بسام درويش / Feb 16, 2006

هل منكم من يشرح لي معنى كلمة "كرامة"؟..

 

لا أريد تعريفاً لهذه الكلمة من لسان العرب أو تاج العروس، أو أساس البلاغة أو المحيط في اللغة، ولا من الصحاح أو مختار الصحاح أو العباب الزاخر أو غير ذلك من معاجم اللغة العربية..

أتمنى لو يشرح لي معناها واحد من هؤلاء الذين لا يفتأون يكررونها.

*********

لم أسمع هذه الكلمة تتردد على لسان شعب من الشعوب كما هو الحال مع الشعب العربي.

أسمعها دائماً من القادة السياسيين يكررونها في خطبهم، ومن الزعماء الروحيين يكررونها في مواعظهم، ومن الأدباء في مقالاتهم وكتبهم، ومن الشعراء في قصائدهم، ومن المطربين في أغانيهم. وأسمعها من عامة الناس يكررونها وراء هؤلاء كالببغاوات.

يحدثونك عن كرامة الأمة، وكرامة الوطن، وكرامة الدين، وكرامة الشعب، وكرامة العروبة، وكرامة الإنسان العربي.

تسأل السياسي تعريفاً لهذه الكلمة، فيلقي عليك خطبة طنانةً أخرى عن إسرائيل والأرض السليبة. وتسأل رجل الدين عنها، فينقلك بعظة أخرى ألف سنة او يزيد عبر التاريخ الغابر، يبين لك جذورها في آيات الوحي وكتب الفقه. وتسأل الأديب فيدبّج لك مقالة مستشهداً بآراء سيبويه والرازي والزمخشري والجوهري والصاغاني وغيرهم. وتسأل الشاعر فينزل سؤالك عليه وحياً جديداً لملحمة شعرية. وتسأل المغنّي فيتغنى لك بالوادي والجبل والفل والمنتور وصوت الشحرور وبعصافير لم تسمع بأسمائها من قبل.

 

وتسأل الإنسان العربي فيصمت وينظر يمنة ويساراً، يفتح فمه لينطق ثم يغلقه ثم يفتحه ثم يغلقه وأخيراً يفضّل الحفاظ على ما تبقّى من "كرامته"، فيكرر لك ما قاله الخطيب السياسي ورجل الدين والشاعر والأديب والمغني.  تؤكّد له بأن ليس هناك من يسمعه، مشجّعاً إيّاه على التعبير عن رأيه، فيعيد النظر يمنة ويساراً ثم يمنة ويساراً، ثم يختزل لك تعريف الكرامة بعبارة صغيرة.. أصغر في قدرها من مقدار "الكرامة" التي تبقّت له، ويقول: "مستورة يا أخ.. مستورة!.."

**********

تسأل إنساناً غربيــاً عن تعريفٍ لكلمة الكرامة ـ بعد أن تبحث لها عن ترجمة معقولة في قواميس لغته ـ فيستغرب سؤالك ويجيبك بسؤال آخر مستفسراً عما إذا كان أحدٌ ما قد أساء إليك حتى خطر بفكرك أن تسأل هذا السؤال!!

 

كرامة الإنسان في الغرب ليست أمراً يتحدث عنها السياسيون ولا رجال الدين ولا الأدباء ولا الشعراء ولا المطربون، لا بل هي لا تخطر على فكر الفرد. إنها أمرٌ مفروعٌ منه!.. هل يعني هذا أنّ المجتمعَ الغربي ـ كما أثق بأن هناك من سوف يتذاكى ويقول ـ هو مجتمعٌ بلا كرامة أو أنه يجهل معنى الكرامة؟!!

كرامة الإنسان في الغرب هي الحجر الأساس الذي يُبنى عليه الوطن والمجتمع. القوانين كلها تتمحور حول الإنسان لأن الإنسان هو صانع القوانين، وهل يقبل الإنسان بقوانين تحد من كرامته؟..

الإنسان العربي لم يشارك في وضع القوانين التي "يعيش" في ظلها، ولذلك، فإنّ أيّ إشاراتٍ إلى حقوقِ الإنسان فيها هي لمصلحة واضعها أو واضعيها.

القوانين العربية لا تختلف عن القرآن من حيث ناسخِهِ ومنسوخه، لا بل إن أكثرها مستلهم منه. إنها تعطي بيدٍ وتسلب باليد الأخرى.

***********

على مدى قرون طويلة، تكالب الدين ـ متمثلاً بمشعوذيه ـ مع الحاكم، على إقناع الإنسان العربي بأن كرامته تكمن في كرامة الدين والوطن والعشيرة والعائلة، لا بل حتى في فِرْجِ امرأته وأخته وبنته وبنات أقربائه.

نفخوهُ فخراً بكل هذه المقدسات وجنّدوه للدفاع عنها. أقنعوه بأن أي عملٍ يسيء إليها ـ سواء قام به هو نفسه أو إنسانٌ آخر ـ سيعني حتماً هدرا لكرامته وعليه بالتالي أن ينتفض ويثأر لها.

 

لذلك، ليس غريبا أن نجد هذا الإنسان الذي أصبح مضحكة العالم في عجزه عن الانتفاض لأبسط حقوقه، يتحوّل بقدرةِ قادرٍ إلى بطلٍ مقدامٍ في دفاعه عن كراماتٍ كانت هي أساساً السبب في فقدانه لكرامته.

 

لننظر على سبيل المثال إلى هذه المظاهرات الصاخبة العنيفة التي عمّت ولا تزال تعمّ أرجاء العالم العربي والإسلامي، احتجاجا على رسوم كاريكاتورية نشرتها صحيفة دانمركية.

متى سمعنا عن جماهير عربية تخرج إلى الشوارع لتطالب حاكماً بالاستقالة أو على الأقل بالاعتذار عن إهاناته؟!..

لم يعرف العرب في تاريخهم معنى الثورة على حاكم هدر كرامتهم.

ألف وأربعمائة سنة تقريبا مضت منذ أن خطب فيهم الحجاج بن يوسف قائلاً: "إني لأرى أرؤساً قد اينعت وحان قطافها.." ولا زال العرب حتى اليوم يتلمسون رقابهم ويخشون رفع رؤوسهم! 

 

لننظر مثلاً إلى المرأة الأفغانية التي كانت تعيش ذليلة مهانة تحت حكم الشريعة الإسلامية الحقيقية. لننظر إليها كيف كانت تفترش الأرصفة تستجدي قوتها أو لتبيع نفسها لقاء لقمة عيش. لننظر إليها كيف سيقت إلى وسط ملعب رياضي كي تُعدم رميا بالرصاص أمام الجماهير بتهمة مخالفتها لشريعة الدين. ولننظر إليها اليوم كيف خرجت إلى الشوارع في كابول تطالب بالثأر من الرسام الذي أهان كرامة الرسول... الرسول نفسه الذي تسببت تعاليمه في هدر كرامتها؟!

************

انتصرتْ مؤخراً محكمةٌ فرنسية لحرية الصحافة برفضها دعوى اقامتها منظمات اسلامية تطالب بمنع صحيفة من نشر أو إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية التي قيل إنها مسيئة للإسلام. رحب رئيس تحرير الصحيفة بقرار المحكمة قائلا: "إن انتقاد الاديان امر شرعي في دولة يحكمها القانون وينبغي ان يستمر الامر كذلك." ولكن اتحاد المنظمات الاسلامية في فرنسا قال إنه لاينبغي ان يسمح لاحد باهانة المعتقدات، وقال ناطقٌ باسمها: "ان الذي يدافع عن كرامة دينه ليس راديكاليا بالضرورة."

 

كرامة الدين؟!!

 

أعود هنا إلى مطلع حديثي لأكرر سؤالي: هل من يشرح لي معنى الكرامة.. وبالذات كرامة الدين؟!!

طرحت هذا السؤال على العديد من الناس من مختلف الأجناس والأديان، وكان القاسم المشترك بين جميع الأجوبة أن حرية الإنسان الشخصية هي فوق كل شيء بما في ذلك الأديان. وحدهم المسلمون الذين كان القاسم المشترك بين أجوبتهم أن كرامة الدين هي فوق كل شيء بما في ذلك حرية الإنسان. حرية الإنسان عند المسلم تتوقف، تتبخر، تنتهي، عند كرامة دينه!

جواب واحد من قارئ افترضت بأن يلقى قبولاً من المسلمين، أنقله بتصرّف بسيط:

ـ كرامة الدين هي في نبل مقاصده وسمو شرائعه، وهو بها عزيزٌ حصينٌ فلا يؤثر فيه ذمٌّ ولا قدح ولا تشهير. وكرامة الإنسان هي في أمور كثيرة كحريته واستقلاله وإبداعه وعدله وكرمه وعفته واتزانه وسعة علمه وغير ذلك. وعندما لا يكون الدين نبيلاً سامياً في أهدافه وغاياته، يكون حاله كحال الانسان الذي يفقد بتصرفاته عناصر "الكرامة" أو عنصراً منها فيصبح عرضة للطعن والتشهير والتحقير.

حملت هذا الجواب "الاقتراح" إلى مسلمين لا زال بيني وبينهم تواصلٌ ـ تتطلبه مصالح العمل ـ على الرغم مما تسببه لهم آرائي من إزعاج شديد. وكانت ردّة الفعل هي نفسها وكأنها وحيٌ منزّلٌ منقوشٌ على عقلٍ من فولاذ صلبٍ: حرية الإنسان تقف عند كرامة المقدسات!..

************ 

ترى ماذا قدّم الإسلام لهذا الإنسان الذي شاء له حظه أن يولد عليه، من دواعي فخرٍ أو مقاصد نبيلة أو شرائع سامية توجب عليه الاستماتة دفاعاً عنها؟

وإذا افترضنا أن لا شأن لنا بما قدّمه الإسلام لأتباعه، وأن لهم الحق كل الحقّ في أن يعتقدوا بحصانة رموزه من المس والانتقاد، فماذا يُلزِمُ غيرَ المسلمِ بأن لا يتعرّض لرموز الإسلام وهو يرى ما فيها من اعتداء صارخٍ على حريته ومساسٍ بشعٍ بكرامته؟!

لي صديق يكرر على مسامعي ما قاله له والده: "الإسلام ريحٌ يطفئ سراج العقل!.."

إنه حقاً كذلك.. وهل هناك من عقلٍ نشطٍ حيٍّ يقبل بأن يأمر صاحبه بالدفاع عن ظالِمِه؟.. 

===============

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط