إبراهيم عرفات / May 20, 2013

 

الميلاد والنشأة

أنا إبراهيم عرفات سليمان مصطفى من مواليد قرية ميت سلسيل مركز المنزلة دقهلية في عام ١٩٦٧، وقد نزحنا للشرقية قبل أن نولد واستوطننا قرية الصالحية التابعة لمركز فاقوس. كان والدي يعمل مبيض نحاس ثم سمكري بوابير جاز وأنا تعلمت منه هذه المهنة أثناء المرحلة الإعدادية وبهذا وجدت الوسيلة لتسديد احيتاجات المعيشة. تعلمت القراءة والكتابة وحفظ القرآن في الكتّاب على يد الشيخ حسيب، وكان دون أن يدري يغرس في داخلي عطش لمعرفة المزيد عن مجيء المسيح في آخر الزمان. كان يلقي علينا عظات مرة في الأسبوع ويتحدث عن مجيء المسيح قبل يوم القيامة وأنه هو بالذات- لا غيره- علم الساعة فلا تمترن بها. في وقت من الأوقات استأجر رجلان قبطيان غرفة في بيتنا ودون تدبير سابق تركا كتابًا مسيحيًا وكانت به أيات من الإنجيل وانغرست في عقلي الباطن وتركتني متعطشًا لقراءة ومعرفة المزيد. صحيح أن الإسلام فُرض علينا فرضًا وما لنا من خيار في مجتمع شمولي مشاعي يتم فيه توريث الدين مع بقية الموروثات بحلوها ومرها ولكن الله دائما كان يرمي بذار كلمته هنا وهناك حيث شاء لعلي أبحث عنه وأصل لجوهر الحقيقة لا لقشور الأمور كما وصلني من معرفة أولية بدائية طلسمية عن الله في الإسلام لأني علمت فيما بعد أن كل ما جاءني في الإسلام يمثل مرحلة طفولة الوعي وهذه المرحلة تمهيد للإعلان الكامل المزمع أن يعلنه الله بتمامه في كلمة الله ومسيحه. نعم، كنت سعيدًا في البداية بالإسلام وبما يقدمه ويكفي أن الإسلام أعطاني مفهوم أساسي أوليّ عن الله برغم ما فيه من بدائية ونقص، ذلك أنه الإله البعيد المنعزل الصمد الجاف الصلب الصلد الخشن الغليظ، ولكن بداية أولى خير من لا بداية بالمرة.

 

في رحاب الصوفية والإخوان:

عندما كنت بالصف الثاني الإعدادي ذهبت ذات مساء للمسجد لصلاة المغرب والتقيت جماعة أبو العزائم الصوفية وانضممت لحلقات الذكر لديهم فسررت في البداية لاعتقادي أنهم يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم يتذكرون، ولكني بعد مدة شعرت بالملل وشعرت أن هذا التمايل في الهواء يهين ما أنا عليه من ذكاء ووعي ولا يليق بي أن أترنح هكذا في الهواء وأكرر "الله حيّ" ولذلك توقفت عن الحضور معهم والاختلاف إلى حضرة الدراويش منهم. تلا ذلك أني في وقت آخر التقيت رجلين طيبين قاما بتحيتي بعد الصلاة وقال الواحد منهم: أنا الأخ محمد الإمام والآخر قال بمثله: أنا الأخ سليمان كحوش فقمت بتعريفي بنفسي كذلك وقلت: وأنا إبراهيم عرفات، فقاما بتصحيحي: الأخ إبراهيم عرفات. ثم قاما بدعوتي لحضور صلاة العصر معهم في اليوم التالي والتقيت بقية المجموعة ذات الوجه البشوش وعلى رأسهم الأخ سليمان هاشم والذي كان بمثابة أمير الجماعة وقد شجعني لحضور صلاة العصر في اليوم التالي وإلقاء كلمة بالمسجد وكان كريمًا بإعطائي بعض الكتب. حاولت تلخيص ما في الكتب كي أجهز كلمتي لكي ما ألقيها في المسجد ولكني وجدت الكلام فيه بعض الصعوبة فقررت أن أرتجل عظة من عندي وكان موضوعها الطريقة المثلى للإحتفال بمولد النبي وقلت لهم إن مولد النبي خير احتفال له لا يكون بالأكل ولا بالشراب ولا بالمظاهر ولكن بالاقتداء بسيرة النبي العطرة. اشتد اعجاب الجميع بي وأنا الطفل الذي لم يتجاوز الأربعة عشرة سنة يلقي كلمته في المسجد ويسجلها له الأخ عبد الحكيم سالم صاحب اللحية الطويلة والوجه البشوش والنفس الرقيقة الوديعة. وكانت هذه هي بداية لأنشطة متعددة أقوم بها مع جماعة الإخوان المسلمين في الصالحية وأجوارها حيث كنا نقطع عشرات وعشرات الكيلومترات على أقدامنا في هذه السن لتوعية الناس بأمور دينهم ولا أنسى أبدًا أني مشيت لمسافة طويلة من الصالحية إلى السماكين على قدمي حتى ما ألقي كلمة في المسجد في هذا المساء. وكم كنت سعيدًا بشعبيتي بين جماعة الإخوان المسلمين في الصالحية والسماكين والقصاصين وكفر الحاج عمر والبعض من فاقوس وكونوا في غاية اللطف والتشجيع معي ولم أعرف منهم سوى بشاشة الوجه وطلاقته والضحكة من القلب ورقة النفس. كنت أقوم بإلقاء كلمة الصباح كذلك في المدرسة يوميًا وكنت بمثابة امتداد للإخوان المسلمين في المدرسة ومن خلالي يتم تنسيق مسابقات حفظ القرآن وأنشطة مشابهة.

 

هذا دفع بالحاج عزازي للوشاية بي وابنه محمد كثيرًا ما ضيَّق الخناق علي وأرهبني نفسيًا بشتى الوسائل محذرًا من أن محمد منصور، مخبر في أمن الدولة، يقوم بتسجيل جميع خطبي بالمسجد من دورة المياه وأيضا وهو بالانتظار عند مدحت الحلاق. ضايقني ما رأيته من كراهية للإخوان المسلمين عندنا مع أنهم لم يؤذوا أحدًا أو يعرقلوه في حلقات الدروشة الصوفية الخاصة بهم. ألحت جماعة الحاج عزازي على والدي في أن يمنعني ولو بالإكراه من حضور اجتماعات جماعة السنيّة "الإخوان" واستجاب والدي لضغطهم وحلف بالطلاق أني لا أذهب للصلاة فيما بعد في جامع المحطة وضربني ولكمني في وجهي وأذى لي سنتي الأمامية. ولما والدي منعني بالقوة الجبرية من حضور لقاءات الإخوان المسلمين جاءني إحباط أحيانا وتوقفت عن الصلاة. ذات مرة فوجئت بوالدي يزعق ويقول: النحس حل علينا لأنك لا تصلي. بطلت تصلي ليه؟ ما تصلي ياد! إلخ.. يجبرونك على الصلاة وأين تصلي ومن تعبد وكيف لا وإله الإسلام نفسه يقول عنه القرآن إنه له أسلم من في السماوات طوعًا وكرهًا، وما يمنع والدي وغيره من إكراهي إن كان إله الإسلام نفسه يُكرِه الناس ويجبرهم على طاعته؟ بالإجبار فُطرنا على الإسلام وبالإجبار نبقى على الإسلام وبالإجبار نموت على الإسلام وبالإجبار ندخل الجنة بالسلاسل ونحن لها كارهون. وهناك حديث صحيح و نصه عند الإمام البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل"، و في رواية "عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل"، وفي رواية للطبراني وأبي نعيم: "عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل وهم كارهون"،  وفي البخاري عن أبي هريرة في تفسيره لقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" قال خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. وامتدت روح الإجبار والقهر إلى بيتنا فكنت أول من ألزم أختي بلبس الحجاب وضربتها عندما خلعته سهوًا.

وقد كان الأخ محمد إمام من أوائل من تعرفت بهم وأنا في الصف الثاني الإعدادي لدى انضمامي لجماعة الإخوان المسلمين بالصالحية، وكانت لحيته مهندمة قصيرة وصوته رقيقًا متواضعًا وكانت لديه طريقة لتحبيب أي إنسان في الإسلام. لذا في شخص الأخ محمد المتواضع أحببت كل شيء في الإسلام ولم أشك في شيء في الإسلام؛ وقد شجعني وقتها محمد على أن نصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع وكان يتكفل هو بإحضار الأطعمة الجميلة والجبنة القريش والتمر وكل ما لذ وطاب وكل هذا على نفقته في كرمه الحاتميّ. وكنت تحت متابعته وأحفظ القرآن سورة تلو سورة وكان يحرص على تعليمي قواعد التجويد في القرآن الكريم. هذا اسمه إدغام وذاك إدغام بغُنة وهذا تنخيم وهلم جرًا. لم يحدث أبدًا أنه قام بتوبيخي على شيء بل كان دائما يسعى لاكتشاف مواهبي ويدعمها ويشجعها؛ ورغم أني كنت ألقي كلمة بالمسجد في الاثنين الأول من كل شهر عربي وكلمتي تأتي بعد كلمة أمير الجماعة فلم يحدث أن أصاب الأخ محمد شيء من الغيرة بل كان يرضى دائما بأن يأخذ المتكأ الأخير وكل همه هو تنمية إبراهيم وأمثال إبراهيم وخلق جيل واعي لدينه فكان نموذجه في التلمذة مثلاً أعلى لي مدى الحياة. ولما طرحت عليه أسئلتي التي جاءت نتيجة بحثي وتفكيري استغرب وانزعج وسألني: من أين تأتيك هذه الأسئلة؟ وكنت أقرأ مطبوعات رابط العالم الإسلامي وهي تحذرنا من مواد النصارى وأسئلة النصارى وكيف أن النصارى لربما يستميلونك ويسألونك: المسيح كلمة الله، ماذا ترى في كلمة الله، أهي مخلوقة أم غير مخلوق؟ ومن طرائف الأمر أني من خلال مطبوعات السعودية، رابطة العالم الإسلامي، عرفت نوعية الأسئلة الصحيحة التي يجب أن أطرحها في بحثي عن الحق. وفي السنة الأولى من الكلية وجدت أن كتاب مادة التاريخ يستشهد بالكتاب المقدس كدليل على صحة ما في محافظة الشرقية من أثار وعندها تساءلت: لو أن الكتاب المقدس محرفًا كما يقولون، فكيف بالأثار في الشرقية وتل بسطة وغيرها يشهد على صحتها الكتاب المقدس؟ أليس علم الأثار دليلاً آخرًا على صحة الكتاب المقدس؟ ولما كنت في الصف الثاني بكلية الأداب وجدت أن كتاب مادة التاريخ للأستاذ محمد إبراهيم بكر يستشهد بالكتاب المقدس بغزارة لتبيان التطابق بين ما جاءت به الآثار وبين ما اكتشفوه مؤخرًا، في ذلك الوقت، في تل بسطة وغيرها مما يعود لأيام بني إسرائيل.

كنت مولعًا حد التدقيق بتطبيق أمور العبادة الإسلامية، ومع الاستنجاء علمت من الأخ سليمان كحوش أن غسل المؤخرة وتنظيفها من الخارج لا يكفي بل يلزم غسل الجلدة التي تختفي ولا تظهر إلا عند التغوط، وأغلب الظن أنها جلدة الإست. لم أصافح النساء بما أن النساء كُنّ يبايعن النبي من خلف حجاب. حاولت الامتناع عن سماع الأغاني الدنيوية وكان هذا شاقًا كثير المشقة على نفسي. وذات مرة وأنا في فاقوس احضرت الخزانات من محل اللحّام والتي كان والدي يعملها "بوابير جاز" بمحابس وأنا في الطريق وجدت خيمة بجوار محطة القطار فاشتريت سواكًا ومجلة التوحيد. فرحت بسواكي ورحت أمرره في أسناني ثم أخذت أقرأ في مجلة التوحيد وكانت بها مقالات عن الطهارة وكيف يتطهر الرجل وكيف تتطهر المرأة، ومن دقة التفاصيل التي قرأتها عن طهارة المرأة شعرت بالتدريج بحدوث انتصاب لي لم يحدث مثله من قبل واستغربت: كيف أقرأ في أحكام الدين وتأخذني الشهوة الجنسية إلى هذا الحد؟ شعرت بالذنب ولكن لم تكن هذه هي المرة الأولى فعندما كنت أتحدث مع اسماعيل هاشم في فقه الشافعي وأناقشه في أسئلة الامتحان فيحدثني عن العظمة في الفرج وأهمية ذلك وأحكامه في الوضوء وأحكام المخنث فقد وجدت في مواد الفقه الإسلامي ما يشبع شبقي الجنسي واستغربت من التناقض الصارخ بين وأد الشهوة ودين يحرّك الشهوة، وهذا يعود بي لمذكرات شابة سعودية من النابغات قالت إنها كانت تحب أن تجلس بجوار الحمام وتقرأ سورة المجادلة وعلى أثرها تشعر بهياج جنسي لم يحدث له مثيل وكيف يقوم القرآن بتلطيف الشهوة وما يحدث معنا هو تأجج الغريزة. هذا تكرر حدوثه معي ومع غيري من المسلمات والمسلمين الورعين.

 

ماذا وجدت في المسيح ولم أجده في الإسلام؟

في البداية لم أكن أبحث أبدًا عن دين آخر غير دين الإسلام، بل كنت مواظبًا على الصلوات قدر الإمكان بالمسجد، وكنت أجتهد على أن أستيقظ في الفجر للصلاة في المسجد مصليًا أن لا يتحرش بي كلاب الحاج إبراهيم عكيلة وكنت سعيد بالوصول للمسجد والتوضأ والصلاة جماعة. كنت أبحث عن المسجد الأبعد لأنهم علموني أنه كلما خطوت خطوة إلى المسجد كُتبت لي بها حسنة وحُطت عني سيئة، وطمعًا في الفوز برضى الله كنت أذهب للمسجد الأبعد أحيانا وليكن جامع السكة الحديد بجوار محطة القطار لا مسجد المحطة الأقرب. في أوقات كثيرة كنت أقوم بالأذان في المسجد وأذكر تلذذي بطريقة الأذان التي كنا ننادي بها في الإخوان المسلمين. ولكن مع قراءة الإنجيل من باب الفضول ورغبةً مني في نقض المسيحية كي أثبت فسادها وكي أقنع المسيحيين بالإسلام، وجدت نفسي في مواجهة يسوع المسيح، مسيح الإنجيل، وليس مجرد عيسى القرآن بشخصيته الأسطورية التي تبدو أقرب للخرافات منها للواقع. في المسيح في الإنجيل وجدت إنسان مثلي ولكنه ليس كأي إنسان، إنسان يفيض حب للجميع ودون أي تفرقة على أساس الدين أو العرق أو درجة التقوى فلم يحدث أنه مثلاً قال للزانية ابعدي عني يا شريرة ولكن برفق نظر لها ووهبها حبه ومنه استقبلت هي قلب الله فارتسم داخلها وبرقة شديدة قال: اذهبي ولا تخطئي ثانية. ولكن محمد لم يقل بمثل هذا بل كان يأمر برجم الزانية وقطع يد السارق وهذا يختلف عن الإله الذي نلقاه في الإنجيل والذي يعطي الإنسان كل فرصة للنجاة أي الخلاص ولا ييأس منه. كيف يطلب منا الله أن لا نيأس من رحمته وهو في القرآن ييأس منا ويريد عقابنا في أسرع وقت بالرجم أو بالإذلال وغيره؟ وأين هذا من قلب المسيح الكبير الذي طبق ما قال فهو قال في الإنجيل أن نسامح سبعين مرة سبعة وأيضا هو يسامحنا سبعين مرة سبعة أي إلى ما لا نهاية ولا يريد أبدًا عقابنا بل شفاء أنفسنا بينما إله الإسلام متعطش للعقاب وجهنم في القرآن يسألها: ونقول لجهنم هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ أين الإله الذي يفدي الإنسان من حفرة جهنم هنا لا أن يطرحه فيها سبعين خريفًا؟

 

حاولت قراءة كتب المسيحيين حتى أعرف خبايا دينهم وأقدر أن أجتذبهم للإسلام. وكان أنه كلما قرأت في الكتب المسيحية كلما شعرت بمزيج من السخرية والانبهار في وقت واحد: كانت هناك سخرية مما هو غريب وموجود في كتب المسيحيين وعقائدهم وانجذاب للمسيح الذي بيتكلم في الإنجيل ويمشي وقلبه كبير. المسيح حاضر على كل صفحة من صفحات الإنجيل وترى وجهه المنير وقلبه الذي يحب الجميع ولا ينظر أبدًا بأي تعاليّ نحو أي خاطيء مهما بلغت درجت خطيئته ذلك أنه "طبيب" ويعلم أن الخطاة مرضى والمرضى يحتاجون لطبيب والطب الذي يقدمه المسيح هو شفاء النفس وحريتها وخلاصها ونجاتها وعبورها للمنازل الأبدية بسلام. أمام المسيح يحدث انجذاب ونفور في وقت واحد: كلما استقطبني المسيح بحبه وشدني أكثر إليه كلما نفرت من  أي شيء ضد روح المسيح متمثلاً في التعاليم الإسلامية بما فيها من إقصاء وتعاليّ من جانب الإله وعدم الإحساس بالأمان وهناك في الإسلام لا أحد يأمن مكر الله حتى ولو لآخر لحظة . لا يوجد إحساس بالأمان مع الله في الإسلام ويمكن أن يغير رأيه في آخر لحظة كما نرى في الحديث التالي:

 حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة أنبأني سليمان الأعمش قال سمعت زيد بن وهب عن عبد الله قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها قال آدم إلا ذراع.

أعمل بعمل أهل الجنة ويكون بيني وبينها ذراع واحد فقط لا غير ويسبق علي الكتاب فأعمل بعمل أهل النار فأدخل النار؟ ما هذا الإله المزاجي في الإسلام؟ هذا الإله المزاجي هو في الواقع الأنا الأعلى لشخص محمد بن عبد الله إذ أن إله جاء على صورته والبدوي في الصحراء لا يأمن غدر الزمان ولا تقلب صروف الدهر وغدر الأهل والخلان وهذا أقصى ما يصل إليه في تصوره عن الله فجاء الإله هنا على صورة محمد بن عبد الله.

أيضًا انجذبت لبساطة الأقباط وروح الوداعة وبشاشة وجوههم وبراءة نفوسهم حيثما رأيتهم، على محطة القطار، في المدرسة، في القرية وهم يكافحون لأجل لقمة المعيشة ومثلهم مثل سائر الناس ولكنهم يختلفون عن باقي الناس بوجود فرح في قلوبهم قد ارتسم على وجوههم لا عبوس الوجه قمطريرا وخشونة الملامح بإسم التقوى. ولاحظت أن المسلم كلما كان مسلمًا اسميًا كلما كان أكثر إنسانية في تعامله مع الأقباط ولكن كلما اشتد التدين بالإسلام وسرت الروح الإسلامية في المسلم كلما ظهر إقصاؤه أكثر تجاه أي إنسان غير مسلم وإنْ يكن قبطيًا. وددت لو أن أقرأ إنجيل الأقباط هذا والخوف منع الناس من عرض مقدساتها ولكن كان هناك الإنجيل الحيّ المعاش عندما يصبح المسيحي نفسه رسالة حيّة مكتوبة من الله.

نتيجة لهذا كنت أنجذب أكثر للمسيح ولكل ما هو مسيحي والله كان يجذب لي ما تشتهيه نفسي فتأتيني البرامج المسيحية من قبرص ولبنان عبر التلفزيون في وقت لم تكن فيه الفضائيات المسيحية كما هو الحال الآن وأيضا أبحث عن برامج لتعليم الإنكليزية فتأتي برامج مسيحية لتعليمي الإنكليزية وإتقانها وكان الله يدبر الظروف فيما بدا مستحيلاً منها لتعميقي أكثر في المسيحية وكلما سمعت وشاهدت كلما تشبعت وتشربت أكثر فأكثر بالمسيحية ودون أن أدري فالمسيحية ليست حفنة من المعارف ولكنها روح الله الذي يشد النفس للمسيح فتتشرب بكل ما هو للمسيح والمسيحية.

 

بداية الشك ونقطة التحول

قررت أن أعمل على نشر الدعوة الإسلامية شرقًا وغربًا برغم مكائد الخصوم والأعداء وأول شيء سيكون أن أقوم بهداية المسيحيين للإسلام وهذا فكرت فيه بشكل جديّ أثناء المرحلة الثانوية وأنا طالب بمدرسة إكياد الثانوية. قرأت الكتاب المقدس باحثًا فيه عن العيوب والثغرات حتى أستخدمها ضد المسيحية وبهذا يسهل اعتناقهم للإسلام وعليه قرأت الكتاب المقدس بذهنية إسلامية وفي البداية فرحت وقلت إن هذا الكتاب لن يصمد ولغته تختلف عن بيان القرآن وسجعه وسوف يكون من السهل إقناع المسيحيين بالإسلام.  أول مرة جاءني الإنجيل كان بالبريد حيث أرسله لي صديقي "جون" بالمراسلة وكان الغلاف من الخارج يقول "الأخبار المفرحة" وأنا في كل هذا لم أعرف أنه إنجيل. ولما أخذت أقرأ ما فيه تعجبت وشعرت وكأنه يروي أحداث واقعنا الحياتي الحاضر في الصالحية وأقرب ما يكون لما نحن فيه وما عليه معاشنا. وتأثرت بشدة عند قراءة مثل الابن الضال ورأيت فيها صورة مختلفة عن أبوة الله غير موجودة بالمرة في الإسلام أو أي دين آخر على وجه الأرض. شدني فيما بعد قراءة المزامير لما هي عليه من لغة الدعاء والمناجاة الصادقة الصريحة مع الله.

لا يوجد مسلم يبحث عن الشك ويلتمسه لذاته ولكني كانت عندي أسئلة وكلما سألت أسئلتي نظروا لي بارتياب وأجابوا على الأسئلة بسؤال آخر: ما هي الكتب التي تقرأها وتدفعك لطرح هذه الأسئلة؟ هل لا زلت بعدك تستمع للمحطات الأجنبية وما تبثه من سموم صليبية حاقدة؟ ومن طريف الأمر أن أسئلتي خرجت من كتبهم الإسلامية ذاتها وليس من كتب خصوم الإسلام حيث كنت أقرأ بنهم كتب يرسلونها من رابطة العالم الإسلامي بالسعودية وكانوا يحذرون المسلمين تحذيراتهم الساذجة ويقولون: احذروا النصارى فسوف يقولون لك إن المسيح كلمة الله وما ترى في "كلمة منه"؟ وهل كلمة الله مخلوق أم غير مخلوق؟ وسوف يحدثونك عن آية الجزية في التوبة ٢٩ ويقولون لك أنظر لعدوانية الدين الإسلامي الحنيف وهم خاسئون والله منهم براء. وهذا دفعني بدوري لأتساءل: كيف يخلق الله، وما من خالق سواه، جماعة اسمهم المسيحيين ويأمرنا بعد ذلك بكراهيتهم ويقول لنا في القرآن "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء"؟ وهل الخالق الذي يحب ما خلق وروحه في كل ما خلق يعود ويقوم بشحن فريق من عباده بالبغضاء ضد فريق آخر؟ من المستحيل أن يكون الخالق على هذا النحو وهو يخلق البشر أجمعين سواسية كأسنان المشط ولا فرق بين أحد من خلائقه ومن المستحيل أن يكون الله هو الذي يأمر المسلم بإذلال غير المسلم لمجرد أن المسيحي رفض الخضوع والإذعان لما يعتبره المسلم أنه "دين الحق" والقرآن نفسه يناقض نفسه ويقول: ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة. وكيف يخلق الله آدم ولم يجعل له أكثر من حواء واحدة ثم يزعم القرآن أن الرجل فيما بعد يحق أن يكون له أكثر من "حواء" واحدة؟ ألم يقل القرآن نفسه "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"؟ فبقلب واحد أحب امرأة واحدة وأخلص لها ولا يعقل أني سأخلص لحشد من النساء بحجة أن الله قد حللهن لي في الزواج الشرعي. الشك في الإسلام لا يقتضي تبحرًا في المعرفة وإنما يقتضي الأمر شيء واحد فقط وهو وجود ضمير إنساني فيه الإنسان صادق مع نفسه ويجروء على أن يسأل الأسئلة دون خوف واثقًا أن الله لا يحتكره إنسان ولكن هو للجميع وهدفه الإنسان وليس مجرد سنّ الشرائع والأديان بحد ذاته إذ هذه جميعها وُضِعت لأجل الإنسان ولراحته وتنظيم معاشه لا لتشويهه بحدود بشعة مثل حد السرقة والذي يشرع الإسلام فيه بقطع يد السارق وعندها تكون المحصلة النهائية فيه عندنا مجتمع من المشوهين والذين نكون قد نجحنا فقط في بتر أعضائهم والشر لا يزال كما هو في قلوبهم ولم يتم بتره، ذلك أن الشر لا يطهره بتر يد أو قطع ساق وإنما يطهره روح الله من داخل قلب الإنسان.

في البداية كان كل همي هو نشر الدعوة الإسلامية ولذا اتجهت للإنجيل لفهم خباياه واستخدامه كي ما أقنع المسيحيين وأتسبب في هدايتهم للإسلام. وقد أعارني الأخ محمد إمام  كتاب "خواطر مسلم حول الجهاد والأناجيل والأقليات" لـ محمد جلال كشك فقرأته بتقدير شديد وازداد تمسكي أكثر فأكثر بالإسلام، ونقلت منه كل المتناقضات في الكتاب المقدس. في الوقت ذاته كنت أقرأ الكتاب المقدس قراءة عابرة وأدون منه ما يعجبني من أقوال المسيح وكأنها حكم مأثورة وكذلك بعض الأدعية والتلاوات من سفر المزامير. في الإنجيل قابلت شخص المسيح وليس مجرد أيات مكتوبة فازداد انجذابي لهذا المسيح أكثر فأكثر فقد كان مختلفًا عن كل تصور جاء لبالي من قبل. دائما شعرت أن هناك قوة تدفعني في باطني للالتقاء بالمسيح في الإنجيل وكأني أريد أن ألمسه وأحس بوجوده إلى جواري. في الوقت ذاته، كنت أشاهد المسلسل الإسلامي "محمد رسول الله" وكان صوت ياسمين الخيام يلهب قلبي بحب أكبر للرسول محمد وهذا الحب كان يحركني لمحاولة كتابة أشعار في مدح الرسول. ثارت ثورة الشك في نفسي وتساءلت: هل فعلا تم صلب المسيح؟ ولماذا ينكر القرآن حدث تاريخي تم على رؤوس الأشهاد كصلب المسيح؟ وهل فعلا محمد والمسيح يستويان؟ المسيح قال: احبوا أعداءكم ولم يلطخ يداه بسفك دم أي إنسان بعكس تاريخ محمد والمشهور  باغيتالاته لمن هجوه في الشعر أو سبوه، ويكفي أن نقرأ كتب هادي العلوي مثل "الاغتيال السياسي في الإسلام" و"من تاريخ التعذيب في الإسلام"، وهما موجودان على الانترنت.

وفي عام ١٩٨٦ جاء لزيارتي صديق الأميركي جون ماكلين وكنت قد عرفته من خلال مجلة "هو وهي" وراسلته في البداية بهدف إتقان اللغة الإنكليزية وأيضا هدايته للإسلام فأرسلت له بعض الكتب من خلال جمعية تبليغ الإسلام في الاسكندرية، وهو أرسل لي إنجيل لوقا (الأخبار المفرحة للطبيب اليوناني لوقا) والذي قرأته بشغف بمجرد وصوله بالبريد عقب صلاة الظهر. وبعد مراسلة دامت سنتين زارني جون في الصالحية وقابلته في المطار وأخذنا طريق غير مباشر تفاديًا لأنظار الناس في القرية فلا تكون صدمة لهم في البداية. في ذلك اليوم أكلنا أرز وسمك وشعرت أنه أخ لي بكل معنى الكلمة. لاحظت حرصه على قراءة الإنجيل قبل أن ينام وحركني الفضول لأسئله عما يقرأ فقال: المتكبرون استهزأوا بي للغاية وأما أنا فعن شريعتك لم أمِل. راقبته عن قرب وعن بعد، كيف يصلي وكيف يقرأ إنجيله كل صباح وكل مساء وكيف يفكر وشعرت بتدبير الله الحاني لي في أنه أتى لي بشخص مخصوص من أميركا ليأتي إلى بيتي البسيط في القرية ليخبرني عن المسيح. في ذلك الوقت تضاربت في داخلي عاطفتان: عاطفة تريد التمسك بالإسلام والولاء لما ولدت فيه وكنت أدين به وعاطفة أخرى تشدني نحو المسيح بكل ما فيه من جمال غير موجود في محمد والإسلام كله، وكان من الضروري أن أتخذ موقف محدد. قبل أن يسافر جون إلى بلده وبعد زيارة دامت شهرين قلت له إن زيارته جعلت مني مسلمًا أكثر تمسكًا بالإسلام لأني خشيت أن يُقال إنهم أغروه واستمالوه بضعف للمسيحية ولكني في الحقيقة أنكرت ما كان الله يفعله في قلبي من انجذاب قوي عميق للمسيح يفوق كل شرح إذ كان كلما شعرت بضيق نفس أسرعت فورًا للإنجيل وقرأته وعندها أشعر فورًا براحة غير عادية؛ هذا بالإضافة للترانيم المسيحية التي قد أصبحت جزءًا أساسيا من حياتي اليومية وقد اعتدت الشدو لإلهي مترنمًا بحبه الفيّاض وخلاصه وقوة الصليب. هذا نتج عنه صراع فلم أعد مسلمًا كما كنت بل صرت أنفر من الكثير في الإسلام وأيضًا لم أكن مسيحيًا كما أنا الآن.

وكانت الصلاة المسيحية من الأسباب القوية لانجذابي للمسيحية حيث عندما زارني صديقي الأميركي جون ماكلين وأنا عمري ١٩ سنة شاهدت، فيما شاهدت، كيف يصلي ولاحظت شيء لم ألحظه من قبل في أي إنسان من حولي باعتبار هو أول مسيحي كنت أعيش بالقرب منه في منزل واحد، وكان أكثر شيء لاحظته هو أنه عندما كان يصلي أن هيئة وجهه تتغير ويظهر وجهه منيرًا!

طلعت فوق سطح بيتنا في الصالحية ومعي كتاب لـ ريتشارد ورمبراند عن احتمال العذاب لأجل المسيح. قرأت تفاصيل الألم وكم أن هناك ممن تتمزق أجسامهم وتتدمر كنائسهم وما نقموا منهم إلا أن حملوا الصليب وعاشوه. تأملت في ألام الأقباط من حولي والنظرة الدونية لهم وكل ذنبهم هو أنهم يحملون إسم المسيح. الصراع الديني كان يحتدم على أشده داخل نفسي: أين هي الحقيقة يا رب؟ أهي في المسيح أم محمد؟ أرجوك أظهر لي أن الحقيقة بنفسك والحقيقة التي تظهرها لي سوف أنادي بها طوال أيام حياتي. بكيت وتساءلت: هل فعلا أنا مستعد لهذا؟ لو أن الحق في المسيحية فهذا يعني أني سأكون عارًا عند أهلي وسأجلب العار على كل من يمت لي بصلة قرابة؛ ثم تأملت حقيقة هامة أشرقت في نفسي وهي أن آلام الأقباط وأمانتهم في حمل الصليب اليوم وعلى مدار التاريخ لأكبر برهان ساطع على صدق عقيدة الصلب لدى المسيحيين. قلت في نفسي: كيف يتحمل هؤلاء الأقباط كل هذه الآلام إنْ لم يكن المسيح حقًا قد جاء ومات على الصليب لأجلهم؟ أقوى برهان على صدق المسيحية هي أمانة وثبات المسيحيين في حمل صليبهم بفرح ورغم الألم الذي يمزق نفوسهم. وبينما كنت أنظر بنفور فيما مضى للصليب على صدور المسيحيات ورجال الكهنوت شعرت برغبة قوية داخلي لأن أنحني وأسجد أمام المصلوب على الصليب وأقول له: أشكرك على أنك قبلت الألم وتنسّمه الآب السماوي برضا وسرور. أنت المسيح؛ أنت ابن الله الحبيب الذي عنه قد رضيت يا أيها الآب. حياة الصليب، إذًا، هي أفضل حجة للشهادة عن صحة المسيحية وليس ما تذخر به الكتب والمجلدات على أرفف المكتبات. في الصليب قهر المسيح الذات، وهذا قهر الشيطان، وحبه وفداؤه وهبني كل حياتي.

غير أن الله دائمًا كانت له طرقه الخاصة به لإرجاعي من جديد لمشوار البحث بعد أن أكون يأست من الوصول للحقيقة وتركت الموضوع جانبًا. قلت لصديقي الأميركي جون أثناء زيارته لنا في الصالحية إن المسيحية سخيفة. تصور يا جون، يقولون إن بولس كان شاول فيما مضى وهل معقول أن يحدث هذا؟ أجاب جون بابتسامة عريضة: بالتأكيد حدث هذا وهذا أقوى سبب يجعلني صابر معك ولا أفقد الأمل لأني واثق أنك ستكون في يوم من الأيام مثل بولس والذي كان ينقد المسيحية ولكنه يعود ويصبح أكثر من دافع عنها في تاريخها. وذات ليلة كنت في أرق شديد وعاد الموضوع لبالي بقوة وتساءلت: أين يا ترى تكون الحقيقة يا ربي؟ وفتحت كتاب مقدس غلافه أحمر جاءني من كينيا من إحدى معارف جون وبالصدفة انفتح الكتاب على آية في أعمال الرسل: شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ استغربت.. أنا أضطهدك؟ أنا لا أعرف كيف أنام. أنا في حيرة وحيرتي تقتلني فكيف اضطهدتك وأين هي الحقيقة ولماذا لا تظهرها لي.

نصحني الأخ محمد إمام أن أعود لتلاوة القرآن يوميًا وأن أواظب على الصلاة وهذه لم تكن إلا فتنة من عمل الشيطان ليصرفني عن الحق فأطعته. كان الأخ محمد يراقب ما يحدث من تغير تدريجي بطيء في حياتي وخاصة بعد زيارة صديقي الأميركي جون ماكلين. وطاعة له وامتثالاً لنصحه وإرشاده بدأت أقرأ القرآن كل يوم ، صفحتين كل يوم، ولكني لم أكمل إذ شعرت بنفور من كل أيات العذاب هذه وخطاب التهديد والوعيد وجهنم التي تشتعل احتراقًا على كل صفحة من صفحات القرآن فهذا كتاب وعيد لا "أخبار لوقا المفرحة" كالتي جاءتني بالبريد من أميركا. توقفت عن قراءة القرآن لأني كلما قرأت كلما شعرت باختناق في التنفس وانقباض شديد في نفسي وساد الغم على عقلي ومعنوياتي، ولست أنا الوحيد في هذا بل كثيرون من المسلمين يرفضون قراءة القرآن لأنهم يشعرون بالاختناق عند قراءته، ذلك أنه كتاب ليس من روح الله ولا يمت لروح الإله الحب بأي صلة. هذه ليست مجرد أيات مرصوفة ببديع اللفظ وسجع الكلام بل وراء الكلام روح، وهي روح إسلامية تبث الخوف والإقصاء والرعب واختناق التنفس وانقباض النفس.

لكني واظبت على الصلاة في المسجد، وعند السجود رفعت قلبي إلى الله لأنهم علموننا إنه أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد، وأثناء السجود طلبت من الله أن يظهر لي الحقيقة فدعوته: يا رب، أين الحقيقة. هل هي في المسيح أم محمد؟ أرجوك أن تظهر لي الحقيقة والحقيقة التي تظهرها أنت لي سوف أنادي بها طوال حياتي ومن على أعلى قمم السطوح، ومهما كلف الثمن. وذات ليلة في صيف عام ١٩٨٧ تراءى لي المسيح في حلم وقال لي بصوته الحنون وبالانجليزية: أحبك. شعرت أنه يبدأ بالمبادرة وأنه قد أحبني أولاً فأجبته أيضا بالانجليزية: أحبك. أعرفك. أعرف أنك أبدي وأزلي. كنت أبكي أمامه في الحلم وأشعر أني مثل هذه المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي والتي قد بلّلت قدماه بالدموع وغسلت رجليه بشعر رأسها. لم أكن أفضل حالاً منها بل هي وأنا نتساوى الآن أمام قدمي المسيح. كلانا يفتقر وبشدة للحب. ولما أفقت من نومي وجدت بالفعل دموع حقيقية على وجهي وصرخت أكرر العبارات ذاتها للمسيح في المناجاة مؤكدًا على حبي له. قضيت اليوم في صلاة حارة مفعمة بالفرح والتراتيل وأنا أهمس للمسيح: أحبك، أعرفك، أعرف أنك أبدي وأزلي. وبسبب هذا اللقاء بيني وبين المسيح ، زالت جميع الشكوك وقبلت جميع حقائق المسيح وآمنت بكل ما هو في المسيحية. قشور الشك سقطت عني. فكان هذا اللقاء فاصلاً في حياتي كلها وبسببه تم القضاء على جميع الشكوك حول الإيمان المسيحي. لقاء المسيح بي أجاب على جميع تساؤلاتي واعتراضاتي. المسيح بشخصه هو الجواب على كل سؤال يدور بعقلي. كان عندي ٢٣ سؤال تقريبًا من الاعتراضات على الكتاب المقدس ولما حدث أن التقاني المسيح كان هذا "اللقاء" هو بحد ذاته إجابة قاطعة على جميع الأسئلة وانشغلت بالمسيح ولم أعد أنشغل بالأسئلة لأن كل ما يهم هو "من هو المسيح" وهذا ما هو أساسي.

أثناء فترة الحيرة وأنا محتار بين الإسلام للمسيحية، كان أعظم برهان عندي على صحة المسيحية عندما يصبح الله ذاته برهانًا قاطعًا على ذاته ولا يأتي البرهان من الخارج بل من الله نفسه إذ هذا هو برهان الروح والقوة. جارنا محمد عكيلة أقسم بالإيمان المغلظة في بنك القرية بالصالحية وقال: تلاتة بالله العظيم يا إبراهيم، لو جبت واحد مسيحي للبيت أو جبت جون بتاعك ده من أميركا تاني لـ يكون مصلوب على عمود النور. أصابتني قشعريرة وخوف، وفي الوقت ذاته تراءت لي صورة المسيح الذي ارتفع على الصليب منذ ألفي سنة وارتضى الألم عن طيب خاطر، وكأن عمود النور سيصبح لي نوع من أنواع الصلب. ولما رجعت إلى البيت وجربت قوة الصلاة المسيحية وقلت في استرخاء تام على الكنبة: يا رب، هل ترضى أن يستقوى محمد ابن الحاج إبراهيم عليّ؟ ليس لي سند ولا أهل ولا عضد في هذا المكان سواك. أنت سمعت تهديده وأنت كفيل به. في خلال ذلك الأسبوع تم نقله لمكان عمل بعيد جدًا وهو يضرب كفًا بكف وكيف يحصل هذا وبذلك ابتعد شره عني. سجلت هذا في "الأجندة" حيث كنت أدون مقارناتي بين الإسلام والمسيحية. وغدروا بي وسرقوا الأجندة وقاموا بإيصالها لمباحث أمن الدولة بفاقوس. لكن هذه المذكرات تم سحبها على ماكينة التصوير لمئات النسخ لأنهم أرادوا فضحي وإذلالي وغاب عن بالهم أنهم يقدمون أكبر دعاية مجانية للتبشير بالمسيحية. وقد شهد لذلك عمال السكة الحديد في الصالحية وأنا راجع من الكلية فقالوا لي في القطار: نحن نعرف لماذا اعتنقت المسيحية. نعم نعرف ونقدر موقفك فأنت قد قابلت إله يستجيب لصلاتك وذكرت ذلك في نماذج متعددة ومنها موقفك مع محمد إبراهيم عكيلة. وهكذا كانت رحلة بحثي مصحوبة بتأكيدات وبراهين الله نفسه عن نفسه بنفسه حيث كلما كنت أصلي من أجل شيء وطلبت في بساطة الأطفال تدخل الله وجدت إله المحبة يفتقدني بعنايته وبعنايته يؤكد لي مرة تلو مرة مجددًا على صحة المشوار الجديد الذي اتخذته لنفسي إذ أني لم أومن بمجموعة أفكار دينية جديدة لها بريقها بل أودعت حياتي بالكامل للإله الحي، لإله حقيقي قد صار كل حياتي وقد تسلّم هو مني كل شيء، وكان أنه كلما مشيت خطوة للأمام صار هو يؤكد لي بنفسه أنه معي ممسكًا بيدي اليمنى ويقول لي: شاطر يا إبراهيم، استمر. لا تفقد الأمل. أنت لا تحمل الصليب وحدك بل أنا أحمل معك كل همومك وأحزانك وأسير معك خطوة بخطوة؛ ولذا تحمست لمواصلة مشواري في المسيحية وإلى الآن سيري مع إلهي على هذا المستوى: إله العناية.

الإنجيل في البريد:

كتبت رسالة لإذاعة حول العالم أطلب فيها الإنجيل لصديقي عبد الحكيم أبو هاشم الطالب الأزهري من باب الفضول والعلم بالشيء لا الجهل به واستغللت الفرصة لاستعارة هذا الإنجيل منه أطول فرصة ممكنة. أيضًا وصلتني نسخة من إنجيل لوقا بالبريد ذات غلاف أخضر قديم مكتوب عليه "الأخبار المفرحة للطبيب اليوناني لوقا" وقد جاءني من صديقي بالمراسلة من جون، وبدأت أتصفحه في جامع المحطة فور انتهاء صلاة الضهر ولم أنتظر حتى أصل البيت من شدة شغفي بما في هذا الكتاب من أميركا باللغة العربية.

في أوقات العصاري كان يطيب لي الخروج من بيتي ومعي الكتاب المقدس الذي أخذته من عبد الحكيم على أمل أن لا يسألني أحد عما بيدي، وتستوقفني الجارة مغازلة: عريسي أهوه، أنا جاية أهو. يحمر وجهي من الخجل ورأسي مطأطأة للأرض وأواصل السير وأتصفح المزامير. خوار البقر ترنيمة من ترانيم الله وكل شيء حولي يسبح بحمد الله والآن هو دوري لكي أناجي أنا الله بكل كلمة أقرأها في المزامير. وسط المزارع أستنشق النسيم العليل وأعلن مع داود النبي ما هو حاصل معي الآن: يا رب، في مراعٍ خضر تربضني. ثم أحدق النظر في الترعة وأرتاح لانسيابيتها وأعلن: إلى مياه الراحة توردني يا رب وليتك تفيض فيَّ بروحك أنت وتنساب في كل باطني روحًا وراحةً. وهنا فهمت بالفطنة العادية وأنا لا أزال مسلمًا أن كل آية في المزامير هي لمناجاة الله فأترجم ما أقرأ إلى همس مباشر للحبيب الأول، الرب إلهي، وأعلن للناس عامة: إنه الرب، حبيبي الذي تهيم به نفسي وتناجيه.. حبيبي أهوه! إنه الحبيب الحقيقي الذي ما بعده من حبيب.

 

عندما طالعت الكتاب المقدس من باب الفضول لأول مرة، وكان قد جاءني عن طريق إذاعة حول العالم بالبريد في عام ١٩٨٥، أعجبني فيه السرد القصصي في سفر التكوين ولكني وجدت أن أسلوبه يختلف عن أسلوب القرآن السجعي الشعري الذي تعودت على ترديده في التلاوة. وعندما قرأت أكثر في سفر إشعيا اطمأننت أكثر إلى نفسي وقلت: لا يوجد في هذا الكتاب أي شيء أخشاه على ديني الإسلام، ولا يوجد شيء في المسيحية ما يبدو أنه يشدني إليها بعيدًا عن الإسلام بل كلما قرأت أكثر وأكثر في سفر إشعيا كلما وجدت الكتاب المقدس أكثر بساطة. وبالتالي لا داعي للخوف علي من دخول المسيحية ويمكن أن أواصل قراءة الكتاب المقدس من باب العلم بالشيء لا الجهل به. ظننت أن تمسكي بالإسلام سيزداد أكثر كلما قرأت أكثر في المسيحية فحدث العكس حيث حدث أنه كلما قرأت كلام المسيح عبر صفحات الإنجيل كلما انجذبت أكثر لشخصه وزاد تعلقي به وأردت التعرف إليه أكثر معرفة شخصية، وكلما ترسّخ حب المسيح في قلبي كلما قل تعلقي بالإسلام. لا يجب التركيز على نقد الإسلام ولكن على زيادة حضور المسيح في نفس المسلم والمسيح نفسه سيطرد بروحه أي شيء ليس منه بما في ذلك روح الإسلام.

وقد وجدت أني كلما قرأت الإنجيل أكثر فأكثر كلما ازداد تعلقي بالله أبي وإلى أبي كان اشتياقي والشوق إليه كان يغلبني ويصرف عني التشبث بالماضي الذي لم أختره، الموروث الإسلامي، لأن العطش إلى الحقيقة لا ترويه عقائد جافة صماء وإنما الإله الحي الحقيقي وحده، أبي، ماء الحياة الذي نزلّ وحلّ بيننا على أرضنا وتلامست معه نفسي في المسيح. أقرأ الإنجيل ببساطة الأطفال فإذ بقلبي يسخن بالصلاة ويحركني لأن أقول كلام لله لم يكن في بالي من قبل وأشعر أني أسعد إنسان في الدنيا ويكفي أن تكون الدنيا هي أنا وربنا فقط.

في الإنجيل لم يكن يهمني من هو هذا المسيح وعما إذا كان هو إله أم نصف إله أم إنسان بل كان كل ما يشغلني هو أني الآن أمام المسيح. ولذا أقول لا تشغلوا بالكم بشرح العقائد المسيحية والاستماتة في الدفاع عنها في البدايات، ولا تشغلوا بالكم بتوضيح اللاهوت والناسوت، ولا تشغلوا بالكم بقضايا الانبثاق وجدل المجامع ولا تشغلوا بالكم بطبيعة المسيح وأيهما الأدق وغير الأدق ولكن ليكن شغلكم الشاغل شخص المسيح كما هو ومتى ظهر المسيح كما هو فسوف يُظهر نفسه لقلوب البعيدين. دروس اللاهوت لا تجدي هنا شيئا وما يجدي فقط هو معرفة المسيح.

وسفر إشعيا الذي سخرت منه في البداية صار فيما بعد أفضل وسيلة لتقوية إيماني والتخفيف عني وسط الآلام والاضطهادات بآيات مثل "عزوا شعبي، عزوا شعبي" و"كطفل تعزيه أمه هكذا أعزيكم" وأيات أخرى كثيرة كان وقعها قويًا في نفسي وتبسمت وقلت: ألم يكن هذا السفر فيما مضى حجتي في رفض المسيحية والسخرية منها؟ الآن ليس هناك ما يريح قلبي الجريح من الاضطهادات ويخفف عني الأحزان أفضل من سفر إشعيا! قبل دخولي المسيحية كنت أحتقر الكتاب المقدس وأضع قدمي عليه وأقول هذا كتاب محرف والقرآن فقط كتاب الله، ولكني بعد إيماني بالمسيحية كنت أحرص عندما أذهب للنوم على أن أضع الكتاب المقدس إلى جوار صدري وأطمع بكرم من الله في أن يتراءى بروحه من جديد برؤية جديدة  كما أشفق علي المسيح من قبل وظهر وقال: أحبك. لذلك فإن أفضل وسيلة للدفاع عن المسيحية تكون بأن ينصب كل اهتمامنا على عرض المسيح نفسه كما هو، كما نعيش نحن معه يومًا بيوم ولحظة بلحظة، ونعرضه بأكبر قدر جذاب لأن هناك جاذبية فعلية في شخصية المسيح؛ ومتى جذب المسيح القلوب إليه فلن ترتبك بما يُسمى بمعضلات أو إشكاليات النص الكتاب المقدس ذلك أن المسيحية ترتكز على شخص المسيح نفسه في كل ما قال وكل ما فعل.

حمادة حليم صالح الحوت وبداية الاضطهادات:

ذات ظهيرة جلسنا جنب الطابونة وسألني حمادة، صديق الطفولة، هل المسيح فعلا تم صلبه؟ لم أشأ الإفصاح عن تركي الإسلام وحاولت التكتم حماية لي ولأسرتي ولكني شعرت بشيء، بوازع داخلي، يقول لي إنه ينبغي علي أن أشهد للحقيقة فقلت له يا حمادة، هناك نظرتان، النظرة الإسلامية كما تعرفها وهي تنفي الصلب، وهناك الصلب يا حمادة باعتباره حدث تاريخي حدث على رؤوس الأشهاد وعلى مرأى العيان من كل هؤلاء، ولك يا حمادة أن تختار أيهما يوافقك. قال حمادة: يا إبراهيم، كم فكرت أحيانا أبيع ديني. فابتسمت في داخلي لأني شممت رائحة التفكير الإسلامي المعتاد حيث المسلم يظن أن دينه قابل للبيع وأن هناك حقًا من هو مستعد لـ "شراء" دينه ولا أدري ما تسعيرة دينه في سوق الأديان. قلت له: يا حمادة، الدين بينك وبين الله وليس للبيع أو الشراء. حاول حمادة استدراجي أكثر وسألني: هل أنت مستريح ماديًا؟ أجبته: أكيد الحمد لله. فقال: طب ليه مش باين؟ فقلت له: داري على شمعتك تقيد، ثم ضحكت، وصار هذا المثل في القرية منسوبًا لي على أني قلته لحمادة. في كل مرة كان يأتيني حمادة ويصلي معي بصلاة المسيحيين ويستفسر أكثر عن المسيحية وأجيبه بأمانة وهو يصلي معي وفي كل مرة كان يصلي كان جسمه البني البشرة يحمر ويزداد احمرارًا ثم ينتفض كلما ذكرت اسم المسيح. قال لي حمادة: لا يا عم ما عدتش عايز أصلي معاك بإسم المسيح وقلت له: هذا هو الروح القدس وأمامه لا يبقى جسم كما هو بل قد ينتفض الكيان كله.

ثم أرسلوا لي شاب آخر، يسري محمد عبد الخالق، وأخذ مني دروس في الإنجيل في ضوء كتاب "مباحث المجتهدين" لـ نقولا يعقوب غبريل وأجاب على الأسئلة إجابات نموذجية دهشت لها؛ وكان يسري يصلي معي هو الآخر كي ما يصبح مسيحيًا ولم يدر ببالي أن هذه مؤامرة كانت تُحاك لي للإيقاع بي. وذات يوم جمعة كنت بالمنزل أصلي وجاءني حمادة وقال: سليمان هاشم ابن خالتي (الأمير السابق لي في الإخوان المسلمين لما كنت معهم) عرف حقيقة ما نفعله وهو غاضب. قلت له: يا حمادة أنا لا أخشى شيء. في يوم جمعة كهذا تم صلب سيدنا وتحمل الألم لأجلنا وافتدانا على الصليب بدماه. قال لي حمادة: أنا جاهز أن أنال المعمودية. ثم سألني حمادة أن يشرب وذهبت لإحضار الماء له كي ما يشرب ولما رجعت والـ قُلة في يدي وجدت أن حمادة قفز من الشباك ومعه الأجندة وفيها مذكراتي وبها قصة تحولي للمسيحية ورسائل تهنئة من العراق على دخولي المسيحية. أسرع حمادة لتوه إلى مكتب تصوير محمد إبراهيم عكيلة وقاموا بتصوير هذه المذكرات لمئات النسخ بهدف فضحي. لم يأت لبالهم أنهم وهم يحاولون فضحي يقدمون أفضل دعاية مجانية للمسيحية لنشرها بين الشباب وعلى نفقتهم؛ فقد انتشرت مذكراتي في كل مكان وصار القاصي والداني يقرأها وتثار التساؤلات لدى الجميع وفيها شرحت الكثير من عقائد المسيحية للمسلمين بالشكل الذي فهمته واقتنعت به. وركضت وراء حمادة فلم أجده فقد سبق السيف العذل وكان الأمر بيد قادتي السابقين في الإخوان المسلمين. قال سليمان: تعالى صلي يا إبراهيم معنا صلاة العصر. أجبته باصطناع: أكيد. صفعني بكامل قوته على وجهي وصرخ مكررًا يا نصراني يا كافر! خرج المسلمون من المسجد وانهالوا ضربًا علي وقالوا: أنت عايز تسيب الإسلام يالة! حاولت إنكار ذلك وقلت إن سليمان كان غاضب مني لأني تركت الإخوان المسلمين. ضربوني أكثر وتذكرت كل ما حفظته من ترانيم نجيب لبيب: أنا فرحان رغم الدمع إلـ بعيوني.. مش نسيان إيدو يسوع الحنوني.. تمسح من عيني الدمعة.. تزرع في قلبي الفرحة وبدرب الغربة تهديني..  تراءت كل هذه الترانيم العذبة أمام عيني ومعها صورة المسيح بوضوح وكأنه شريط فيديو حيّ. ظهر فجأة الريس عبادي (القومسيونجي) وقال : بس، سيبوه. كل واحد خليه في حاله، واصطحبني من يدي وأخذني من البيت حتى لا يقتلوني فمثلاً عبد العال جوز أخت سليمان أخرج المطواة من جيبه وأراد أن يطعنني بها وغيره أراد أن ينتقم بأشد شراسة غيرةً منهم على الإسلام. رأيت حزن الريس عبادي وألمه على تركي الإسلام وقال لي إنه قد تبرّأ مني بعد أن كان ينظر بإعجاب لي لتفوقي بالمدرسة وفي اللغات ومواظبتي على الصلاة؛ وقالت والدتي أمامه إنها هي الأخرى تتبرأ مني. قررت في ذلك اليوم الهروب من الصالحية وكذبت على والدتي إني سأختبيء عند إخوالي بالدقهلية وحتى لا يقيم المسلمون عليّ حد الردة ولأن الإسلام يقول إن مثلي سوف يُقتل ولابد أن أهرب بأي طريقة وفي أسرع وقت ممكن. وأخذت الشنطة السمسونايت وبها بعض ملابسي وعشرين جنيه كانت كل ما أملك واكتسحت الحقول إلى أن وصلت لنقطة المرور بين الصالحية والإسماعيلية. وعندما لاحظني ولد في سن المراهقة وصرخ مناديًا عليهم أن يمنعوني من الهرب. سألني شرطي المرور عن بطاقتي فاصطنعت الثقة الكاملة بالنفس وأعطيته البطاقة فاطمئن وهربت. في ذلك الوقت قام رجال نقطة بوليس الصالحية بإرسال حملة ورائي لكي يرجعوني ثانية وبهدف حبسي ولكنهم لم يروا شيئًا وقد خبأني الله عن عيونهم إلى أن وصلت للإسماعيلية ومن هناك ركبت سيارة بيجو بالأجرة للاختباء في شبرا بالقاهرة.

 

في القاهرة قضيت يومين أو أكثر ثم رجعت للصالحية لأني علمت أن الاختفاء للأبد لن يحل شيء وسيعقد الأمور على والدتي وأيضا في حياتي مستقبلاً. ولما رجعت قلت لهم إني مسلم ونطقت الشهادتين شكلاً من الخارج فقط حتى تهدأ ثورة غضبهم وقد تم هذا بعض الشيء. أمام البيت وجدت حشد غاضب من المسلمين فخرجت لهم وقلت: المسلم وصل فهللوا وكبّروا فتألمت لحال الناس وأنهم يضطرون الواحد رغما عنه إلى نفاقهم ولا يتركون للإنسان أن يختار ما يشاء. كل ما كان يشغل بالي هو أن لا يقتلوا أهلي ويتركوا والدتي وشأنهم وأن لا يحرقوا بيتنا كما هددوا. وبدأ استجوابي في غرفة نومي وسألوني: هل دفع المسيحيون لي مالاً؟ وتألمت من هذا التضييق. قال أحدهم: لن نترك البيت إلا لو قال لنا إنه فعلا اعتنق المسيحية وكان هذا فيما مضى وأنه رجع الإسلام. رغبت في أن أريحه وقلت: نعم اعتنقت المسيحية. فبصق عندي محمود ابن الحاج ابراهيم وقال: الله يلعنك. ثم قال ابن عمه إبراهيم أبو علي: يا جماعة خلصونا.. لو عايزين تقتلوه اقتلوه وريحونا ولو عايزين تسيبوه خلصونا بس عايزين نمشي. فاستغربت من الأريحية التي كان إبراهيم يتحدث بها عن قتلي وكأني بقرة يذبحونها بكل سهولة وقلت: حتى لو نافقتهم فمن رابع المستحيلات أن أرجع لهذا الدين الزائف الكاذب الذي يغرس رغبة القتل في داخل الناس بهذا الشكل القبيح. تسلل عبد الحكيم أبو هاشم لنقطة الشرطة وأحضرهم لحسم الموقف فجاء المقدم أحمد راضي وقال: خلاص يا جماعة كل واحد يروح بيته وكانت هذه أول ليلة لي في نقطة شرطة الصالحية ورأيت أحلام معزية حيث رأيت الكهنة بملابسهم السوداء يأتونني ويثبتونني على المسيحية وسط جميع جلسات الاستتابة. عندما ذهبت لنقطة الشرطة لم أكن خائفًا لأني رأيت المسيح أمامي ومعي لا نفسي فانشغلت به عن نفسي وعن كل شيء، وهو كوكب الصبح المنير الذي قد صار سراج حياتي في عتمة السجن فلم أنقطع عن الصلاة في باطني وكذلك الترنيم إذ لا يمكن مجابهة الصعاب دون قوة تكمن في الباطن يكون الرب أساسها ومصدرها وسوف نخور إذا اعتمدنا على قوانا نحن لا سمح الله.

 

 وقبل مجيئ المقدم أحمد راضي للقبض عليّ صاحت حفنة من النساء متشحات بالسواد كمن يذهبن لمأتم: ليه تعمل كدة في أمك يا إبراهيم؟ أمك ما تستحقش منك كل ده. ثم دخلت أم هالة تزعق من بعيد إلى أن دخلت الغرفة وتسألهم: هو فين؟ عايز أشوفه. وأخيرًا وقع بصرها على الشخص الذي أثار كل هذه الضجة فاستغربت جدًا وقالت بشيء من القرف: هو ده! وانصرفت. بلغت الأخبار والدي الذي كان يعمل بالأردن في ذلك الوقت ولما ذهب إلى مكتب البريد سأله الناس: هل علمت أن ابنك إبراهيم قد تنصر ودخل المسيحية؟ حزن والدي لهذا حزنًا شديدًا ثم رقد في السرير لأسابيع وكان يمشي في الشوارع بالأردن باكيًا بحرقة طوال الوقت والناس هناك يحاولون أن يخففوا عنه إلى أن كتب لي وطمأنته أني بخير ولا عليه من كلام الناس فعاد له هدوءه بعض الشيء ولكنه هددني أنه سيغدر بي وأنا في غفلة ويقتلني حتى لا يعيش في عار طيلة حياته وبهذا يكون قد غسل عاره بيده، وقد قالت والدتي بمثل ما قال وهددت إنها سوف تقتلني أثناء نومي ولذلك حرصت منذ أن قالت ذلك على أن أغلق باب غرفة نومي بالترباس وصارت عادة ألتزم بها إلى أن فارقت أرض مصر خوفًا على حياتي. ولا ألومها فالمسلمين هددوها بالقتل وأرعبوها كثيرًا وصرخ فيها جارنا سيد أبو زكي لما هجم الناس على بيتنا وقال: فضحتونا يا شيخ؛ فنزلت على وجهها راكعة تستجديه تستعطفه أن يسامحنا وأن لا يقتلها أو يقتلني. ومن يشرب رعبًا بهذه المقدار ممن يدعون أنهم أتباع الدين السمح لا نلومهم على تصرفاتهم الخائفة المرعوبة. وأنا بالتأكيد أحب أمي أكثر من أي إنسان في العالم كله ولكن متى عرفت المسيح فإني أحبه أكثر من نفسي أنا ولا ينبغي أن يفصلني أحد عن محبة المسيح.

 

في اليوم التالي لخروجي من نقطة الشرطة بالصالحية تم ترحيلي إلى مكتب مباحث أمن الدولة بفاقوس في استجواب طويل مع العقيد منصور سرحان لم ينته سوى عند الرابعة عصرًا. وفي أثناء غيابي ذهبت والدتي لسيدة متخصصة في أعمال السحر "الشيخة" وأعطتها علبة عصير مانجو كان قد أتاها لنا صديق مسيحي من شبرا ووالدتي ظنت أن علبة العصير هذه من المؤكد تحمل عمل السحر. يعلمون له "عمل" كي يتحول إلى النصرانية. قالت والدتي للسيدة الساحرة: شوفي لي دي فيها عمل؟ كنت في أثناء ذلك أصلي لأبي السماوي وبإسم المسيح أن يبعد عني كل سوء وأن لا يفصلني أحد عن المسيحية ولا عن محبة المسيح. طلبت والدتي من السيدة الساحرة أن تعمل لي عمل كي أبعد عن طريق المسيحية والتي جلبت علينا كل هذه الاضطهادات حيث كنا نسمع الناس يمرون بالبيت ويقولون: والله العظيم لا نحرق لكم البيت يا مسيحية يا كفرة. أجابت السيدة الساحرة: إبنك كويس وماتخافيش عليه محروس ويكون فوق، وهو اللي هاينتصر على الناس في الآخر. استغربت والدتي من هذا الجواب وقالت لها: إزاي يا ست؟ أجابت الساحرة: أنا شايفة كدة وبا أقول اللي شايفاه. أصرت والدتي على أن تعمل لي الساحرة شيء أي "عمل" فاستجابت لطلبها وعملت ورقة ودستها لي والدتي في زجاجة الكوكا كولا السوداء الشراب وشربتها ولم ألحظ شيء سوى الطعم الماسخ، وكما تعلمت من صاحبي الشبراوي أن أقول دائما عند الأكل والشرب: بإسم يسوع. شربتها ولم أرجع للإسلام ولم يكن لها أي مفعول بل حدث العكس وقد زدت حبًا للمسيح وتعلقت أكثر بالمسيحية وكل ما هو مسيحي فواصلت تلاوة الإنجيل بروح الصلاة والتسبيح لله بقوة بالترانيم. وكما قال الكتاب في رسالة رومية الفصل الثامن: من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ لا سيف الإسلام ولا أعمال سحرهم الهزيلة لأن المسيح يبطل كل أعمال السحر بقوة صليبه دائمًا.

البعض قد يعاتبني ويقول لي: هل تترك دينك لمجرد أنك سمعتهم يقولون لك في المسيحية الله محبة؟ نحن أيضًا ديننا يقول الله محبة. عندها أقول لك إن آية الله محبة هي آية مسيحية صرفة ولا توجد في آية ديانة أخرى في العالم لأنها تعني أن الله يحبني كما أنا، يحبني وأنا خاطيء نجس قذر ويحبني وأنا تائب قديس ومحبته لي لا تتذبذب أو تتوقف على أفعالي بل هي كالشمس والتي لا يسعها إلا أن تشرق على كل البرايا سواء أحسنوا الأفعال أم أساءوا، والله يشرق بشمسه، شمس الحب، في قلوب جميع الناس، الدور هنا دورهم إما أن يستقبلوا هذه المحبة ويستفيدوا منها أو ينغلقوا عنها، وبجميع الأحوال فالشمس سوف تواصل إشراقها لأنها لا يمكن إلا أن تشرق والله لا يمكنه إلا أن يكون أب؛ ومن حيث هو أب فحبه وعطاؤه ولطفه يمتد لكل هذه الخلائق دون محاباة للوجوه. والمحبة لا يجب أن نردها بل نستقبلها وننتعش بها فقط وليس مطلوب منا أن نردها وإلا فلا تكون هي محبةً. الأم تحب رضيعها لا لكي يرد إليها الحب وإنما لأنه لا يسعها سوى أن تحب وتريد أن تدفق حبها بالكامل في هذا الطفل، ثمرة أحشائها. وما هذه إلا صورة مصغرة عن حب الله الذي لا مثيل له في المسيحية، وبالتأكيد لا وجود له إطلاقًا في الإسلام.

وحيث قد صادروا كتبي وأشرطة الكاسيت رجعت البيت ولم أجد الكتاب المقدس وأنا من عادتي أن أبدأ يومي دائما بقراءة الكتاب المقدس مثلما كان يفعل صديقي الأميركي جون في بيتنا. صليت إلى الله. يا رب أنا محتاج لكلامك ولكن ليس عندي كتاب مقدس. هل يرضيك أن أبدأ يومي بدون قراءة الكتاب المقدس؟ وبعد قليل جاء أخي بالطعام للإفطار من عند صبري بتاع الفول وكانت الطعمية ملفوفة في ورقة جورنال وكانت الصفحة الثانية من جريدة وطني وكانت مقالة من أجمل المقالات للبابا شنودة وشعرت أنها أعدت خصيصًا لي وكأنه جاء بشكل غامض للتخفيف عني وسط الضيق وازدانت مقالته المؤثرة بأيات حفظتها فورًا عن ظهر قلب: لا أهملك ولا أتركك، تشدد وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب. شعرت وكأن البابا قد جاء خصيصًا بتدبير من الله ليخفف عني وسط هذه الآلم. كل المقالة كانت عن أيات مثل "لا تخف لأني معك". وفجأة دق الباب أحمد صلاح من أمن الدولة وقال أن منصور بيه يريد رؤيتي فحرقنا الورقة فورًا على وابور الجاز قبل أن يستخدموها دليلاً علينا وسكتت. وفي اليوم التالي وجدت نفس الورقة في الشارع بين بيتنا وبيت عم زكي، مع فارق أن الورقة هذه المرة من الجورنال كانت نقية وليست "مزيتة" كالتي جاءت من مطعم صبري بتاع الفول. قلت لنفسي: كن أذكى منهم يا إبراهيم وخبأ هذه الورقة في مكان لا يصلون إليه، وهل من مكان لتخبئتها أفضل من قلبي شخصيا؟ قال الكتاب: خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطيء إليك. تريد برهان على صحة المسيحية؟ عناية الله أعظم برهان على حضوره، وفي تدخله الفعلي نرى أقوى دليل يفوق العقل والمنطق، وكانت كل هذه تأكيدات يدبرها الله لي بأني أسير في الطريق الصحيح.

ولما جاء عيد الأم كنت فرحانًا وسعيدًا بهذه المناسبة واستعددت لها واشتريت لأمي الفازلين الذي تحبه والفيتامينات وأشياء تتمناها وكنت سعيد أني كان معي المال لشراء كل هذا والخير فائض من الله، فقابلت والدتي هذا الفرح عندي بوجوم وجه وحسرة نفسي وقالت: عيد أم يا إبراهيم؟ أجبتها نعم يا ماما. ثم كررت السؤال: عيد أم يا إبراهيم؟ أجبت نعم يا ماما.. فيه إيه؟ كل سنة وأنتي طيبة.. ياللى ياشيخة بقة نتبسط بعيد الأم. فأجابتني بحرقة وغضب: الابن اللي جبته كان مسلم ومات.. مات خلاص يوم ما بقى مسيحي.. ولو ما رجعتش الإسلام أنا متبرية منك ليوم القيامة. صدمني ردها وردتت بغضب وقلت لها: وأنا متبري منك كمان ليوم القيامة. انخرطت في بكاء وأنا أيضًا بكيت ولكن ماذا أفعل؟ لم يكن أبدًا ترك المسيح خيارًا مطروحًا أمامي. تألمت لأن أمي اعتبرتني ميتًا ثم قلت لنفسي فيما بيني وبين نفسي: ولكن المسيحية دعوة للموت يا إبراهيم فأنت الله قد دعاك لتكون له، لتموت عن الذات كي ما تحيا بحق فيه وتعيش ما قاله الرسول بولس: مع المسيح صلبت، أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ. ثم تذكرت فورًا آية جميلة في المزامير: إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني إليه. هل حقًا تضمني إليك يارب؟ وهل هناك أجمل من ضمة الرب شخصيًا؟ اعتادت والدتي الاستيقاظ مبكرًا عند كل فجر وتنتحب وتنوح وتضرع إلى الله كي ما أرجع للإسلام، وكان ألمها هذا يؤلمني ويمزق نفسي.

وذات مساء رجعت من كلية الأداب بالزقازيق وكلي لهفة لتناول العشاء والاستماع لبرامجي المسيحية المفضلة باللغة الإنكليزية والتعجب والاندهاش يغمرانني: كيف يصادرون كتبي ويحرقون كتابي المقدس والله يدبر كل هذا لي برغم هذه الرقابة المشددة؟ ولكنك يا إلهي لم تخزلني لحظة واحدة بل دائما أتيت وتأتي بالخبز الحي وقت الضيق وتداخلاتك وعنايتك رغم المراقبة تبهرني جدًا. فأجلس وأتعشى وأسمع دروس الإنجيل يوميا من إذاعة حول العالم من أجانيا جوام على الموجة القصيرة. ووسط هذه الغبطة وذاك السرور تصرخ والدتي بأعلى صوتها رغم أني لم أقل شيء ولا يوجد شيء سوى برامج انكليزية: اطلع من البيت يا مسيحي يا ابن الكلب! ثم يزداد الصراخ ومعه تزداد الألفاظ الفجة الجارحة التي لا زلت أذكرها جيدًا متدفقة من فمها. أحاول تهدئتها وأحاول أن أطلب منها أن تمهلني كي ما أنهي دراستي بالجامعة ثم أترك مصر، ومتى تركت مصر فلا رجوع ولا عودة بل انطلاق للأمام! تساءلت: والدتي لا تجيد الانكليزية ولا تعرف حتى أن تكتب اسمها بالعربية فكيف كانت تثور في كل مرة تسمع هذه البرامج الإنكليزية المسيحية؟ وهل يشك أحد في عالم الأرواح وتلك الأرواح التي تثور على روح يسوع المسيح وقوة الصليب؟ كثيرًا ما حاولت السيطرة على الموقف بكل الطرق الممكنة ولكني دائما كنت أبحث عن الملاذ حتى ما أعيش ما أؤمن به ذلك أني قررت أن أكون مسيحي وأعيش مسيحي وأموت مسيحي ولن يفصلني أحد عن صليب المسيح في شيء.

وفيما مضى كنت أستمع للراديو وكنت أتصور نفسي أتكلم عبر الراديو فتحقق لي هذا في أول شهور من مجيئي للولايات المتحدة ودون أي تدبير من جانبي وبهذا وصل صوتي لأماكن ما كانت تخطر على بالي عبر إذاعة صوت الأمل المغامرة السماوية للشرق الأوسط في جنوب لبنان فجاءت الرسائل وانهالت من لبنان ومصر وتونس والمغرب والسعودية واليمن وسائر جميع بلاد الوطن العربي الحبيب وأيضا من بلاد لم تخطر ببال فعلمت أن الرب هو من يدبر خدمتي وخططه أفضل مما قد يخطر ببالي. جاءني الإنجيل من إذاعة في أميركا بانالانكليزية فذهبت لمكتب البريد بالصالحية كي ما أحضره فأوسعني وكيل البريد محمد كمال اللق ضربًا مبرحًا وشتمني واتهمني بالصهيونية والخيانة للإسلام، ولكن هذا الضرب وكل هذا الألم والعذاب زاد من إيماني وتمسكي بالمسيحية. وما ذنب محمد كمال؟ إنه يسكنه روح شرير معادي للمسيح والشيطان معروف عنه أنه يكره الصليب، ولذا يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون. والمخابرات العامة أيضا وصلت لي واستخدموا وسائل التعذيب النفسي معي وهددوني بالقتل واتهموني بـ "التخابر مع إذاعات أجنبية"، ويبدون أنهم يعيشون في دور الوهم وقصص رأفت الهجان.

المخابرات العامة في الزقازيق. في شتاء عام ١٩٨٧ اصطحبني مجموعة من الرجال من على مدرجات كلية الأداب بالزقازيق إلى عمارة وبها شقة وعندما دخلتها اتضح لي إنها مكتب المخابرات العامة بالزقازيق. كان يهمهم كثيرًا أمر تحولي للمسيحية وأرادوا إرجاعي للإسلام شئت أم أبيت. العميد بدر سألني: أنت طاهر؟ أجبت نعم أنا طاهر يا فندم. فأقبض على يدي وشدها ووضعها على المصحف وأمرني أن أقول وراءه: أقسم بالله العظيم وبكتابه العظيم أن لا أبوح بأي سر من أسرار المخابرات العامة. منذ ذلك الحين وأنا أتساءل: ما هي أسرار المخابرات العامة التي أجبروني على قسم الولاء عليها وعلى كتاب المسلمين الذي لم أؤمن به من قلبي مثقال ذرة؟ وهل حقًا لمخابرات مصر أسرار؟ أليست الـ سي آي إيه مالكة أسرارهم وولية أمرهم؟ ومن هنا يتحدث عن العمالة؟! ومع مضي هذا الزمن السحيق أتذكر العميد بدر بابتسامة.. يا ترى أنت فين يا بدر؟ بالطبع أثناء ذلك الوقت كنت أحرص على السرية التامة والكتمان حتى لا تكثر المتاعب وعليه قمت بتحويل المطبخ في بيتنا لغرفة صلاة ودارسة الإنجيل والترنيم وسلواني الكتاب المقدس وخاصة سفر المزامير وإشعيا ورسائل القديس بولس لمؤمني كورنثوس. حرصت على أن أحفظ المزمور الواحد والتسعين وأن أكرره كلما شعرت بالخطر وبهذا أعلن حماية الله على حياتي وكثيرًا ما ناجيت الله بآية وجدتها في رواية "روبنسون كروسو" لـ دانيال دوفو تقول: ادعني في يوم الضيق فأنقذك فتمجدني.

وبعد خمس سنوات من الانتظار في أرق وقلق جاءتني فرصة للسفر لأميركا على فيزا طالب وحصلت على ماجستير لاهوت وبدأت حياة جديدة فيها خسرت الوطن ولكن في هذا تعلمت أن الوطن ليس مكان وإنما إلهي هو وطني وهو يستوطن قلبي وانطلقت أتكلم بحرية عن أمجاد المسيح ورقي المسيحية وجمالها بكل صورة أتيحت لي إما كتابة أو من خلال برامج الراديو أو في اللقاءات الجامعية أو في تدريب أهل الكنائس على تبشير المسلمين، وهل من تبشير أفضل من أن نصبح نحن الإنجيل الحي الذي معه يتلامسون فيتلامسون الحياة الجميلة مع إلهنا الحي الذي لا ينقطع عن تحريك قلوبنا إليه فنتعمق فيه ونتأصل ويكون هو حياتنا وكل عالمنا، الأزل الحاضر.

الآن أنا في وضع جديد، ابن لا عبد؛ خالقيّ الذي أعبد ولا معبود في حياتي سواه هو أبي. أقترب منه في شوق المناجاة الحارّ صارخًا بالروح "يا أبا الآب". أتقدم منه بروح البنوة لا العبودية، بثقةٍ لا خوف. روح البنوة تعني أني بنته/ ابنه وأقدر أن أتي إليه وأمامه أركع وأصلي دون أن يرفسني صارخًا "ابعدي عني فأنتِ نجسة"؛ بل لا شيء، ومهما فعلت، يفصلني عن حبه؛ ولأني بنت/ ابن له فـ صكّ البنوة بيده هو لا بيدي أنا، وبنوّتي له تعني وضعي أنا فيه أي مكانتي عنده، وكل هذا يتقرر بحقيقة كياني فيه؛ وليس بكم أنا جميل في ذاتي أو قبيح بأفعالي. 

قد يقول البعض إني خسرت محمد وخسرت الإسلام وغيري يكسب المسيح ويربح محمد. والحقيقة أني الآن كمسيحي أؤمن بشيء اسمه "العهد" والذي يبدأ بالله. وعندما نقول "العهد" فنحن نتحدث عن "قصة الله" شخصيا وهو يصمم التاريخ البشري وله "خطة" في هذا التاريخ. هذه الخطة هي أن يستعلن ذاته لهم عبر مراحل وأحقاب زمنية وبشكل متدرج. لذلك نقول إله إبراهيم وإسحق ويعقوب إذ هو يقطع معهم العهد من جيل إلى جيل ويستمر. وفي وقت معين العهد يبلغ ذروته ويحصل له "تتويج" وهذا الوقت نسميه بـ "ملء الزمان" وهذا الملء للزمان أي اكتماله تمام البدر يحصل بمجيء المسيح، المسيّا المنتظر، مشتهى الأجيال؛ ومتى جاء المسيا لم تعد هناك أي حاجة لنبي آخر يأتي من بعده؛ فما بالك بمحمد وما يمثله من انتكاسة في تاريخ الوعي الإنساني! قال صديق صيني عجبته قصة دخولي المسيحية لأستاذه الأميركي الذي يدرس له بالجامعة: إبراهيم اختار إنه يقول: لا داعي للشموع بعد هذا الليل الطويل لأن هذه الشموع أدت وظيفتها وانتهى دورها والنهار الآن قد طلع. ابن الله ظهر بمجد عظيم وأشرق للمسكونة كلها. الشعب الساكن في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا؛ وهذا النور العظيم هو ما طلع على البشرية كلها في ملء الزمان بظهور المسيح ابن الله الحي. الشموع التي استخدمناها طوال الليل لم يعد هناك من داعي لها. المسيح جاء ولا داعي لشيء آخر بعده. وعلى الصليب قال سيدي وحبيبي: أُكمل. أي قد تم الآن. كل شيء بلغ التمام. قد قضى ديني كله الحمل، حينما مات كذا قال قد كمل.

البعض منكم قد يعاتبني على اختيار طريق الصليب ويسأل: اشمعنى بس المسيحية يا حزين! تمشي في طريق المسيحية هايموتوك. أليس المطلوب ديانة تعلمك طريق الفضيلة والحق والجمال؟ أليس المطلوب ديانة تسمو بأخلاقك وتقول لك اوعى تزني واوعى تسكر؟ (قالت والدتي هذا من قبل، وقال به عبد الناصر عطا الله، وقالت كذلك سيدة مارونية في شارلوت بـ ولاية نورث كارولينا).

وهنا أقول إني ليست مسيحيًا بحثًا عن الفضائل فـ تعاليم لاو تسو حافلة بالفضائل وكذلك أفلاطون وزينون وسائر الفلاسفة الإغريق وحكماء روما القدامي. لا أريد مجرد أن أصبح إنسان "صاحب فضيلة" ولكن أريد إله يطلقني من سجن الذات وعبودية الذات، إله يسكن فيّ بروحه، إله يعطيني طبيعة جديدة تماما لا أن أقوم بإلباس طبيعتي الترابية حفنة من الأخلاقيات والفضائل، وما حاجتنا إلى الترقيع؟ أبحث عن يسوع المحرر؛ الله يحررني ويعتقني من سجن النفس بواسطة يسوع المسيح، وهذا التحرير يقوم به الله شخصيا ولا تقوم به الفلاسفة أو الحكماء الذين أتلذذ بالقراءة لهم. الآن إلهي يحررني ويلبسني طبيعته هو. يصبح الله هدفي وغايتي، وعندما يعمل بروحه في قلبي يُطلِق هو فضائله وأعماله العظيمة في قلبي وتتفجر من باطني ينابيع مياه حية تنبثق منه مباشرة ولا تتأتى نتيجة مجهودي أو مشقة تكبد سُلم الكمال من جانبي. قال الإنجيل اطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم. اجعلوا الله ذاته هدفكم لا الفضائل، وهو سيعطيكم ما هو أكثر من الفضائل. أؤمن بـ يسوع المسيح، وهذا الإيمان يعني بالنسبة لي أني أؤمن إيمان شخصي بـ إله شخصي له وجود ذاتي شخصي ويحدثني وأتحدث إليه، وهذا غير موجود عند أي جماعة دينية من بين أي دين في العالم.

المسيحية ليست حفنة من مباديء نحيا بها وإنما هي قبول الله بذاته وتركه يعمل في حياتنا ويطلق نفوسنا حرة ويظهر مجد البنوة فينا. المسيحية هي حياة التحرير والحرية؛ أن أحياة حرًا من ذاتي، والمباديء الإنسانية لا تحررني من قيود الأنا ولكن الله، القدرة اللامتناهية، بروحه يطلقني حرًا فيه وله وأعيش وفق عمله هو في حياتي عندما يصبح هو أبي وأصبح أنا ابنه. المسيحية تدعوني لأني أصبح ابن أو بنت لله. نعم، بالتأكيد سيصل الناس عامة لمعرفة عامة بالله ولكنها معرفة من طرف الباديء فيه هو الإنسان ولكن في المسيحية الله هنا هو الباديء لأنه إله العهد الذي يقطعه عبر التاريخ ويتتوج هذا العهد بمجيء المسيح ابن الله. وليقولوا ما شاءوا عن المسيحية وما يرونه على أنه تناقض فيكفي أن المسيحية فيها المسيح ومسيحها هو الذي في ضوءه نقرأ النصوص وبعينه نبصر وبقلبه نحس وبدون المسيح لا نقرأ حرف واحد في الإنجيل. نعم، المسيح بشر ونؤكد على إنسانيته التي ترفعنا لمستوى الإنسانية الإلهي، وهو أيضا إعلان شامل وكلي لحقيقة الله بكاملها وهذا الإعلان هو ما نسميه بمصطلح التجسد. إن نظرت في وجه المسيح فأنت تنظر في وجه الله مباشرة وليس وجه أي إنسان لأن المسيح هو أيقونة الله الخالق أي صورته هو، أي كشف تام كامل عنه هو.   يحدثونني عن رسالة المسيح السامية وتعاليمه السامية، وهي حقًا كذلك، ولكني ما جئت للمسيحية بحثًا عن التعاليم أو الرسالة السامية وإنما هناك ما هو أهم وما تمتاز به المسيحية على غيرها ألا وهو حضور الإله الذي يعمل لأجل خلاص الإنسان أي تحريره ووهبه الحياة بأن يفيض هو بنفسه في هذا الإنسان بروحه القدوس، وسواء كثرت التعاليم السامية أم انخفضت فلا يضيرنا من الأمر شيء لأننا نريد إله يحررنا، والمسيح هو من قام بهذا التحرير. في المسيح تم استرداد اعتبار الإنسان وإنسانيته الحقة فلا يعيش فيما بعد لنفسه بل بالحب أي بالله ومن ثم لجميع الناس، وبهذا نضمن حدوث الرقي الإنساني الذي لا مثيل له في مجتمعاتنا.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط