صلاح الساير / Jan 02, 2003

لست عرافا، ولا أجيد قراءة الكف، ولا علاقة لي بالفناجين سوى رشف القهوة ساعات الصباح الأولى. بيد أن أجواء العروبة أمست ملبدة بغيوم ليست كمثل الغيوم التي خبرناها،ولا تشبه الغيمة التي خاطبها هارون الرشيد بقوله: (أمطري حيث شئت فإن خراجك لي) وقت كانت مملكته العربية شاسعة، واسعة، وسيعة، أمينة، مكينة، محصنة، حصينة.

غيوم تتراعد، وكأنها تشير إلى أن المأزق العربي قد نضج واكتملت ملامحه. وأن الشعوب في هذا الجزء من العالم قد انحشرت في عنق زجاجة، وتقف، اليوم، قرب حافة حرب، هي ليست كمثل الحروب.

حرب خاضتها شعوب كثيرة وانتصرت فيها. أما الشعوب التي اختارت التقوقع والانكفاء والتمترس في قبو ذاتها المتورمة، وتهربت من الاستحقاق التاريخي، وفرّت من المواجهة، فإنها اندثرت، وبادت، وأمست أثرا بعد عين.

فعند اكتمال المآزق، والوصول إلى نهاية الدرب المسدودة، وانغلاق الدائرة الجهنمية، تتجلى مقدرة الشعوب على الاستمرار وتجاوز التحديات الحقيقية (الاستثنائية). فإما الحياة، وإما الفناء.

وكل من يقرأ مسيرة البشرية، وتاريخ الممالك، وفناء الثقافات، يدرك أن أصعب المواجهات التي خاضتها الشعوب وأوجعها، هي مواجهة الذات، لا مواجهة الآخر.

فإما مواجهة الذات، وشن الحرب عليها من أجل تخليصها من قيدها الذاتي، وبالتالي تحقيق النجاح. أو التوهم بحصانة الذات التي لا يطالها النقد، وبالتالي الهزال والضمور، والتحول إلى عالم لا يعرفه أحد، ولا يتعامل معه أحد، ولا يتذكره أحد. عالم منسي، موبوء، مقصي، منزو، يقبعه على هامش الحياة، إن بقي على قيدها.

الأمثلة على موت الحضارات واختفاء ثقافاتها واضمحلال شعوبها كثيرة، ولن نتوقف قرب أطلالها الدارسات، بل سنشير إلى الضفة الأخرى، باتجاه الشعوب التي واجهت نفسها بجسارة، وقاومت ذاتها ببسالة، ودخلت الاختبار باقتدار لافت، فنجحت بتقدير.

***

ولنمكث، هنيهة، نضرب الأمثال عسى أن ينطوي المثال على مثيل، فنتوقف عند مرحلة من مراحل تطور الشعب الألماني، حيث يصف أحد المفكرين (المثالية الألمانية) بأنها (نظرية الثورة الفرنسي) وإن أمكن كاتب هذه العجالة التصرف بالعبارة، أقول، إن المثالية الألمانية صناعة فرنسية، أي  (صناعة العدو)  فبعد هزيمة الألمان، واندحار جيوشهم أمام قوات الثورة الفرنسية شرع المفكرون الألمان بمواجهة الذات الألمانية، وساطوها بسياط النقد، والتفكر بضرورة تنظيم المجتمع والدولة على أساسات أخرى تقترب من العقلانية.

الفرنسيون، أيضا، فعلوا ما فعله الألمان، فعندما تجرعت فرنسا أقداح الهزائم مترعة، في نهاية الحروب النابليونية، كانت الهزيمة أحد العوامل المباشرة لتلك الموجة الكبيرة والعاصفة التي تشكلت من المفكرين والفلاسفة والمثقفين والفنانين، في القرن التاسع عشر، الذين أدركوا أن المأزق الوخيم الذي وقعوا فيه كان نتيجة البناء السياسي والاجتماعي والفكري القائم، آنذاك، وسعوا إلى تغييره، حتى أصبحت فرنسا التي نراها اليوم.

ولعله من النافع المفيد التذكير بأن أهم الجامعات ومعاهد الدراسات السياسية والاجتماعية في أوربا، وكذلك أهم النظريات والأفكار والمدارس الفنية والفكرية كانت نتيجة ورطات كبرى انحشرت في عنق زجاجتها الشعوب، فكان للسقوط دوي أذهل المفكرين والمثقفين والفنانين، جعلهم يتساءلون عن جدوى العقل القائم الذي قادهم إلى الانحطاط.

***

أعود وأشير إلى الغيوم الملبدة في سماوات المجتمعات العربية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وأصفها بأنها نذر شر، تستوجب على العرب حسن القراءة، وتستدعي صلابة فكرية، وجسارة نفسية، لم نخبرها من قبل، إلا لدى الندرة النادرة من المفكرين العرب الذين هم، اليوم، إما خائف، أو خجول، أو قنوط، أو طريد شريد.

غيوم لها رعدة تشير إلى أننا نتجه إلى منعطف تاريخي، كما نجم هوى، فنكون بين خيارين، اثنين، إما الاختفاء من الخريطة الحضارية للعالم، أو خوض هذه الحرب الضروس، شريطة اعتبارها أكبر، وأعظم، وأقدس، وأوجع، وأول حرب حقيقية نخوضها، نحن العرب، بعد الفتوحات العربية الكبرى في صدر الدولة الإسلامية.

إن الحرب ضد الذات والقدرة على تفكيك العقل الجمعي والذهنية السائدة ليست بدعة، أو ابتكارا جديدا، أو وصمة عار منقوشة على الجبين العربي، بل اختبار تاريخي خاضته، قبلنا، الشعوب الحية فاستحقت الحياة الكريمة، وتهربت منه شعوب أخرى، تتوهم بأن ثقافتها فوق النقد، وأرقى من المراجعة، فاختفت من المشهد الحضاري، ولم يتبقّ منها سوى شلو أو أشلاء محفوظة في متحف.

هل أقول إننا أمام استحقاق تاريخي يدعونا للبدء بانتفاضة عربية، أو غضبة مضرية، نتنادى فيها لحرب لم يخض غمارها أجدادنا الذين تعرفهم البيداء والرمح. حرب بلا صهيل خيل، بلا صليل سيوف، ولا قرقعة دروع، حرب لا أوار لها، ولا غبار يثور تحت سنابك الخيل فيها. حرب لا رايات فيها تنعقد لألوية في الثغور.

حرب مقدسة يتوجب شنها ضد الذات، متى ما أردنا الحياة ومشاركة البشرية هموم هذا الكوكب الذي نعيش فيه وعليه. حرب عربية ـ عربية.

حرب يخوضها العرب ضد الذات العربية من أجل تخليصها من ذاتها.

حرب، بلا بارود، ميدانها العقول والأفئدة والصدور والوجدان.

حرب ضد الأنا الوارمة، المنتفخة، المتفاخمة، الواهمة، التي تملك، باقتدار عجيب، أن تتجاهل واقعا يغط بالجهل، والسكونية، والأمية، والفقر، والتخلف، والتبعية السياسية، والفاقة الاقتصادية غير أن وجدانها الجمعي، يؤمن، باللحظة ذاتها، بقول الشاعر:

وإذا بلغ الرضيع منا فطاما    تخر له الجبابرة ساجدينا

 

إنها ذهنية عربية تجهل وتتجاهل واقعا رديئا، وبيئا، قميئا.

واقع عربي يعدد بعض مظاهره أحد المفكرين العرب، على النحو التالي (ازدياد المواقف القائمة على ردود الأفعال، والتطرف الفارغ، وضيق الأفق، والحيرة، واليأس، وتدهور المناخ الفكري، وعودة الظواهر الطائفية والعشائرية، وانحطاط الممارسة السياسية، حيث يصبح تهوّر المغامرين إقداما وقوة، وتصبح قناعة الجاهلين منبعا للعرفان)

واقع عربي أفرزته ذهنية مسحورة، عمياء، لا بصر لها ولا بصيرة، تلفيقية لا ثبات للمنطق فيها، ترى ما تود أن تراه، لا ما يتراءى للعيان، وتبصره الأبصار، وتلمسه البصائر.

ذهنية تذكرنا بالثري التركي الخامل، الكسول والمتعجرف الذي فقد ماله وسلطته وهيبته الماضية، ورفض الاعتراف بالواقع الجديد المنحط، في الوقت الذي رفض فيه الجد والاجتهاد والعمل، وارتضى التسول على الطرقات، وهو يقول للمارة (حسنة وأنا سيدك) فيطلب من الآخرين الإحسان بما تجود به أنفسهم، وفي اللحظة ذاتها، يزعم أنه هو السيد (!!).

فنحن، والشواهد كثر، لا نعترف بالجهل الضارب في بيئاتنا العربية، ولا نلتفت للأمية في مجتمعاتنا، ولا التخلف، ولا ضعف أساسات المجتمع المدني وانطواء مؤسساته. نتجاهل الفساد، والتسلط، والتبعية، وحاجتنا الماسة إلى الغرب، واعتمادنا الكلي عليه. نتجاهل كل ذلك ونطلب من الآخرين العون كل صباح، لنشتمهم في المساء والسهرة (!!).

مفارقة كريهة تحدث بسبب الذهنية المريضة القادرة على حجب الواقع، وإنكاره، وفرض حال ملفقة في الأذهان تدفعنا، بقوة، للاختلاف مع أنفسنا، والاختلاف مع الآخر.

ذهنية هروبية، عاجزة عن مواجهة الذات، وعاجزة عن الاعتماد على الذات، لكنها موهوبة بالبكاء وتعليق مشاكلها على مشاجب الآخرين. تحتاج إلى  الآخر وترفضه في آن، تحب وتكره، بازدواجية لافتة.

ذهنية منكوبة، جنائزية، يحكمها الإحساس بالنكبة، وغروب المجد الأندلسي الغابر. تنوح على ماض تولى. تتناسى أنها سلبت من الآخرين أشياء كثرا، لكنها تكره(الآخر) الذي سلبها مجد الماضي فتجعل منه شيطانا أكبر، ومصدرا دائما للشرور. فلا هي قادرة على التخلص من عذاباتها الجوّانيّة، ولا هي قادرة على مقارعة الآخر البرّاني، أو الاستغناء عنه.

***

إن تجارب المجتمعات البشرية وتاريخ الدول والممالك يشير إلى أن هذه الذهنية الكربلائية، المتشككة، المتوجسة، المعادية للآخر لا تأخذ بيد أحد إلى النجاح والفلاح. فالكراهية بوابة تفضي إلى الهزيمة، لا إلى النصر، أيّا كان حجم القوة التي يمتلكها المبتلى بهذه الذهنية المتوجسة المعادية التي تقوم على ثقافة الكراهية والانغلاق على الذات والوسوسة.

إنها (فوبيا حضارية) جعلت مؤسس الشيوعية في الصين ماو تسي تونج يحث اتباعه على (الحقد الوطني على الأداء) ومثله فعل لينين في موسكو، وقسم العالم إلى قسمين، أو (فسطاطين) لا فرق!

ففي مدارس الاتحاد السوفييتي غرست الماركسية، بواسطة مناهج التعليم، بذور الحقد في عقول الناشئة، حيث الكتب تؤكد للطلبة الصغار (أن الشعور الوطني السوفييتي يقوم على الحقد الذي لا يعرف أي مصالحة مع أعداء المجتمع الاشتراكي) إنها، وبعبارة أخرى، قسمة سهلة بين دارين، (دار الإيمان) بالاشتراكية، و(دار الكفر) بها!

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، والذي يتراكض في الوجدان: أين انتهى الحقد العقائدي الداعي إلى كراهية الآخر، والمشيّد على دعائم الوسوسة والفوبيا الحضارية؟ وأين انتهت الشيوعية؟ وأي مصير واجهت؟ وكيف انتهى المجتمع الاشتراكي؟ بل وأين ولّى ذلك الاتحاد السوفييتي بأكمله؟

الجواب: إلى زوال.

***

إن عقلا كهذا، تحكمه ذهنية كهذه، لا يملك أسباب الحياة واستمرارها مهما امتلك من عتاد، ومهما أعد ما استطاع من قوة، أو تسلح بسيف مهند، أو رمح رديني، أو دبابة مدرعة. فما بالنا بمصير الضعيف، كمثلنا نحن العرب، الذي لا يملك لا حول ولا قوة سوى الانغلاق والعويل واللطم، وكراهية الآخر، وحقد مذموم يدمدم في الصدور.

أقول، وقد اكتملت ملامح المأزق ورعدة الغيوم، إن الأقوام العربية أمست، اليوم، بحاجة إلى شجاعة عصرية، طازجة، تؤسس لذهنية أخرى غير تلك الذهنية الجنائزية التي أدمنت النوح والبكاء على الأطلال والتفاخر بماض مضى. فنحن بحاجة إلى قلوب مؤمنة بالله، تدرك أن مراجعة الذات (بعكس ما يتوهمه المذعورون) توفر الحماية للهوية الثقافية مثلما توفر المنزلة السامية للعقيدة الدينية المتمثلة بالدين الحنيف.

" ثمة خراب ضروري"، هكذا قال رامبو شاعر فرنسا، وهكذا استجاب الفرنسيون، ومثلهم جميع الشعوب التي تنشد الحياة، حين تنادت مجتمعاتها الحية للجهاد ضد الذات. هكذا فعلت اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهكذا يتوجب علينا أن نفعل نحن.

أن نتنادى للجهاد ضد النفس، ونشرع بخوض حرب بلا أعداء، حرب، نحن، فيها الخصوم والذين يشنون الهجوم. حرب ضد العقل الذي تراكض بنا في كل ميمنة وميسرة، وراء سرابات لا تنتهي حتى أمسينا، في عيون العالم، كالممسوسين الذين خالط السحر أذهانهم.

جهاد جهيد في جبهات حرب يتطلب الانتصار فيها شجاعة لم تتوافر لعنترة، وبسالة لم تكن للزير سالم، وجسارة لم يتحلّ بها أبو زيد الهلالي. حرب جديدة، يشغل فيها ناظر المدرسة، لا أحد سواه، منصب رئيس أركان، والبطل الوطني الذي يدير معركته الحضارية في عقول الناشئة.

حرب ثقافية ضد الذات الثقافية، تعيد صياغة بيت الشعر العربي الأشهر:

السيف أصدق أنباء من الكتب      في حدّه الجد بين الجد واللعب

صياغة أكثر نبلا، وأكثر عقلا، وأكثر اقترابا من روح العصر، فتجعله على النحو التالي (الكتب أصدق أنباء من السيف)

حرب تحرر العقل من عقاله. وتؤسس للمدرسة دورها المطلوب، وتؤسس للفن والرياضة والسياسة والاجتماع وكل مناحي الحياة أدوارا كانت مفقودة، ومبعثرة، وشائهة، لا ملامح واضحة لديها. حرب تعيد الأمور إلى نصابها، والمياه إلى مجاريها، وتعيد للمنطوق منطقه الغائب المغيب.

أما التمسح بالثقافة القديمة، والانكفاء في خندق الذات المتورمة، والدفاع عن الذهنية السائدة، والإصرار على عدم التخلص منها، والتوهم بأنها محصنة ضد النقد، ومواصلة التردد والخوف من دخول الاختبار التاريخي الذي دخلته قبلنا الشعوب الحية، فذلك ـ تالله ـ مصير النجم.. إذا النجم هوى.

******

صلاح الساير، كاتب كويتي، وهذه المقالة التي بعث بها إلينا سبق وأن نشرها في مجلة "العربي" الكويتية في عددها الصادر في ديسمبر 2002

=======================

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط