إبراهيم عرفات / Dec 12, 2009

نقول رومانسية لأنها تنأى عن الواقع وتغازله عن بعدٍ بتعليل النفس بالأماني. . .

 

منذ ظهر الإسلام للوجود وهو في "مواجهة" تصل في أحيان كثيرة إلى مجابهة مع الأديان الأخرى ولا سيما المسيحية. ظهر الإسلام ومعه ظهرت قناعة مفادها أن الحق الأوحد يكمن في جعبة فريق الإسلام أم ما عداهم فهم أهل الباطل والشرك. وبذلك بادر بهذه المواجهة التي صبغها بروحه المعهودة بما فيها من أنفة عربية ولسان حال المحاور لا ينفك عن أن يكون "هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين".

 

ولنحتكم إلى التاريخ لنرى إن كان الإسلام "يحاور" حورًا حضاريًا عقلانيّاً؟ فالقرآن لا يسجل لنا حوارات بل يعدد أمامنا انتصارات عنترية منها انتصار جماعة محمد على اليهودية في شمال الحجاز (الفتح 18) وانتصارهم على المشركين في مكة (الصف 9) وانتصارهم على المسيحية العربية عند مشارف الشام (التوبة 33) في آيةٍ جاء فيها الوعد بظهور الإسلام "على الدين كله ولو كره المشركون". وهنا نعود إلى التساؤل: كيف يزعم الإسلام الحوار وهو يدّعي هذا الظهور المزعوم على سائر الأديان؟ وهل حقًا ظهر الإسلام عليها؟ وكيف يظهر الإسلام الآن في الإعلام الدوليّ؟ وكيف يمكننا الادعاء بقيام حوار بينما الطرف المسلم يتشدق بمفردات مثل "إفحام النصارى" وفي هذا إخراس للمحاور؟

 

الحوار هو عملية نقاش متبادل بين طرفين متحاورين يلتقيان وجهًا لوجه سعيًا من كل منهما لسماع الآخر أولاً ومن ثم تبليغ ما لديه للآخر بأفضل شكل حضاري إنساني. لا حاجة بعد لأن نلوي عنق الحقيقة أو أن يرتفع صوتنا بالتهليل والتكبير أو لوي ذراع الإنسان الذي نحاوره. يجب علينا أولا قبول الآخر كما هو عليه دون لوي ذراعه حتى يصبح نسخة مكررة عنا. لا يسجل لنا تاريخ الإسلام نموذجاً للحوار الإنساني الحضاري كما نعرفه اليوم في أدبيات الثقافة الأوروبية المتحضرة الحديثة بل إن كل ما نعرفه في الإسلام هو "دعوة لاعتناق الإسلام" ربما تبدأ بالحسنى ثم تنتهي بالمباهلة أي استنزال لعنات السماء والأرض على رؤوس المخالفين لإعراضهم عن الإسلام.

 

كان من شأن الإسلام أن يرتقي قليلاً ويعي أنّ كل ديانة لها نصيب من الحق والصدق، وأن نفيه نفيًا تامًا عن المسيحية بعيد كل البعد عن الإنصاف، وكذلك فإن نفيه عن الإسلام نفيًا تامًا ليس فيه من النصفة شيءٌ؛ فكل الخلائق تطلب وجه الله وتفسر هذا الطلب بطرق متنوعة التعبير تتفرّد كلّ منها عن الأخرى بدرجات الصدق والأمانة والإخلاص الأمر الذي يجعل الضمير الإنساني يتخذ موقف تقدير واحترام منها جميعًا. والإسلام ما أراد حوارًا مع المسيحية بل أراد هدم عقيدتها التي يعتبرها دخيلة على "المسيحية الحقيقية" التي تنتظر من يعيدها إلى نصابها؛ ودعوة محمد هي التي من شأنها أن تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. فإن كان الحال كذلك، كيف يمكننا الادعاء بوجود "حوار" ومن نظنه محاورنا ليس له هم ولا شاغل سوى هدم المسيحية؟ وإذا كانت المسيحية مؤسَسَة على شخص المسيح الحيّ صاحب الموعظة على الجبل بما فيها من سمو إنسانيّ وأخلاقي، فهل يقدر كائنًا من كان أن يهدمها حقًا؟ أبواب الجحيم لن تقوى عليها، هكذا كان الوعد الحق على لسان المسيح بحق الإيمان الأقدس لدى تابعيه في كنيستهم الجامعة.

 

يقولون "حوار إسلامي مسيحي" وفي حقيقة الأمر هو "جدل عقائدي" دفاعي أي polemical؛ وشتان بين الجدل العقائدي الذي ينتهي بالمباهلة القرآنية وسط صراخات المعركة "الله أكبر. . الله أكبر" وبين "الحوار" الذي هو محاولة صادقة لفهم الآخر وقبوله واحتوائه واستيعابه لأنه- كما أسلفنا أعلاه- قد يحمل قدرًا من الصدق بما أن آثار الله وشواهده في الكون واضحة؛ والله لا يترك نفسه بدون شاهد، ناهيك عن المعتقد أو حتى عدمه (السموات تحدّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه- مزمور 19). الجدل حتمًا يؤدي للنزاع والخصام؛ وإذ ذاك فهو ليس حوار وإنما جدل، فإن قالوا حوار قلنا "حوار الطرشان".

 

وماذا عن المسيحيين الذين يخرجون علينا في الفضائيات المسيحية فيتعرضون للإسلام بالتجريح دون اعتبار لعامة المسلمين ممن وُلدوا مسلمين بالفطرة؟ يكفي أن يولد المرء لأبوين مسلمين فيصبح مسلمًا مثلهما ولكنه ذات يوم سيجلس أمام التلفزيون ليفاجأ بالطعنات تناله من كل جانب بحجة أن هناك من يريد "تعرية الإسلام" فيكيل الضربات والطعنات في نبوءة محمد بن عبد الله ومختلف جوانب ديانته. مثل هذا الأسلوب سيؤدي حتماً إلى النفور وإلى إثارة الحفيظة واستنفار المشاعر لأن الدين يستقر في وجدان المسلم وليس مجرد فكرة عابرة ولا يمكننا أن نتوهم أن المسلم سيتجرد منها للحظات أو أن الإسلام ثوبًا سيخلعه مؤقتًا حتى يتسنى لشخص ما "تعرية" دينه والنيل منه. الطعن في الغيبيات الإسلامية من شأنه أن يقود الباحث إلى الطعن في جميع الأديان ومسلماتها لأنها قائمة على الإعلان وهُدى القلب. يلزم المسلم الإسلام لأنه يريد لقلبه أن تغمره السكينة الإلهية وطمأنينة القلب ويعتبر سبل العبادة الإسلامية من صلاة وزكاة وخشوع وحج وغيرها وسائل تتطهر بها نفسه. إنه يبحث في المقام الرئيسي عن التطهر، وعليه فكيف نأتي باسم المسيحية ونتهجم على ما يستخدمه لتطهير نفسه؟ التهجّم على وجدان المسلم بالتجريح في نبوءة محمد والسخرية منه لا يُقرب المسلم الصحيح إلى دين المسيح بل ينفره من هذا السبيل القبيح! والغضب لا يولّد إلا الغضب؛ فبدل أن نعمل على تزكية الجمال في نفس مسلم نجد أننا قد أشعلنا في نفسه غضبًا وملأناها قبحًا بأيدينا الآثمتين هاتين. المسيحي الحق يعلم علم اليقين أن الله لا يترك نفسه دون شاهد وحضوره في كل مكان ولا يوجد مكان على وجه الكرة الأرضية أو نص في كتاب إلا ويشهد بجلال الله ومجده لعل الباحث عن الله يجد فيه قبسًا من نور فيهتدي به إلى إعلان الله الكامل في المسيح. ولكن ماذا يجدينا طعن المسيحيين بالقرآن وبنبوءة محمد وطعن المسلمين بصحة الأناجيل وصحة التعاليم المسيحية؟ يقع المسيحيون إذ ذاك في هذا الفخ المقيت ولا يجنون من وراء هذا الجدل سوى الخصام والمرارة والبغضاء ثم يزيدون الطين بلّة وينسبون كل هذا إلى المسيح؛ حمل الله الحامل خطايا العالم. ويفوتهم أن قبولنا للمسلم على حاله - أي وهو مسلم- هو قبولٌ له هو. وأن رفضنا للمسلم على حاله - أي وهو مسلم- هو رفض له ولكيانه كمسلم. قبولي لما يحرك هذا الشخص وجدانيًا ويخفق به قلبه هو قبول مباشر له هو. ماذا يعني قولي للمسلم أني أقبله هو وأكره دينه؟ هذا يعني بوضوح أني أكرهه هو لأني لا أقيم اعتبارًا لما يحرّكه في ضوء ما قد وصل إليه من نور لمعرفة الله، وكأني وحدي أمتلك الله لنفسي ولا يحق لغيري أن يناجيه أو يتعبد إليه.

 

هذا الصراع والمسمى كذبًا "حوارًا" يحتدم ويبلغ أشدّه حين يرى كل طرف أنه أحق من الآخر بقطعة أرض تسمى "الجنة" في الفضاء الأخرويّ. يندفع المسلم بحمية محمومة لاستمالة المسيحيين للإسلام لأنه في اعتقاده أنهم نصارى وهالكون لا محالة وبما أن القرآن سبق وأخبره "إن الدين عند الله الإسلام". أما المسيحي فيندفع بحمية تبشيرية للتهديد والوعيد بأن المسلم هالك في الجحيم وعذابه لا محالة ما لم ينل "الخلاص" ويقبل الفداء ولا يؤخذ بالاعتبار ما لدى المسلم من نورٍ قد بثه الخالق فيه منذ البدء حيث أن الله ناطقٌ في كل شيء ورغمًا عنا. يترتب على ذلك أن ينظر كل طرف للآخر نظرة اهتمام وربما قلق وازدراء لأنه يعتقد أنه أولى بالله وجنّته من الآخر. فيدخلان في مهاترات كلامية دينية من قبيل "ديني أفضل من دينك" وينجرفان معًا للردح الرباني؛ والردح يأتي ممزوجًا بالنعت والقدح. يتشابكان ويتلاسنان ويتمنى كل طرف منهما لو يلغي هذا الآخر بـ "جرة قلم" فيحذفه من على وجه الكرة الأرضية. يقتل كل واحد منهما نفس الآخر وهما واقفان أمام مذبح الإله فيتقدم الواحد منهما بأشلاء أخيه ونفسه الممزقة كـقربان يتقرب به على مذبح الرب القدير لعله ينال الفردوس الأعلى وينغمس فيه ويزج بالآخر في بحيرة النار والكبريت.

 

تُرى ماذا يكون الحال لو أننا أحيينا في ضمائرنا مقولة الشاعر الفرنسي أرثر ريمبو “Je Est Un Autre أنا هو الآخر. أنظر إذ ذاك أنا كمسيحي إلى المسلم وأقول أنا هو هذا المسلم؛ أنا هو هذه الأخت المسلمة، في كل طموحاتهم وأحلامهم، في كل أوجاعهم ومعاناتهم. في كل ما لهم أقوم وأحتسبه وأتبناه لنفسي لأنهم قد أضحوا أنا، وأنا هم، وهم أنا. ننظر إلى ما يجتازه الناس من أحداث في تاريخ حياتهم وتأخذنا الشهقة في لحظة صدق مع ضمائرنا فنصيح متسائلين إن هذا كان من الممكن أن يكون هذا حالنا وأننا لسنا ببعيدين عما قد جازوا فيه من ظروفٍ وأحوالٍ.    

 

وأتساءل: هل ما يحدث في قنوات الإعلام الفضائية هو من المسيحية في شيء؟ وما الذي يقرّه الإنجيل حقًا كما قرأته في صلاتي واختلائي بربيّ ومخلصيّ؟

 

ما يعلمني إياه الإنجيل هو أن الجدل غير مسموح به في الإنجيل تحت أي ظرف من الظروف بل يأمر بولس ابنه في الإيمان تيموثاوس ويحضّه على أن يجتنب المجادلات الدينية ونزاعاتها لأنها تولد الخصومات؛ ومن دُعي باسم المسيح وانتمى لحضارة يسوع المسيح لا يليق به أن يخاصم إنسًا من البشر. والإنجيل يحظر على المسيحي أي صورة من صور الجدال بل كثيراً ما ينهاه بشدة عن المماحكات الدينية والمباحثات الجدلية العقيمة على شاكلة "ديني أفضل من دينك". يقول الإنجيل إن المباحثات الجدلية الدينية توّلد الخصومات والمسيحي الحق ليس من شأنه أن يكون إنسانًا مخاصمًا بل عبداً للرب لا ينبغي له أن يخاصم. في رسالته الثانية إلى تيموثاوس، يقول بولس: "أما المجادلات السخيفة الخرقاء، فتجنبها لأنها تولد المشاجرات كما تعلم؛ فإن عبد الرب يجب عليه أن لا يكون مشاجرًا، بل لطيفًا بجميع الناس"(2: 23، 24). عندما يفكر المسيحي في الحوار مع غير المسيحي فلعله يتذكر أن واجبه هو أن يقدم المسيح كما عاش هو معه وعاشره طوال هذا الوقت فيتكلم من فيضّ "الخبرة المسيحية" Christian Experience لا من فيض معارفٍ يجترها في ذهنه وكأنه لا يحسن سوى التلقين كجهاز التسجيل. لم يدخل المسيح في جدل حول دعوة الناس لاتباعه بل كان يقول لفلان من الناس "اتبعنيّ" والشخص هنا لا يملك إلا أن يتبعه في عفوية وانسيابية دون ترغيب أو ترهيب لما للمسيح من جاذبية في شخصيته وصفاته وطباعه.  وقد كانت هذه الكلمة الواحدة التي يقولها المسيح لشخص من الناس "اتبعنيّ" لا تحتمل مجادلة أو مناظرة أو مباهلة كما هو الحال في الإسلام. المسيح ليس جملة من الأفكار البراقة أو النظريات الفلسفية أو الآراء العقائدية الجافة بل هو شخص حقيقي وإنسان كامل ؛ والموقف حياله إما يكون بالقبول أو الرفض لا الجدل. هذا الإنسان يسوع المسيح يلتقي الناس على مفترق طرق الحياة ويقابلهم في ذهابهم وإيابهم ولا يقول أكثر من "اتبعني". ونحن إما أن نتبعه ونضع أيدينا في يديه ونغنم بالحياة الإلهية أو نرفضه فنستمر في العيش كعبيد للجسد والذات والإرادة والدنيا عامة. ولكن قبول المسيح يكسبنا امتيازات الحرية الحقيقية المتأصلة في بارىء الأكوان فننعم حق التنعم بالحياة الإلهية. الله لا يستفيد شيء ولا يتوعد أو يهدد بشيء ولكن الكسبُّ كل الكسبِ هو لنا نحن.

        

كثيرًا ما كرر دستويفسكي أن الملحد لا يبعد سوى خطوة واحدة عن المؤمن الكامل. في "اعتراف ستافروجين"، يقول دستويفسكي:

" Perfect atheism stands high up the ladder on the rung below that which leads to perfect faith "

أي أن الإلحاد التام يقف عاليًا عند أعلى درجة في السلّم حيث يوجد تحته مباشرة الإيمان الكامل. هكذا رأى دستويفسكي الإنسان في حالة البعد التام عن الله وفي حال انغلاق قلبه عن الإلهيات؛ فما بالنا نحن اليوم ونحن نحتكر الحقيقة ونقصرها على أنفسنا دون سوانا ويحالفنا في ذلك شيطان الحقيقة المطلقة! قال ميخائيل نعيمة في هذا الصدد: "الوطن لله والله للجميع"، أي أن الجميعَ يحظون من الله بنصيبٍ؛ ولا يحتكره أحد أو يمتلكه أو يضعه مثلا في جيبه ليقتنيه بالكامل له!  

 

إحدى وجهات النظر المسيحية ترى أن المطلوب ليس الحوار بل "اللقاء" encounter، كما يؤكد الأب سهيل قاشا في أكثر من لقاء ومقابلة معه أكد فيها على أن واجب المسيحيين ليس "الحوار" وإنما إعلان البشارة بيسوع المسيح للخليقة كلها. البشارة هي "الإعلان" Kerygma وليست فرصة للمباحثات الجدلية؛ والإعلان يكون بيسوع المسيح الذي "يستعلن" نفسه في هذا اللقاء دون جدال بالحسنى أو ما يستدعي للتزلف الحواري باسم "الحوار"، وما هو في حقيقة الأمر بـحوار. ولكن من قال إن "المجادلة" هي "الحوار"؟ القرآن يدعو المسلم للمجادلة والتي تنتهي بالـ مباهلة وفيها استنزال لعنات السماء والأرض على من لا يرضخ لدين الإسلام "لعنة الله على القوم الظالمين".

المجادلة، ومن ثمّ المباهلة، تتبعها الخصومات التي تتولد عنها المرارة. والروح المسيحية (هي مسيحية لأنها تتأصّل في شخص المسيح الوديع المتواضع القلبّ) تطالب المسيحي أن يبتعد عن الخصومة بأي ثمن لأن الخصومة تولد المرارة وتقتل الود والمرارة يتنجس بها الإنسان (عبرانيين 12: 15).

 

فإن افترضنا أنه من شان مثل هذا الحوار أن يقوم بالفعل، فعلى أي أسس يمكن أن يبنى؟

وكيف نطلب "حوار إسلامي مسيحي" والاثنان يختلفان من البدء على الطريقة التي يتكلم بها الله؟

 

بدايةً، يؤمن المسلم أن الله يتكلم بشكل إملائي ولذلك يرى أن القرآن هو "تنزيل". نزل من فوق إلى تحت. لا تنزيل في المسيحية ولا يوجد "تنزيل" في الكتاب المقدس وإنما هناك وحيٌ وإلهامٌ. مصطلح "التنزيل" غريب على أدبيات الفكر المسيحي والكتاب المقدس. يفرح المسيحي بدعوة المسلم لما يسميه حوار وإذا به يصطدم بالحقيقة المرة وهي أن الدينان مختلفان عن بعضهما كل الاختلاف وكأننا نتحدث عن جهاز كمبيوتر ماركة الماك وجهاز كمبيوتر ماركة المايكروسوفت. الجهازان من الخارج يطلق عليهما كمبيوتر، ولكن شتان الفرق في طريقة العمل بين الاثنين.

 

في هذا الكتاب المقدس الذي أعشقه، يتكلم الناس مع الله في أريحيةٍ كاملةٍ ودون خوف. نتعجب ضاربين كفاً بكف من حال هؤلاء الأنبياء الذين كانوا يخاطبونه بهذه الحرية وبدون خوف بينما نحن قد تربينا على الخوف والعيب وطوطمية الحلال والحرام. في الكتاب المقدس يتكلم الإنسان مع الله دون خوف أو عيب. هو يشكو ربنا إلى ربنا. ومن يفعل هذا سوى الحبيب؟ أشكو إليك منك، كما تقول القصيدة. أشكو منك إليك، يا رب! ما كل هذا اليقين! إنه يقين الحب، والله ليس إلا حب، ومن فاته ذلك فمعرفته بالله مشوّهة، ولا يزال يتعامل معه على أنه أحد "عبيده"، بينما الله حرٌّّ ويحب الأحرار، وما له من حاجة في العبيد.

 

 

 يفشل المسيحيون في جولة الحوار المسيحي الإسلامي لأنهم يُخضِعون أسفار كتابهم المقدس لطريقة التفكير الإسلامية التنزيلية. لا يمكن تطويع نصوص الكتاب المقدس وآلية عملها لمفهوم التنزيل الإسلامي. الكتاب المقدس في المسيحية هو مثل شخص المسيح. المسيح هو إنسان كامل الإنسانية وإله كامل الألوهة من حيث هو "كلمة الله". والكتاب المقدس هو كذلك لأنه كتاب كامل الإنسانية ونتعامل مع إنسانية الناس فيه بدون أي تجميل ونقرأ ألفاظهم والتي تتفاوت من الرقة إلى الحدة أو ربما الجلافة؛ وتلك هي إنسانيتهم. والكتاب المقدس هو أيضًا إلهيّ كامل الإلهية من حيث أنه قد أوحاه إلهٌ كاملٌ ونطقه نطقٌ كاملٌ؛ وبما أن الله ذاته معصوم فكلام الله في الكتاب المقدس هو أيضًا معصوم في الرسالة والوحي والإلهام. في المسيح يتلاقي ما هو إنساني مع ما هو إلهي دون تعارض، وفي الكتاب المقدس الأمر ذاته يحدث حيث نقرأ قصة حياتنا في زماننا من جديد في الكتاب المقدس وندرك كم هو بشريّ هذا الكتاب. ثم نقرأ فيه أيضًا وحي الله حيث ينطق فيه الله تارة من خلال الأنبياء والرسل والنذيرين، وتارة أخرى وبشكل ختامي نهائي في مجيء المسيح حيث أضحى المسيح نفسه هو "كلمة الله". مفهوم التنزيل الإملائي في الإسلام جامد كجمود الإله الـ "صمد" الذي لا حراك فيه ولا يتأثر بعاطفة impassive لأنه يركن إلى إملاء الأوامر والناس حيالها كأنهم آلات أو عبيد مغلوبون على أمرهم ولا يعرفون أكثر من "سمعنا وأطعنا" في كل شاردة وورادة.

 

في الكتاب المقدس يسأل موسى الله عما يجب أن يقوله لفرعون عندما يسأله: من أرسلك يا موسى؟ وجواب الله بسيط ومدهش: "إهيه أشر إهيه" אהיה אשר אהיה؛ وبالعربية "أنا هو من هو"(خروج 3: 14). نلاحظ هنا أن البارئ لا يفصح عن "اسم" محدد بذاته لموسى ولا يقول له إن اسمه "فلان"، وإنما يكتفي بإخبار موسى أن هذا الإله هو خالقهم، نعم؛ وأبوهم، نعم؛ وفاديهم، نعم. لذا فجواب الله يأتي هنا في صيغة "الافتراض" وليس المضارع؛ وكأنه يقول لموسى: "أكون من أكون" أو بالانكليزية: I may be whomever I may be  . كأنه يقول لموسى: "لن أخبرك"(مش ها أقول لك)؛ أكون ما أنا أريد. يقولون في لبنان: "بكون اللي بكون" أو بالعامية المصرية "أكون زي ما أكون". في الكتاب المقدس نقف أمام الرب الإله ويبقى هو سرّ بل وسرّ الأسرار؛وكل ما نعرفه عنه ليس إلا صفات تتكشف لنا بالتدريج على مرّ التاريخ إلى أن يأتي المسيح وتكشف لنا في شخصه هذه الصفات جملة واحدة فنعرف أن الله ليس إلا محبة. وبما أن الله يأتي على هذا النحو السرّي في الكتاب المقدس، كيف نرضى بالهبوط به إلى مستوى "الله" الإسلامي والذي فيه كل شيء قد أملاه إملاءًا؟ القرآن لا يعرف سوى خطاب الإملاء والتنزيل. إذن، يختلف الكتابان كل الاختلاف من حيث آلية الوحي والتنزيل، وهذا يجب أن يؤخذ في الاعتبار قبل الشروع في أي حوار. وإذ ذاك يجب أن تكون الغاية هي أن يحسن كل فريق ما لديه لا أن يتحول النقاش إلى عراك الديوك ونطاح الكباش.

 

إنّ كيفية نظر الناس إلى الإله الذي يعبدون سوف تنعكس إما سلباً أو إيجاباً على كيفية نظرهم لأنفسهم، وكيف ينظرون أيضا لبعضهم البعض؛ فهم قد يعشقون الحياة ويقبلون عليها فينتجوا ويفيدوا الآخرين، وقد يعشقون الموت ناظرين للدنيا على أنها لا تساوي جناح بعوضة ومن ثمّ يستسلمون للكسل والتراخي فلا نرى لهم إنتاج وسط شعوب العالم حيث زماننا هو زمن الطاقة والإنتاج. والله في المسيحية لا يتعالى علينا بل هو كليّ التواضع. وبماذا يفيده التعالي! وهل هو نرجسي حتى يتعالى! إنّه أبونا ويتنازل وينزل لمستوانا. خالقنا يشاركنا في كل شيء في طبيعتنا ما عدا الخطيئة. وهذا ما نسميه في المسيحية بعقيدة التجسد حيث يتلاحم الله مع جنسنا البشري بكل ما فيه من ضعف وعيوب ويقرن مصيره بهم. في هذا التلاحم هو لا يتعالى عليهم بل يقرنهم به في معيّته التي نعرفها في صفة المسيح "عمانوئيل" والذي تفسيره "الله معنا". في هذا التلاحم الإلهي، نحن مدعوون لاقتحام حياة الله والتنعم بها والاغتراف منها حتى تسري فينا نحن فيتبدل ما لنا من رائحة الموت إلى حياة إلهية نلبسها (2 كورنثوس 2: 16). رائحة الحياة للحياة - التي يتحدث عنها هنا القديس بولس- كفيلة بقهر ثقافة الموت، أي رائحة الموت للموت، التي نلمسها في جهادية الإسلام، وإحلال حضارة المحبة محلها.

 

لهذا فإننا نأمل بقيام حوار مسيحي إسلامي، وحوار إسلامي مسيحي يلتقي فيه الطرفان على قدم المساواة (فلا يعلو صوت أحدهما على الآخر) وهما مدركان تمام الإدراك أن الأمور الغيبية الميتفايزيقية ليس فيها غالبٌ أو مغلوبٌ ولا رابحٌ أو خاسرٌ وإنما هناك أناسٌ يطلبون وجه الله لذاته هو، وأيضاً يسعون لإدراك الحقيقة والتي يسمونها بأسماء عدة. للدكتور عبد المجيد الشرفي كتاب "الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر"؛ ويلخص فيه حصيلة دراساته عن هذا الجدل الذي احتدم لقرون يبدأ فيه الطرف المسلم بالصياح: هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين. قال الدكتور الشرفي إنه في المحصلة النهائية، يتساوى الطرفان المسلم والمسيحيّ، فلا نقدر أن نقول إن هناك غالبًا أو مغلوبًا. قال الدكتور الشرفي بهذا لأنه إنسان صادق مع نفسه، ورجل أكاديمي محترم، ويريد أن يقرّ الحقيقة لذات الحقيقة. وأمور الإيمان لا تقبل الجدل العقيم ولكن إما القبول أو الرفض؛ وأيضا بطابعها الميتافيزيقي ليس فيها غالب أو مغلوب وإنما فيها نورٌ يعلَن، وجاذبية مسيح يأخذ بالأبصار، أو قفر يصيب النفس الراسفة في أغلال الشيطان.

 

سيديّ يسوع المسيح؛

لست أنا بحاجة للبحث عن الحقيقة في هذا الدين أو ذاك لأن الحقيقة ليست فكرة للمحاججة أو الجدال بل هي شخص وهو أنت؛ وأنت وحدك. نعرفك وأنت الحق والحق هو أنت؛ ومتى كنا فيك كنّا في الحقّ.

 

سيديّ يسوع المسيح؛

 

لا تسمح لقلوبنا أن تزيغ بعد أن هديتها ومشت في دربك فعرفنا أن الطريق هو أنت، ومتى مشينا في هذا الطريق الذي هو أنت كنّا حقاً في الطريق المستقيم. نمشى في هذا الصراط المستقيم الذي هو أنت فلا نعود أبداً بحاجة لأن نقول: "اهدنا الصراط المستقيم" لأننا قد وجدناك وأنت هو الصراط بل الصراط هو أنت في شخصك الفريد الممتاز.

 

سيديّ يسوع المسيح؛

 

الحياة هي أنت؛ فمن أقام فيك سرت فيه حياتك بملئها وغناها، ومتى كنّا فيك كانت الحياة فينا، ونكون نحن في صميم الحياة. آمين.

 

تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:

 

timothyinchrist@gmail.com

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط