بسام درويش / Feb 20, 1997

(هذه المقالة ليست رداً على خطاب دكتاتور العراق فقط، إنما هي موجهة للمنافقين الذين رغم ما ينعمون به من حرية في هذا البلد العظيم، ولشدة "انسحاقهم الفكري" لا زالوا يعيشون في رعب منه فلا يتوقفون عن تعظيمه وتمجيده.)

********

في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة لحرب الخليج، هاجم صدام حسين الولايات المتحدة وحلفاءها معلناً "أنهم لن يستطيعوا تحطيم إرادة العراقيين وصمودهم وصبرهم وإيمانهم!.."

 

هذا الإدعاء بتآمر الغرب وأميركا على تحطيم الإنسان العربي وصموده وإيمانه، ليس إلاّ كأغنية الشيطان التي لم يكن صدام أول من غناها أو يغنيها، بل غناها ولا زال يغنيها أكثر قادة العرب. ومما يؤسف له أن الشعوب العربية التي ابتليت بهؤلاء الحكام حفظت هذه الأغنية كالببغاوات وأخذت تكررها من ورائهم، ثم ومع مرور الزمن اقتنعت بها إلى درجة أن مئات الآلاف من أبنائها هاجروا إلى الغرب وإلى أميركا بالذات هرباً من هؤلاء الحكام وسعياً وراء حياة حرة ولقمة شريفة، ولكنهم رغم ذلك لا زالوا على اعتقادهم بأن الغرب وأميركا يعملان يدا بيد على تحطيمهم وإذلالهم.  

 

إنه أمرٌ ليضحكُ ويبكي في آن واحد! 

أميركا وحلفاؤها من الغربيين يعملون ويخططون لتحطيم الإنسان العربي!..

ليتصوّر القارئ، الرؤساء كلينتون وشيراك وميجور، يجتمعون على طاولة مستديرة وعلى وجوههم وفي عيونهم مظاهر التعب والأرق، ينفثون دخان سجائرهم، ويحرقون "فوسفور" أدمغتهم، وهم يبحثون عن طريقة لتحطيم هذا الإنسان العربي المعتَّر.

تصوّر عزيزي القارئ مجلس الكونغرس الأميركي، يجتمع أعضاؤه ليتباحثوا في كيفية استنباط الوسائل لإذلال هذا الإنسان وتحطيمه.

تصور عزيزي القارئ، أن هذه الدولة التي تملك أعظم قوة على هذه الأرض، والتي لا تعجز عن محو دولٍ بكاملها من الوجود إن أرادت، تلجأ إلى حبك المؤامرات لتحطيم مواطننا العربي!

تصور عزيزي القارئ، أن هذه الدولة العظمى التي تسعى إلى تحطيم الحواجز بين الأرض وأفلاك الكون الأخرى لصالح البشرية جمعاء، أو أن هذه الدولة المتحضرة التي تبعث بأبنائها يقدمون العون والغذاء والدواء إلى شعوبٍ جوّعها حكامها ومزقتها صراعاتها، لا همَّ لها إلا التخطيط لتحطيم إنسان، أي إنسان في أي مكان من العالم!

وعن أي إنسان بحق الله نحن نتحدث؟.. نحن نتحدث عن إنسان لم يتبقّ منه ما يصلح للتحطيم!..

نتحدث عن الإنسان العربي الذي لا حاجة لأحد أن يحطمه لأنه مسحوقٌ سحقاً.. عظامه مسحوقة، كرامته مسحوقة، فكره مسحوقٌ وأمله مسحوق.

 

ماذا ندعو هذا الإنسان الذي يستفيق صباحاً ليسبّح بمجد ظالمه، ولا ينام قبل أن يرفع آيات الحمد له.

ماذا ندعو هذا الإنسان المسلوب حقه، والذي يذهب إلى صناديق الاقتراع غصباً عن نفسه وعن أنفاس أنفاسه ليقول "نعم للقائد"، بينما يهتف من داخل قلبه "لا وألف لا"!

ماذا نقول عن هذا الإنسان الذي يتعرض لجدع الأنف والوشم على الجبين إذا باع كيلو السكر بقروش زيادة عن التسعيرة الحكومية بينما عصابات الحاكم تجني الملايين من وراء صفقات السكّر وغيره من المواد الغذائية.

ماذا نقول عن هذا الإنسان الذي يقف في الطوابير الطويلة أمام المؤسسات الحكومية بانتظار شراء نصف لتر من الزيت أو علبة شاي، بينما تمتلئ خزائن حاكمه بزجاجات الوسكي والنبيذ الفاخر.

ماذا نقول عن الجندي في خندق الحرب يراه العالم بأسره راكعاً أمام قائده ورئيس بلاده يقبل يديه وقدميه.

ماذا نقول عن مواطن يرى ويسمع قائده على شاشة التلفزيون وهو يعطي الأمان لمسؤول لهارب من ظلمه كي يعود إلى وطنه، ثم يراه يفتك به بعد عودته ويقتله شر قتلة.

ماذا نقول عن الشرطي أو الموظف الحكومي الذي يقبض راتباً يكاد لا يكفي إطعام عائلته لخمسة أيام من الشهر فيضطر بذلك لأن يمد يده ليشحذ البرطيل كسير النفس ذليلها؟..

ماذا نقول عن المعلم الذي يضيع نصف درس الرياضيات في تعليم وبيع "الوطنيات" ليحافظ على مصدر لقمة عيشه؟

ماذا نقول عن الشيخ الذي يعتلي منبر مسجده، أو عن الكاهن الذي يقف أمام هيكل كنيسته، ليشيد كل منهما بظالم متسلط وقاتل ويدعو إلى الله كي يطيل عمره؟

ماذا نقول عن كاتب يكتب ما لا يريد أن يكتب، أو قارئ لا يقرأ إلا ما يريد له حاكمه أن يقرأ؟

ماذا نقول عن مفكّر يُحاكَمُ على فكره ويُقاضَى على كتابه ويُفرَّق بينه وبن عائلته ويهَدَّدُ بالقتل إن تابع التفكير؟.. 

ماذا نقول عن التلميذ الذي يقضي الليالي يبذل الجهد لتحصيل علامات تؤهله لدخول الجامعة، ولكنه يفاجأ برفض القبول لأن هناك من هم أولى منه بدخولها رغم فشلهم، لا يشفع لهم بذلك إلاّ صلاتهم الحزبية أو العشائرية.

ماذا نقول عن المرأة التي لا تزال شرعاً أكثر انسحاقاً من الرجل المسحوق نفسه. هذه المرأة التي قالت عنها الشاعرة سعاد الصباح أنها من بلاد "أغلقت سماءها وحنطت نساءها، فالوجه فيها عورة والصوت فيها عورة والفكر فيها عورة والشعر فيها عورة والحب فيها عورة.. بلاد تذبح المرأة إن تكلمت أو فكرت أو كتبت أو عشقت.. بلاد تكره التعبير ولا ترى في الحلم إلاّ الجنس والسرير.."

ماذا نقول عن شعب بكامله حطمه أشقاؤه أكثر من تحطيم أعدائه له؟..

ماذا نقول عن شعب يُذبح أبناؤه كالخراف ومع ذلك نراه في الشوارع يَذبح الخراف ويرقص ابتهاجاً واحتفاءً بعيد ميلاد ظالمه وقاتل أبنائه؟..   

ماذا نقول عن إنسان محطم يُـقَـيِّـضُ له ربه أن يهرب من هذا الوطن الجحيم قبل أن يتم سحقه نهائياً، ومع ذلك يبقى يعيش وشبح حاكمه رابضاً على صدره وعاقلاً لسانه بيديه الرهيبتين.

ماذا نقول عن إنسان لم يعد يعرف كيف يقول  " لا " أو  " كفى " !

أبَعد كل هذا، هل لعاقلٍ أن يصدق، أنَّ هناك من يفكر بتحطيم إرادة وصبر وصمود وإيمان إنسان كهذا الإنسان؟.. أو بعبارة أفضل، هل يمكن لأحد أن يصدق أن إنساناً كهذا لا زال يملك إرادة أو صبراً أو إيماناً أو أية قدرة على مقاومة أي شيء؟

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط