هشام محمد / Apr 06, 2006

ـ 1 ـ

كتبت السيدة دلال البزري مقالة هامة بعنوان (المقدس في حلبة القانون: تجارب تتداعى وتُقلق بلا انقطاع) في جريدة (الحياة) بتاريخ 26 مارس، 2006. المقالة تحذر من انحسار فعالية القانون المدني في مصر أمام تنامي منظومة ثنائيات الحلال والحرام، والمدعومة من قبل التيارات الدينية. تستشهد السيدة دلال بعدد من الأمثلة الحية، لعل أقربها للذاكرة إصرار الروائي الكبير نجيب محفوظ على موافقة الأزهر قبل طباعة الرواية الشهيرة والمثيرة للجدل "أولاد حارتنا" رغم موافقة الحكومة المصرية. وكمثال آخر، الحكومة تجيز أعمال أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد، لكن وزارة الداخلية تمنعهما من دخول حرم جامعة الفيوم حيث تتكاثر جماعات الأخوان الساخطة على الكاتبين اللذين لم يكتما في أعمالهما الفنية إدانتهما وتحذيرهما من مخاطر صعود الظاهرة الأصولية. عدم الامتثال للقانون ليس سلوكاً إسلامياً صرفاً، فهذا البابا شنودة يعترض وبشدة على قرار محكمة مدنية أصدرت إذناً يتيح للأقباط المطلقين فرصة الزواج ثانية، محتجاً بقدسية الزواج المسيحي وخصوصيته. خرق القوانين وتعطيلها ـ والكلام للسيدة دلال ـ ليس اختصاص "إخواني" كما قد يتبادر للذهن، بل أن كافة شرائح المجتمع وطبقاته تتآلب معاً في الالتفاف على القوانين وتحييدها، بدءاً من رجل الدين الحكومي ـ إن صح التعبير ـ إلى رجل الشارع البسيط. فالأول لا يكف عن تسويق الفتاوى اليومية كمنتج بديل محل القوانين الحكومية، والآخر ـ خذ سائق التاكسي نموذجاً ـ يلتف بذكاء على الأنظمة المرورية فيربط صدره بحزام وهمي اقرب ما يكون للطلاء من أجل التمويه على عسكري المرور.


-2-
اتخذت مقالة السيدة دلال من مصر نموذجاً، ولكن هذا لا يمنع القول أن كافة الأقطار العربية ليست بمنجاة من ظاهرة تصادم القوانين المدنية مع القوانين الدينية أو لنقل الفتاوى الدينية. الأوضاع مثلاً في السعودية أكثر بؤساً مما هي عليه في مصر، وربما يعزى هذا إلى النشأة السيامية للدولة السعودية، حيث ولدت برأسين، أحدهما يمثل حكومة آل سعود والآخر يمثل المؤسسة الدينية الوهابية بزعامة أسرة آل الشيخ. إن من يأتي للملكة بمقدوره أن يرصد بوضوح نوعاً من التصادم، وإن شئت نوعاً من الازدواجية بين القوانين المدنية والدينية. ولعل وجود مؤسسة كهيئة المعروف والنهي عن المنكر، أو ما يعرف بالشرطة الدينية دليلاً على إصرار التيار الديني على الاحتفاظ بمواقعه للسهر على تطبيق أحكام السماء الموكول بتبليغها. وعموماً المتدينون لا يعتدون بالقوانين الوضعية لذا فهم دائماً ما يطلقون عليها أقذع الصفات لإنها لم تتنزل من فوق أو لم يورثها لنا الأموات الغابرون.
ويقال أن هناك قراراً حكومياً يطلب من أئمة المساجد تخفيض الصوت العالي للمايكروفونات عند أداء الصلاة وليس الآذان، لكنك لا تجد مسجداً يلتزم بذلك. وعلى ما يبدو فإن المتدينين لن يفرطوا بالفضاء الذي شحنوه زمناً طويلاً بضجيج صلواتهم ودعائهم ومحاضراتهم.



ـ 3 ـ

وعلى عكس ما ذهبت إليه السيدة دلال في مقالتها فإني أميل إلى تغليب الرأي بأن القوانين المدنية هي من اقتحمت حلبة المقدس وأقلقت سرمديته وسكونيته. لنتصفح تاريخ العرب ما قبل أو ما بعد الإسلام: هل كانت هناك أي أشارة ولو عابرة لمفهوم القانون؟ الدكتور أحمد البغدادي في كتابه الموسوم ب (أحاديث الدين والدنيا: الواقع المفارق للنص الديني) ذكر أن العرب قبل الإسلام نظموا حياتهم على وقع التقاليد والأعراف المتوارثة شفهياً، أما النص الديني فقد تماهى مع الواقع القبلي لقريش وسايره. وحتى بعد انضواء كثير من بقاع الأرض تحت ظل الخليفة، وهو ما كان يستدعي تأسيس البنى القانونية، لم تتبلور وللأسف أي محاولات جدية لتنظيم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وإن صح أن الإمام مالك بن أنس ـ والحديث مازال للدكتور أحمد ـ قد رفض طلب الخليفة العباسي بتعميم كتاب "الموطأ" على الأمصار الإسلامية بحجة تباين أحوال الناس، فإن هذا الرفض يدعم غياب الوعي بأهمية القانون.


وحتى تكتمل ملامح المشهد فهناك عنصر آخر غالباً ما يتمرد على القانون المدني، وأقصد به الأعراف والتقاليد.
بكلمات أخرى، فإن استكمال بناء الدولة العربية الحديثة يشترط ترسيخ القوانين المدنية كآلية لا غنى عنها، إلا أن عملية البناء تشهد مقاومة ضارية من القبيلة بأعرافها وتقاليدها الجامدة ومن الدين بترسانته الهائلة من أحكام واجتهادات فقهية فقد أكثرها صلاحيته التاريخية، دون أن ننسى ما تستبطنه من تناقضات داخلية صارخة.
إذا كان الدين والأعراف القبلية
يلعبان دوراً تقويضياً ضد سلطة القانون فلا يجب التغاضي عن مسؤوليات الحكومة ورجل الشارع معاً في صناعة هذا الواقع المضطرب. من المعروف أن الحكومات العربية لم تحط من الفضاء أو تُستورد من الخارج، بل أنها جاءت من أعماق تلك المجتمعات العربية حاملة معها ذات الخصائص الثقافية الشعبية المشتركة. ألا ترى أن الوفود العربية عندما تذهب للمحافل والمؤتمرات الدولية تضطر للتوقيع على مواثيق وتعهدات سرعان ما تنتهكها في الداخل تحت شعار الخصوصية والهوية الثقافية الفريدة؟ أضف إلى ذلك أن الحكومات، كما هو الحال في السعودية مثلاً، دائماً ما تلجأ ضمن سياق سياسات ترقيعية إلى إرخاء قبضتها والسكوت على تطاولات المتدينين الذين لا يقبلون بقوانين مدنية تقتلع الأحكام الفقهية من التداول.


أما رجل الشارع، وتحديداً هنا في السعودية، فلا يظهر القدر الكافي من الاحترام للقوانين المدنية ربما بسبب تكوينه الثقافي المتمرد أصلاً على القوانين اللازمة لضبط وتقنين تصرفاته، أو بسبب ضعف دور البيت والمدرسة في تأصيل الوعي بأهمية القانون والامتثال له، أو بسبب غياب القوة الجبرية التي تفرض هذه القوانين دون استثناءات. بغض الطرف عن الأسباب، فالرجل هنا، ولا أقصد التعميم مطلقاً، قد لا يعبأ بالقانون أو قد يتباهى بكسره، وربما عد ذلك
نوعاً من البطولة والذكاء. أما إذا كان الأمر يتصل بقانون ديني أو بعرف قبلي فسوف ينساق وراءه، سواء أكان بملء إرادته أم لا. لماذا؟ لأن انتهاك القانون الديني، ولو بدا بسيطاً، كأن يتأخر ولو دقائق قليلة في إغلاق متجره عند رفع الآذان، يستوجب عقاباً أخروياً ينتظره فيما بعد، فضلاً عن عقاب دنيوي قاسٍ سيحل به فيما لو وقع في يد الشرطة الدينية التي لا ترحم. أما انتهاك العرف القبلي، كأن يصاهر أبن (قبيلي) من هم أقل منزلة اجتماعية (خضيري) فسيلحق بصاحبه عار اجتماعي قد لا يمحى من الجبين.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط