هشام محمد / Jan 19, 2007

ـ 1 ـ

وجد المؤرخون المسلمون في شخصية ابن سبأ حلاً سحرياً لتجنب مواجهة مأزق الإدانة التاريخية لصحابة النبي محمد الملوثة أيديهم بشكل أو بآخر بما اصطلح على تسميته بالفتنة الكبرى.  لقد لعبت هذه الشخصية الأسطورية والمحفوفة بالغموض دور مانع الصواعق لامتصاص لعنات المسلمين على من تسبب في فتق صفوف الأمة وخرق سفينتها.  وإذا كان يسوع في العقيدة المسيحية قد افتدى البشر من على الصليب فإن ابن سبأ مارس شيئاً من هذا الدور وإن كان على نحو مقلوب، فعلقت به كل رزايا ومثالب الطوبائيين من الصحب الكريم.  لقد صورت المؤلفات الإسلامية ابن سبأ يهودياً وأسوداً (لاحظ ثنائية الازدراء والتعصب الديني والعرقي هنا) كما يصور المخيال الشيعي يزيد بن معاوية شيطاناً مريعاً.  وفوق ذلك، صورته رحالاً  يطوي المسافات، ويجوب الآفاق والأمصار، وكأنها تستعير ولو من طرف خفي بمؤهلات شيطانيةً تؤهله لقهر العوائق المكانية والزمنية من أجل بث أسباب التشرذم والتباغض.  وكما ينتصر الشر أحياناً، فقد نجح ابن سبأ لوحده فقط، أكرر لوحده فقط، في تسميم العلاقات بين أخوة الدين والدم والتراب، وزرع بذور العاصفة التي ما تزال تقذف بحمم الكراهية حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها لكم.  رجل واحد يتلاعب بمصير أمة بأكملها... كم أنت إذاً عبقري واستثنائي يا بن سبأ! 

 

ـ 2 ـ

لم يدفن المسلمون ابن سبأ بعد، فمازال ظلال هذا الشيطان اليهودي والأسود الثقيل مرخياً على أفكارنا.  لقد غدا  ابن سبأ قيمة رمزية تستحضر بكثافة كلما خابت أحلامنا وتهاوت طموحاتنا.  حسب التاريخ المؤسطر، فإن هذا الخبيث اللعين قد قدم من أرض اليمن، تلك البلاد التي سيستيقظ من قعر بحرها الدجال الأعور، وتتدحرج منها كرة النار في آخر الزمان.  منذ أن خرج من اليمن حاملاً معه مشروعه التقويضي للأمة الإسلامية، وهو مازال يتناسل عبر التاريخ لينشئ طبقة جديدة من الأشباح غير المنظورة التي نعلق عليها هزائمنا.  طبقة جديدة تضاف إلى طبقات الجن والملائكة والعفاريت المكتظة والمتراصة في رؤوسنا.  ابن سبأ هو النواة التي خرجت من رحمها نظرية المؤامرة.  تلك النظرية التي لها اليوم منظرون ومنافحون عنها، تحولت إلى عقيدة تعشعش في ثنايا خطاب الثقافي وتضاعيفه.  نظرية المؤامرة تطورت كثيراً عن مؤسسها الراحل ابن سبأ لتأخذ أنماط عصرية مغايرة لنموذج الرجل الشيطاني التخريبي.  اليوم صارت لدينا دول ومنظمات وشركات، تصل الليل بالنهار، وتعمل بدأب من أجل تدمير العرب والمسلمين، وإبقاء المارد فيهم حبيساً داخل القمقم.  دعوني أسوق ـ فقط من باب التزجية والترويح ـ قليلاً من إبداعات نظرية المؤامرة التي هي أقرب لطلقات رصاص فارغة في الهواء، والتي اقتحمت كل شيء، حتى الرياضة والفن:

 

·        أمريكا تزين للحكومة العراقية شنق صدام أول أيام العيد لاستثارة العالم السني، ومن ثم جر أقدام السنة والشيعة لحرب طاحنة.

·        أمريكا تغزو العراق لا من أجل السلاح الكيماوي ولكن من أجل جبل الذهب المدفون في مكان ما داخل العراق، كما قال الشيخ أحمد الكبيسي يوماً في برنامجه الديني على قناة دبي.

·        أمريكا صورت للعالم أنها قتلت صدام وولديه عدي وقصي، بينما هم الثلاثة في مكان بعيد من هذا العالم أحياء يرزقون بعد انتهاء أدوارهم على المسرح.

·        ابن لادن والزرقاوي يسديان خدمات متفق عليها مسبقاً مع أمريكا من أجل توفير غطاء مشروع للتواجد الأمريكي في المنطقة.

·        أمريكا وإسرائيل نسفت البرجين في أيلول من عام 2001 لإعطاء بوش الضوء الأخضر لمهاجمة أفغانستان والعراق.

·        منتخب البرازيل في كأس العالم 1998 يتآمر مع النرويج ليطيحا بالمنتخب المغربي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التأهل.

·        مهندس برج العرب في مدينة دبي يتعمد إقامة ما يشبه الصليب ويوجهه للغرب، أي لكعبة المسلمين في تحدي سافر لمشاعرهم الدينية.

·        الليبراليون السعوديون (بني علمان كما يطلق عليهم التيار الديني) يطالبون بإدخال حصة التربية البدنية في مدارس البنات تمهيداً لإفساد المرأة وإهدار حشمتها.

·        إسرائيل تسرب إلى الأسواق العربية أحزمة للرجال تحوي على مادة تسبب في العقم.

·        نجيب محفوظ يفوز بنوبل لروايته الملحدة (أولاد حارتنا) ولموقفه المؤيد من التطبيع مع إسرائيل.

·        السفارة الأمريكية ترشو بعض الكتاب في الصحف السعودية من أجل محاربة قيم المجتمع الدينية.

 

ـ 3 ـ

بالتأكيد هناك حكايات أخرى لا تحضرني هذه اللحظة، لكنك حتماً سمعت عنها شيئاً كثيراً، وستظل تسمع مادام العقل العربي مصاب بالإسهال المؤامراتي.  الطريف أن التنظير المؤامراتي لم يعد حكراً على رجال الدين ومحللي الشؤون السياسة، بل أصبح أسلوباً في التفكير والتحليل لدى كل شرائح المجتمع كباراً وصغاراً، مثقفين وأميين، ونساءً ورجالاً.      

زبدة الكلام، لقد أنتج المؤرخون الأوائل ابن سبأ ليكنس الأوساخ، وليحمل على ظهره أوزار الجيل الذهبي من تكالب على السلطة وتنافس على الثراء.  واليوم، تمنح نظرية ابن سبأ المتجذرة في العقل العربي تبريراً ساذجاً للمسافة المترامية بين أحلامنا الوردية وواقعنا الأسود، وتفسيراً مغلوطاً للهوة الفاصلة بين منزلتنا الدينية الرفيعة ومكانتنا الدنيوية الوضيعة.  عموماً، يخيل لي أن هذا العقل يأنس لوجود المؤامرات ليشعر بزيف مكانته، وليعلق عليها إخفاقاته، تماماً كما يعلق الطالب البليد شحوب درجاته على معلميه.  وسنظل هكذا عالقين في شباك المؤامرة التي نصبناها لأنفسنا مادام ابن سبأ حياً ونابضاً في ذاكرتنا.

===========

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط