ليس "أكفان موتى ولا قيوداً تشدّ حاضرك إلى ماضٍ سحيق؟.."    

 

أخيراً لا بدّ لي من كلمة صغيرة أنهي بها هذا الرد السريع الموجز. إذا كانت العقيدة المسيحية التي بين أيدينا اليوم هي ما فسد منها بعد أن تلاعبت بها أيدي البشر، فمرحى بهذا الفساد الذي يعلّم على المحبة والتواضع والعفاف والسلام.. وبئس العقيدة التي تشجّع على الحرب والكراهية وتحتقر النساء وتعلّم أتباعها الترفّع على شعوب العالم وبغضهم.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط