هشام محمد / May 03, 2008

تحن الشعوب العربية / الإسلامية إلى نماذج الطغاة المستبدين ممن يسومونهم سوء العذاب، ويسوقونهم كالنعاج، ويدوسونهم في بطونهم ليل نهار.  يتمنى الأغلبية، ويتساوى هنا، المثقف والجاهل، الكبير والصغير، الذكر والأنثى، الصالح والطالح لو يخرج صدام من قبره ليحكم العراق الدامي بالحديد والنار.  يتمنى الأغلبية لو يعود عبدالناصر إلى قصره القاهري حتى لو سار بنا من هزيمة إلى هزيمة، ومن ذل إلى ذل.  يتمنى الأغلبية لو يرجع السفاح العباسي، ظل الله في الأرض، حتى لو ولغ سيفه في دمنا.  يتمنى الأغلبية لو تلفظ الأرض كل ما تحت بطنها من أبي يوسف الحجاج، وعبدالملك بن مروان، وزياد بن أبيه، وأبي جعفر المنصور، وكل الحاكمين بأمر الله.

 

إذا كانت تلك الجماهير الهادرة تفخر بجلاديها من السياسيين، وترفعهم إلى أعلى عليين، فإنها تفعل الشيء ذاته مع نماذج أخرى تحترف اللصوصية تحت غطاء الدين.  وكم من الجرائم ترتكب تحت هذا الدين!  مسكينة تلك الشعوب الواقعة بين فكي عصابتين: الأولى، تسحق كرامتها، وتمتهن شرفها، وتسلب آدميتها، والأخرى، تزيف وعيها، وتغيب عقلها، وتسلب مالها. 

 

إذا كان الدينُ طريقاً للجنة، فإن الدينَ أيضاً طريقٌ للثراء، وسلّمٌ للقمة.  لا تتطلب ممارسة الدجل الديني فكراً خارقاً ولا جهداً شاقاً.  يكفي أن تحفظ بعض الآيات القرآنية، وتعشق كلامك ببعض الأحاديث الدينية، وتنقش زبيبة في موضع السجود، وتطلق لحيتك وتحف شاربك، وتقصر ثوبك إلى دون الكعبين، وترتدي قناعاً كئيباً ومكفهراً كوجه العلامة الوسطي يوسف القرضاوي أو ضاحكاً ومبتهجاً كوجه المتأنق عمرو خالد.  تستطيع بكل يسر وبساطة، أن تحول التراب الذي تدوس عليه إلى ذهب، والماء الذي تبصق فيه إلى أسهم وودائع بنكية.  ستتصدر المجالس، وستتربع على قلوب المريدين، وستخطب ودك الصحف والمجلات، وستغازلك الفضائيات، وستنكب عليك اتصالات وفاكسات وايميلات حائرة وللجواب متلهفة من الجزائر ومصر والسعودية واليمن والمانيا وفرنسا وجزر القمر وكل أصقاع المعمورة.  هذه الأخت الكريمة تسألك يا فضيلة الشيخ عن حكم بلع ريقها في نهار رمضان، وهذا المغترب الكريم في بلاد الكفر يسألك عن مشروعية الرد على سلام زملائه من النصارى في العمل.

 

لشعوبنا ذاكرة من غربال لا يستقر بقعرها شيء من سوابق حراميها الملتحين.  أو لنقل أن لشعوبنا قلباً أبيضاً كاللبن، سرعان ما يصفح ويغفر.  كم من لص توارى خلف شركات توظيف الأموال ليوقع بالمغفلين الفارين من شبهة الربا، الذي سيتحول إلى كرات من نار في البطون يوم القيامة، إلى يقين الحلال الزلال والرزق المبارك؟  هل استوعبت خير أمة أخرجت للعالمين الدرس، وفهمت أبعاد اللعبة القذرة؟  طبعاً لا.  من المؤكد أنهم سيلدغون من ذات الجحر مرتين وثلاث وأربع و..و.. جرب أن تحذرهم من ألاعيب ذوي اللحى، وحيل المتاجرين بالعواطف الدينية المتأججة.  أتعرف ما سيقولون لك؟ هؤلاء لا يمثلون الإسلام! آه...تلك العبارة اللعينة، إنها أشبه بمنشفة نضعها على أكتافنا لنمسح بها آثار كل جريمة يدان بها مسلم معتوه مختل.  هل من متبرع هنا يدلني على من يمثل الإسلام إذاً؟

ابتزاز المشاعر الدينية للعامة لعبة يمارسها أفراد محترفون ومؤسسات عريقة.  من أمثلة النوع الأول: أولئك الذين يوهمون المريض الجاهل بعلله النفسية أنه مسكون بجني متطفل.  ولكي يطرد الجني الوقح، ينهال على جسد المسكين بالضرب المبرح إلى أن يخرج الجني المزعوم رغم أنفه أو يموت الرجل المستسلم بين يديه.  وهناك الآن من يستثمر دكاكين القنوات الفضائية ليبيع العسل والحبة السوداء وبعض الأعشاب على أنها الحل السحري لكل أمراض البشر وآلامهم.  وهناك دعاة "النيو لوك"، النموذج الدعوي المعاصر الساعي لاحتواء وقيادة الشريحة الشبابية المتنامية والباحثة عن نموذج يحتذى.  لا يختلف الداعي "الكاجوال" عن الداعي التقليدي في شيء إلا بقدرته على مط ابتسامة "اكس لارج"، تمتد من الأذن إلى الأذن.  أما المحتوى، فكلاهما يا عزيزي، يشربان من نفس البئر القديمة.  دعاة الألفية الثالثة صاروا منافسين لنجوم كرة القدم والغناء والتمثيل.  إنهم الآن يتقاضون المال الوفير نظير المقالات والكتب والأشرطة والمحاضرات والبرامج التلفزيونية.  اللهم زدهم وبارك! 

 

في المقابل، تمارس بعض مؤسسات الأعمال شيئاً من هذا التدليس الديني.  خذ مثلاً البنوك التجارية، أو ما اصطلح الفقهاء على تسميتها بالربوية.  ماذا بوسعها أن تعمل لمواجهة حالة الردة والدروشة الدينية والهذيان الأصولي سوى أن تستبدل أسماء منتجاتها التقليدية بأسماء إسلامية، كالأمانة أو المبارك لضمان ولاء عملائها الحاليين، وكسب عملاء جدد.  ليس مهماً لا للبنك ولا للعميل جوهر العملية، وما يجري وراء الستار، بقدر ما تتوارى خلفه من إسم يداعب مشاعرنا الإسلامية الجياشة.  ثم ما الغريب في ذلك ما دام الإسلام برمته قد اختزل في مظاهر شكلانية مقززة، كاللحية والزبيبة والثوب القصير والنقاب!

شركات الإتصالات بدأت بدورها في توظيف البلادة الفكرية، وتحويل تعلق الناس بالقشور الدينية إلى أرصدة مالية تصب في خزائنها.  سأعطيك مثالاً صغيراً هنا.  الجميع يدرك أن الرسوم الدنماركية قد أصابت المسلمين بشيء يشبه ما يقترب من جنون البقر.  الكل يريد أن يقدم شيئاً فداءً للحبيب المصطفى، حتى لو تقرب برأس أمه وأبيه.  الكل يتلهف لمضاعفة حسناته في ميزان أعماله بنصرة الرسول الكريم.  ماذا فعلت إحدى شركات الإتصالات؟  قامت بإرسال رسائل قصيرة إلى عدد من المشتركين، فحواها أن الرسام الدنماركي قد لقي مصرعه حرقاً، وأن الحكومة الدنماركية تتستر على الخبر.  ابعث بهذه الرسالة لنصرة نبيك.  القائمون على شركة الإتصالات يعلمون أن آليه الرب الكريمة جداً في احتساب ومضاعفة الحسنات وفق متوالية هندسية ستحفز عبيده على نشر هذا الهراء في كل الإتجاهات، أملاً في مقايضة النقاط يوم الحساب بحور عين، وولدان مخلدين، وأنهار من خمر ولبن وعسل!

وقبل أيام قليلة وصلتني رسالة أخرى، وإليك نصها كاملاً: "كم شخصاً حولك يعرف أسماء السبعة الذين ولدوا بلا أب؟ الجواب: آدم، حواء، عيسى، ناقة صالح، أفعى موسى، البراق، والكبش!  بالطبع إذا استثنينا سبعة ملايين دنماركي".  من قال أننا لا نتطور؟! ها نحن نبتكر أسلوباً دفاعياً لنصرة خير الآنام قوامه النكته، جنباً إلى المقاطعة الاقتصادية وحرق السفارات والاعتداء على المسيحيين!  بالمناسبة، لماذا نأخذ على الأمريكان ضرب أفغانستان بجريرة تسعة عشر إرهابي جلهم سعوديين، بينما لا نتورع عن الإساءة لشعب كامل بجريرة رسام واحد؟!  ترى من هو الذي يكيل بمكيالين: نحن أم هم؟  زبدة الكلام...ستطير شركة الاتصالات كغيرها بأموال وعقول وأحلام البسطاء، وسيبقى هؤلاء الناس حاملين شيكات بلا رصيد في جنات الخلد.

=============

affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط