بسام درويش / Nov 05, 1996

المقالات التي تنشر في الصحف العربية سواء كانت في المهجر أو الشرق الأوسط، والتي تبث سموم الكراهية المبنية على التعصب الديني والعرقي، هي أكثر من أن تُحصى. وهي لكثرتها ولضيق أفق كتابها، غالباً ما يصبح الرد عليها ليس صعباً فقط بل أيضاً مضيعة للوقت، لأن الرد يجلب الحوارَ، والحوارُ مع أصحاب الفكر الضيق هو ما يعرف بالحوار مع الطرشان، وليس في الحوار مع الطرشان من فائدة لأي من الطرفين.

 

رغم ذلك، فإن من بعض هذه المقالات ما لا يمكن تجاهله بسبب ما تتضمنه من استهزاء بذكاء القارئ وأيضاً لما تنطوي عليه من خطورة لا بد للمراقب من البحث فيها وتسليط الأضواء عليها، وبالتالي تعرية أصحابها والذين يشجعونهم ويدعمونهم من وراء الستار. إضافة إلى ذلك، فإن عدم الرد أحياناً يدفع أولئك إلى الاعتقاد بذكائهم وبصحة منطقهم الأعوج وبالتالي يشجعهم على التمادي في الكذب التضليل.

 

من بين هذه المقالات ما نشرته صحيفة الوطن الكويتية تحت عنوان "دور أميركا.. ونفق الأقصى !" للكاتب حمد جاسم السعيد*.

 

يقول الكاتب أن النفق الذي افتتحته إسرائيل مؤخراً يشكل تهديداً لوجود وبناء أسس المسجد الأقصى "مما يستلزم نهوضاً إسلامياً وعربياً وحتى دولياً سريعاً وحازماً يكون كفيلاً بقطع دابر مثل هذه الانتهاكات الصارخة على المقدسات الإسلامية، وإلاّ صارت هذه الاعتداءات حقاً مكتسباً للجميع. ومع أن ديننا الحنيف ينهي عن التعرض لدور العبادة بشتى أنواعها وتبعيتها (!) إلا أننا لا نضمن وجود البعض منا ممن تأخذه الحمية والغيرة للدفاع عن المقدسات الإسلامية بأن يقدم على التعرّض للمقدسات الدينية الأخرى في وطننا العربي وما أكثرها!!.. إن العنف لا يولّد غير العنف، والجزاء من جنس العمل."

 

ليس النفق هو موضوع حديثي في ردي على السيد حمد جاسم السعيد فقد تحدث عنه آخرون بما فيـه الكفاية ولا زالوا يتحدثون. ما يهمني من مقال السيد السعيد هو خطورة الدعوة التي تضمنتها عباراته التي اقتطفتها وما حوته عبارات أخرى، سآتي على ذكرها، من نفاق وغوغائية وتناقض. 

 

يقول الكاتب أن دينه الحنيف "ينهي عن التعرّض لدور العبادة بشتى أنواعها وتبعيتها"، ولكنه بعد أن يبرّئ الدين الإسلامي من التشجيع على القيام بأعمال كهذه، يحاول التظاهر بأنه هو أيضاً ليس من الذين يمكن لهم أن يقوموا بالتعرّض للمقدسات الدينية الأخرى، إنما لا يضمن وجود "البعض منا، ممن تأخذه الحمية والغيرة للدفاع عن المقدسات الإسلامية، بأن يقدم على التعرض للمقدسات الدينية الأخرى في وطننا العربي."

 

بعد ذلك تبدأ أفكار الكاتب المتطرفة في الظهور خطوة خطوة، إذ يضيف إلى عبارة "المقدسات الدينية الأخرى في وطننا العربي كلمة "وما أكثرها!!" ( مع نقطتي التعجب ) ثم يبدأ دعوته المتطرفة وتشجيعه لهؤلاء "البعض منا" على "رد العنف بالعنف"، محرضاً إياهم على القيام بالتعرض للمقدسات غير الإسلامية بقوله لهم إن "الجزاء من جنس العمل". أي أن جزاء التعرض على المقدسات الإسلامية يجب أن يكون تعرضاً للمقدسات الدينية الأخرى في الوطن العربي.. وما أكثرها!!

 

وطبعاً ، لم يحدد الكاتب نوعية المقدسات الدينية الأخرى الكثيرة في الوطن العربي التي يشجع الغيورين على ضربها، ولكن ذلك لا يخفى على القارئ اللبيب. فالمقدسات غير الإسلامية إما يهودية أو مسيحية، ومقدسات اليهود في الوطن العربي لا يمكن أن تقع تحت تصنيف "وما أكثرها!!" لأنها في الحقيقة  "ما أقلّها!!"، إذ تبخّر أكثرها بالإضافة إلى ما تبخّر من مقدسات لا تعد ولا تحصى للمسيحيين في بلاد الشرق الأوسط وكل البلاد الأخرى التي خضعت للفتوحات الإسلامية.  كنيسة القيامة نفسها في القدس التي يتباكى العرب عليها الآن ويدّعون أنها آمن بين أيدهم مما هي عليه بين أيدي اليهود، لم تنجُ من هذا "التعرّض" حين قام الحاكم بأمره بهدمها مع كنائس كثيرة أخرى من بينها كنيسة "السيدة" في دمشق. ومن هذا المنطلق فإن عين الكاتب المحرّض هي على ما تبقى من مقدسات مسيحية التي تشملها عبارته "وما أكثرها". 

 

ولا شك في أن الكاتب على كل حال يعني بالمقدسات الدينية الأخرى، مقدسات المسيحيين بالإضافة إلى العدد القليل من مقدسات اليهود، لأن الولايات المتحدة في نظره هي مسؤولة أيضاً عن الاعتداء على المقدسات الإسلامية، وبما أن الولايات المتحدة دولة مسيحية فإن مبدأ "الجزاء من جنس العمل" يجب أن يطبق عليها كما يطبق على إسرائيل. 

 

إن دعوة كهذه لتعبّر كل التعبير عن انفعالية العرب بعد كل حدث من الأحداث وتؤكد نزعتهم إلى الثأر المعمم التي عرفوا بها على مر العصور. وكان يجدر بالسيد السعيد قبل أن يطلع على الناس بآرائه المتطرفة، أن يفكر فيما يحصل لو طبق العالم كله، نظرية  "الجزاء من جنس العمل" والتي يحلل فيها بذلك لليهود والمسيحيين أيضاً أن يتعرّضوا لكلّ المقدسات الإسلامية الموجودة في بلادهم! 

 

في ختام مقاله يعبّر الكاتب عن التناقض بين ما يطالب به ويسعى إليه ظاهراً من جهة، وبين ما يتمناه ويؤمن به باطناً من جهة أخرى، إذ أنه يطالب إسرائيل بتنفيذ اتفاقات السلم مع العرب ولكنه في الوقت نفسه يؤكد ما يؤمن به من معتقدات دينية تقول "أن القدس لن تعود حرة أبية إلاّ عبر حرب بين المسلمين واليهود كما بشر بذلك الفرقان والأحاديث النبوية الشريفة، وإلى أن يتم وعد الله بنصر مبين فما على العرب والمسلمين إلاّ أن يقفوا وقفة رجل واحد في وجه من يتعرّض لمقدساتهم". ومن الواضح أن الكاتب هنا يشير إلى ما تقوله الأحاديث النبوية: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر (الذي) وراءه اليهودي يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله." أو الحديث الآخر القائل: "قاتل الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب." أو إلى ما يدعو إليه القرآن من حرب مع اليهود والمسيحيين لا تنتهي إلاّ بهزيمتهم وفرض الجزية عليهم وهم صاغرون، أي أذلاّء منقادون لحكم الإسلام: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. التوبة 29 ). وهنا نسأل الكاتب، إذا كان هو حقاً يؤمن كل الإيمان بهذه البشارات فكيف يريد لليهود أو لغيرهم إذن أن يصدّقوا بحسن نية المسلمين في سعيهم للسلام ونبذهم للعنف؟

 

لقد حوى مقال السيد حمد جاسم السعيد الكثير من المغالطات والادعاءات والتهويشات يصعب الرد عليها كلها دفعة واحدة، ولكني أنهي ردي بالتعليق على بعض ما ورد فيه من عبارات أخرى. ففي خضم حديثه عن الولايات المتحدة، يقول الكاتب "ومع أننا نكنّ للولايات المتحدة الأميركية بعض التقدير لدورها الريادي في تحرير دولة الكويت.."، ثم يقول في مكان آخر أنه أصبح يخال "الولايات المتحدة ذنباً لإسرائيل التي تحمي المصالح الإستراتيجية في المنطقة.." وكأني به قد أراد القول، أنه إذا كان يكنَ بعض التقدير للذنب فإنه لا بد يكنّ أعظم التقدير  لصاحبة الذنب، أي إسرائيل، وبالتالي لليهود الذين وصفهم أيضاً " بأحفاد القردة والخنازير!" وهل للذنب أن يستطيع القيام بأمر إذا لم يحركه الدماغ؟

 

وقد أخطأ الكاتب حين قال أن "الولايات المتحدة الأميركية التي أسست الدولة اليهودية على الأراضي الإسلامية العربية الفلسطينية في الأربعينات.." فجاء قوله معبراً عن جهله بالتاريخ أو عن تجاهله به، لأن الولايات المتحدة لم تكن الدولة التي "أسست" إسرائيل، هذا إذا صح التعبير، إنما كانت بريطانيا التي أعطت اليهود ما يعرف بوعد بلفور، وبعد ذلك كان الاتحاد السوفييتي أول دولة في العالم تعترف رسمياً بالدولة العبرية حيث كافأه العرب فيما بعد بجعله الصديق والحليف الأول. ولا بد من الإشارة هنا إلى مساهمة العرب أنفسهم في تأسيس دولة إسرائيل بخياناتهم وصفقات الأسلحة الفاسدة التي أثروا من ورائها وبتفرقهم واتّباعهم سياسة التهويش والخطابات والغناء المسلّح أو كفاح الأناشيد الوطنية من وراء ميكروفونات إذاعاتهم. 

 

أمر آخر لا بد من التعليق عليه وهو أن الكاتب يدعو العرب والمسلمين أن يقفوا وقفة رجل واحد في وجه من يتعرّض لمقدساتهم. وهنا يبرز السؤال التالي: من هم العرب الذين يقصدهم الكاتب هنا؟ ألعلّه لم يسمع أن هناك ملايين من العرب يدينون بالمسيحية؟ وهل تراه يعتقد أن هؤلاء المسيحيين العرب سيسارعون إلى تأييد دعوته وتقديم العون إلى أولئك الذين يحضّهم على الاعتداء على مقدساتهم؟ أليس من الأفضل أن يتوجه الكاتب بدعوته تلك إلى المسلمين فقط دون ذكر للعرب؟

                                                      

(مقالة السيد حمد جاسم السعيد نشرت في صحيفة الوطن الكويتية تحت عنوان: "دور أميركا.. ونفق الأقصى 3 تشرين الأول 1996. نشر الرد في صحيفة بيروت تايمز في 5 أكتوبر 1996 يعاد نشره هنا مع تنقيح بسيط)

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط